سامر العيساوي انتصارٌ من نوعٍ آخر

د.مصطفى يوسف اللداوي

د.مصطفى يوسف اللداوي

[email protected]

قامةٌ عظيمة لم تنحنِ، ورأسٌ شامخٌ لم يطأطئ، وعنفوانٌ كبيرٌ لم ينكسر، وإرادةٌ صلبة لم تلن، وعزمٌ جبارٌ لم يضعف، وفلسطينيٌ آخر قرر أن ينتصر رغم ضعفه، وعزم على إرغام سلطات الاحتلال رغم قوتهم، وأجبرهم على التراجع عن سياستهم رغم عنصريتهم.

إنه سامر العيساوي، الفلسطيني المقدسي ابن العيساوية، قاهر الجوع، المنتصر على القمع، والقابض على الجمر، والممسك على الطوى، والمقاوم بالأمعاء، والصامد بالأحشاء، والمقاتل بالأنفاس، الثائر الجديد، والمنتفض العنيد، بجسده النحيل، وعيونه الشاحبة، وقواه الخائرة، وضعفه البادي على جسمه، وكلماته القليلة التي لا تنكاد تبين، ولكنها كانت تشق عنان السماء، وتصدح في كل الدنيا، فتصغي لها كل الآذان.

سامر العيساوي، اسمٌ بات يعرفه الجميع، ويحفظه الإسرائيليون كما العرب، وتذكره المؤسسات الدولية والمنظمات الحقوقية والإنسانية، فقد دخل موسوعة غينتس للأرقام القياسية، كصاحب أطول إضرابٍ عن الطعام في السجون والمعتقلات، ولم يأبه بالموت الذي ينتظره، ولا بالشهادة التي يتمناها، بل مضى رغم ضعفه كالطود الشامخ، وكالجبل الأشم، يخوض غمار حربٍ، ويخترق صفوف عدوٍ، لا يحمل سيفاً، ولا يضع على كتفه بندقية، ولكنه يملك قلباً جسوراً، وعقلاً راسخاً، وإيماناً بالحق لا يلين.

ظنوه سيموت وسينتهي، وسيفارق الحياة غير مأسوفٍ عليه، ولكنه كان يعلم أنه سيبقى، شهيداً خالداً، أو رمزاً أبداً، حياً أو ميتاً، فهو لم يقاتل من أجل حريته، ولم يراهن على حياته من أجل مستقبله، ولم يكن يفكر فقط في العودة إلى أهله، بل قاتل بجسده لحماية إخوانه، والدفاع عن حقوقهم، لئلا يفكر الإسرائيليون في تكرار الحادثة مع غيره، فصمد ولم يفاوض، وثبت ولم يساوم، ووقف ولم يركع، وصدح بصوته ولم يسكت، فهابه الإسرائيليون، وخافوا من صوته الواهن الذي لم يعيد يبين، ومن مشيته التي لم يعد يستطيعها، وحركته التي أصبحت عليه مستحيلة، بعد أن لم تجد كل محاولات تركيعه باعتقال أفراد أسرته، أو التضييق عليهم، وهدم منزلهم، ولا غيرها من الاجراءات والممارسات التي لا يقوى على احتمالها الأصحاء.

ليس أعظمَ من رجلٍ يصنع خاتمته بنفسه، ويقرر مصيره بذاته، ويعرف أين تقوده خطواته، وقد بدت له أهدافه وغاياته، فلا يسمح للعدو أن ينال منه، أو ينتصر عليه، فكان قراره رغم خطورته أن يضحي ليبقى، ويصمد ليكون، وكذا كان عيسى، فقد رسم للعالم كله قصته، وروى لهم حكايته، وأنبأهم عن معاناة شعبه، وبين لهم حال إخوانه في السجون والمعتقلات، مسلطاً الضوء على ظروفهم القاسية، وسياسات سلطات الاحتلال العنصرية، المخالفة لكل القوانين، والمنافية لكل الأعراف، وقد أصغى له العالم وسمع، وأقر كلامه وصدق شهادته.

لا نقلل من حجم التأييد الشعبي والنصرة العربية والإسلامية لسامر، فقد ناصروه وساندوه، ووقفوا معه وانتصروا له، وتظاهروا من أجله، وتضامنوا في كل العالم مع معاناته، وعقدوا من أجله المؤتمرات والمهرجانات والمسيرات والوقفات، ولكن سامر وقف وحده، وتحدى بمفرده، وقاتل بجسده، واعتمد بعد الله على قدرته على الثبات والصمود، فما كان المظاهرات الشعبية لتقيم أوده، ولا تقوى مظاهر التضامن على شد صلبه، أو رفع صوته، وما كان للشعارات والخطابات أن تملأ جوفه، أو أن تسكت جوع معدته، وخواء أحشائه، ولكنه علم أنه قويٌ بأمته، ومنتصرٌ بشعبه، وقادرٌ بأهله، وأن أحداً لن يقهر أمةً رجالها يقاومون بأرواحهم، ويقاتلون بأنفاسهم، ويضحون من أجل غيرهم.

هنيئاً للأمة حرية سامر، هنئياً لهم عودته الميمونة، وحريته المظفرة، وانتصاره المدوي، فقد نجح في تحطيم الأغلال، وكسر القيود، وفتح أبواب الزنازين الصدئة، وقهر أوامر جلاوزة الاحتلال القاسية، وها هي فلسطين كلها قد خرجت له عن بكرة أبيها، به تحتفي، وله تحتفل، وقد ازدانت برجالها ونسائها، وأطفالها وشبابها، وقد رأى الجميع أنه قد حقق من خلاله نصراً، ووصل بثباته إلى الغاية المنشودة، إنهم اليوم بك يا سامر يرفعون الرأس، وبك يباهون ويفاخرون، فأنت ابنهم، وصانع مجدهم، وهازم عدوهم، وقاهر سجانهم، ورمز صمودهم، وعنوان ثباتهم.

265 يوماً هي عمر نضالك يا سامر، وأيام صمودك، قد أثبت فيها أنك الأقوى والأقدر، وأنك الأثبت والأكثر وعياً، وأنك تستحق الحياة بشرفٍ، وتستأهل الحرية بإباءٍ وشمم، اليوم تنسى معاناتك وأنت في بيتك، بين أهلك ووسط أصحابك، وفي بلدتك وبالقرب من قدسك، وأنت تقبل يد أمك وتسكن حضنها، وتعانق أختك، وتصافح أشقاءك، هنيئاً لنا سامر حريتك، وإن وطناً يسكن قلوب أمثالك من الرجال، يستحق التضحية بالمال والنفس، لهو جديرٌ بالحرية، وخليق بالتحرير والعودة.

إنه الإنسان الفلسطيني الذي ظنوه ضعيفاً، يائساً محبطاً، وأنه يفرط في حقه، ويتنازل عن وطنه، وعلى استعداد للمساومة والمفاوضة عليه، ولكنهم ما علموا أنه عنيدٌ صلبٌ لا يفرط، وأنه لا يلين ولا يستسلم، وأنه على استعداد للقتال حتى آخر نفس، والتضحية بآخر قطرةٍ من دمٍ تبقى في الجسد، ولو أن أرواحهم نزعت من أجسادهم نفساً نفساً ما فرطوا في حقوقهم، ولا تخلوا عن أرضهم، إنهم اخوانك يا سامر، ورفاق دربك، وأبناء شعبك، فارفع الرأس بهم مفاخراً، وواصل من أجلهم وفي سبيلهم مضحياً.