سيد الكلام في هجر "اللولوة والولولة"
من سيد الكلام، ومن غرر قوله عليه الصلاة والسلام، ومن جميل ما رواه لنا الذين رووا عن الرسول، فأوصلوا إلينا هذه العلم الجميل، وهذه الحكمة المنيفة الشريفة، ما رواه سيدنا أبو هريرة رضي الله عنه، خصوا سيدنا أبا هريرة بمزيد تحية وتعظيم، فقد أكثر فيه الطاعنون الشانئون، وخرجه لنا الإمام مسلم، رحمه الله تعالى ورب متكئ على أريكته يقول: وما البخاري؟ وما مسلم؟ وما الترمذي؟ وما النسائي؟ من جميل ما أخرجه الإمام مسلم في تربية المسلم:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " الْمُؤْمِنُ الْقَوِىُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ.
وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ .
احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ .
وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلاَ تَعْجِزْ.
وَإِنْ أَصَابَكَ شَيءٌ فَلاَ تَقُلْ لَوْ أَنِّى فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا.
وَلَكِنْ قُلْ قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ.
فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ " .
وصدق رسول الله صلى عليه وسلم. حديث مفصل ووضعت في كل سطر جوهرة..
المؤمن القوي خير !! وتسأله القوي في أي شيء ياسيدي رسول الله؟! ويترك لك صاحب جوامع الكلم الأفق مفتوحا، كأنه يقول هذا أفق لا يحد ، القوي في إيمانه، في دينه، في علمه، في عزيمته، في نباهته، في بداهته، في مبادرته. القوي في عقله، في خلقه، وفي جسده، وفي كسبه، وفي ماله..ولو بقينا نعد لما انتهى بنا العد..
وقولنا "المؤمن القوي" نسميه في التصنيف اللغوي، "المعرفة العامة" تنطبق على كل فرد موصوف بهذا الوصف، على عامل الباتون، وعلى زارع الأرض، وعلى عالم الذرة، وعلى حامل مبضع الجراح..كل هؤلاء يمدح سيد البرية فيهم أن يجمعوا القوة إلى الإيمان..
وهل انتهت الدرر؟؟
ولأن الضعف يكون أحيانا حالة بنيوية، تفرض نفسها على الإنسان فلا يستطيع الخروج منها، تدارك سيد البيان بقوله "وفي كل خير" تسلية لمثلي من الضعفاء، شحذَ همتَنا وأعلى مطلبنا، ودفعنا إلى العليا ثم رحم ضعفنا فواسانا. وفي كل خير كلمة مواساة نواسي بها ضعفنا ونحن نعيش زمن ضعف المسلمين. وهل يضعف الجمع إلا بضعف الأفراد!!
ثم فتح سيد الخلق لنا أفقا آخر توجيها وتعليما:
"احرص على ما ينفعك!!"
في أي شيء يا سيدي يا رسول الله ؟؟ ومرة أخرى كان ترك الأفق مفتوحا. هو أمر متعمد مقصودا هو حلية البيان وجماله وحكمته.، وموضع سره وعقدته. احرص على ما ينفعك في كل شيْ ومن لوازمه أن تميز بين ما ينفعك وبين ما يضرك فلا تخلط .. ثم
احرص على ما ينفعك في دينك وفي دنياك، في يومك وفي غدك، في نفسك وأهلك، في مطعمك ومشربك، في خاصتك وقومك ووطنك، ولو مكثت أعدد الآفاق التي يجب فيها على المسلم أن يكون حريصا على المنفعة لنفسه، وعلى قواعد تعلق المنفعة الخاصة بالعامة، وكيف يضحي المسلم ، حسب قواعد، بالأولى ليميل كفة الثانية، فيستشهد الشهيد، ويضحي صاحب التضحية، ويصبر المتعلم والمعلم ، لكنا نحتاج إلى كتاب خاص عنوانه "احرص على ما ينفعك"
ثم تأتي دفقة النور الثالثة، فالحرص على المنفعة، وتحقيقها يقتضي مواجهة الصعاب والتحديات. ولا بد في هذه الحياة من مواجهة الأشواك والصخور والموانع والمهددات..
يقدم لنا سيد الخلق مفتاحا نفسيا نستحضره دائما في مواقف المغالبة. واستعن بالله ولا تعجز . وأمام كل صعب وعسير ومغلق لا تجعل شعورك بالضعف يغلبك بل استشعر دائما أن الله هو معينك، وأنك بقدر ربك وقدرته تقول وتصول وتجول وتقارع وتقاوم..أنت سهم من سهام القدرة فثق بيد الرامي. وهذه الثقة تحول ضعفك قوة، وخوفك شجاعة، وترددك إقداما..
واستعن بالله.. وهي الأخرى أفق مفتوح
على أي شيء يا سيدي يا رسول الله؟؟. استعن بالله على كل شيء ، لتكن وضعيتك دائما وضعية "الجهاز المتصل بالبطارية" لا تخاف فراغ الشحن. واسمع هذا: ليسأل أحدُكم ربه كل شيء، حتى شسع نعله إذا انقطع. والمطلب هو الحضور مع الله في كل أمر. ندخل إلى الطبيب فيقول التشخيص بسيط، وجرعتين من هذا الدواء وكفى، فنحمل الدواء ونهز أكتافنا. وإذا قال التشخيص صعب وطبنا عاجز، تلفتنا وقلنا: يارب ..ويا رب جميلة في كل حال. وهي مع صغير الأمر وجليله أجمل.
ومقابل مطلب الاستعانة بالله يكون النهي عن الشعور بالعجز. ونحن في حضرة السيد الذي كان يكثر من قول "وأعوذ بك من العجز والكسل"
في حياتنا المجتمعية كان جواب كل من يقول "لا أقدر": جرّب ..
استعن بالله ، جرّب ، حاول، اقتحم العقبة في أوائل السور نزلت (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) حض وتحفيز ودفع وتشجيع..
استعن بالله ولا تعجز عنوان في كتاب الحياة. تتربى عليه أجيال..
قال في ختام الوصية الشريفة والدرة المنيفة:
"وَإِنْ أَصَابَكَ شَيءٌ فَلاَ تَقُلْ لَوْ أَنِّى فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا. وَلَكِنْ قُلْ قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ. فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ"
فهو إذ يعلمنا لا يغرر بنا، أبدا، ولا يخدعنا، ولا يكتب لنا صكا على طريقة الذين يكتبون للناس الصكوك. أنت ستدخل معركة وجودك، أنت الفرد..وأنت الجمع..
وفي الطريق إلى الشهد لا بد من إبر النحل، وقد يخيب المسعى، وقد أكون ممن لم يحكم الاجتهاد، وقد أخطو الخطوة ويكون بعدها اللأواء، كل هذا في حساب الاحتمالات مفتوح، وكل هذا في حساب الجدوى يجب أن يكون ملحوظا.. ولكن انعكاسه على نفوسنا وقلوبنا وأرواحنا يجب أن يكون تحت السيطرة دائما..
أنبه نفسي إلى جميل قول سيد الكلام وهو العربي الذي يخاطب قوما عربا، قال "وإن أصابك شيء" !! ولم يقل وإذا!! وأعجب قال "وإن" تبشيرا وتأميلا وتقليلا من احتمالية المخاطر في الإقدام، "وإن" .. والعرب تقول وإن في الأمر الذي يقل احتماله، ويصعب تحققه، وتقول وإذا في الأمر الذي يغلب احتماله ويتوقعون حدوثه..
فإن أصابك بعد القوة والإحكام والعزم والبرهان شيء مما تكره...فلا تقعد حزينا كاسفا تلعق جراحك، وتلعن قرارك، وتلوم نفسك، وتحك جلدك، ولكن عد دائما إلى نقطة بدايتك، وحقيقتك وقلها ببساطة ويقين "قدّر الله وما شاء فعل" وما دمت عندما تصيب إنما يصيب الله بك، فاعلم أنك عندما تخيب يكون من قدر الله عليك، ليس للاستهانه، ولا لهز الكتفين، ولا للتهرب من المسئولية، ولكن لاستجماع الثقة بالذات، وترك الماضي وراء الظهر، واستشراف المستقبل الجديد على ضوء الواقع الجديد ، والانطلاق إلى الأفق الجديد بعزم جديد..
ولا تقل لو أني فعلت كذا لكان كذا .. فإن لو تفتح عمل الشيطان..
درة في تاج الحكمة العملية في هجر "اللولوة" و"الولولة"
وبقي في نفسي أن أعلم لماذا بعض الناس على ما روى الرواة عن سيدنا رسول الله ينقمون!!
وسوم: العدد 973