صفحاتٌ من الحربِ الروسيةِ الأوكرانيةِ (5 + 6)
صفحاتٌ من الحربِ الروسيةِ الأوكرانيةِ (5)
الوساطةُ الإسرائيلية الأسبابُ والدوافعُ
بدا غريباً جداً قيام حكومة الكيان الصهيوني بمحاولة الوساطة بين روسيا وأوكرانيا، وسعيها لإطفاء نار الحرب المحتدمة بينهما، ووقف جميع العمليات العسكرية بكافة أشكالها، وجمع ممثليهما وعقد لقاءٍ مباشرٍ بين رئيسيهما، للحوار والتفاوض حول أفضل السبل وأسرعها للخروج من الأزمة، وتجاوز المحنة التي قد تكون أوسع وأشد، وقد نافست الحكومة الإسرائيلية، لسببٍ معروفٍ وغايةٍ غير مجهولةٍ، الدولَ الكبرى على هذا الدور الحساس والمهمة الاستراتيجية، واستطاعت أن تجد لنفسها مكانة ًكبيرةً وكلمةً مسموعةً ورأياً يُعْتَدُ به، يُقَدَرُ ويفرضُ.
جهة الغرابة في المساعي الإسرائيلية، التي يبدو أنها قُبلت واستمرت، ولاقت من الأطراف ترحاباً وتقديراً، أنها أظهرت الكيان الصهيوني وكأنه قد اتخذ موقفاً مغايراً لموقف الولايات المتحدة الأمريكية، ومخالفاً لرأي دول الناتو، الذين يرون أن روسيا ورئيسها فلاديمير بوتين قد اعتدت على سيادة أوكرانيا، وأنه ينبغي مقاطعتها ومعاقبتها، وتوريطها ومحاسبتها، في الوقت الذي يجب فيه دعم القيادة الأوكرانية، ومساندة مقاومتها، ومدها بكل ما تحتاج إليه من أسلحةٍ ومعداتٍ، تمكنها من الصمود الثبات، ورد العدوان وإلحاق الهزيمة بروسيا، ولعلها لم تلقَ معارضةً من الإدارة الأمريكية على دورها ووساطتها وحسب، بل ربما نسقت معها دورها، وتكاملت معها جهودها.
الحقيقة التي لا ينبغي أن تغيب عن اذهاننا، أنه لا يوجد اختلاف في الموقف بين الكيان الصهيوني والولايات المتحدة الأمريكية والغرب تجاه الأزمة الأوكرانية، بل إن مصالح الكيان الصهيوني في أوكرانيا دولةً مستقلة وقوية أكثر بكثير من مصالح أمريكا والغرب، فقد أصبحت أوكرانيا التي يرأسها رئيسٌ يهودي، ورئيسُ حكومةٍ وأحد عشر وزيراً آخر يهودٌ، ساحةً هامةً للنفوذ والعمل الاقتصادي والأمني والعسكري، فقد نسج الكيان الصهيوني معها علاقاتٍ استراتيجية، وأنشأ فيها قواعد خاصة، ومدها بالخبراء والمدربين، وزودها بالتقنيات العالية والمسيرات المتطورة، وزودها بمضادات الصواريخ والطيران الحديثة، وأصبح يؤمها ويزورها سنوياً مئات آلاف الإسرائيليين، ومثلهم من الأوكرانيين، اليهود والمسيحيين، الذين دأبوا على زيارة الكيان الصهيوني، عملاً وسياحةً ودعارةً.
أتاحت الحكومة الإسرائيلية للرئيس الأوكراني فرصة إلقاء كلمةٍ أمام أعضاء الكنيست الإسرائيلي، وسهلت نقلها مباشرةً عبر وسائل الإعلام، وعبر وسائل التواصل الاجتماعي وأدوات الإعلام الجديد، وأتاحت لسكان العالم فرصة الاستماع إليها، ولكن هذه الخطوة التي بدت محابية لأوكرانيا، حيث لم تخلُ كلمة الرئيس الأوكراني من اتهاماتٍ وإساءاتٍ لروسيا ورئيسها، وتحريضٍ عليها وطلبٍ من أمريكا ودول العالم دعم بلاده ومساعدتها، ومعاقبة روسيا وحصارها، إلا أنها لم تَحُلْ دون قيام رئيس حكومة الكيان الصهيوني نفتالي بينت بإجراء عدة اتصالات مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، استغرق بعضها أكثر من ساعةٍ، ناقشا خلالها فرص التوصل إلى إنهاء الأزمة ووضع حلولٍ للمخاوف الأمنية الروسية.
بعيداً عن جهود الوساطة الإسرائيلية المعلنة، كانت هناك لقاءاتٌ رسميةٌ منظمةٌ بين مسؤولين إسرائيليين وآخرين روس، لتنسيق قواعد العمل المشترك في سوريا، وضبط احتمالات الاشتباك والتصادم فيها، فالكيان الصهيوني يريد من مسعاه أن تبقى يده طليقة في السماء والأرض السورية، يعبث فيها كيف يشاء، يقصف بحريةٍ أهدافاً سورية وغيرها، يقتل ويدمر ويخربُ دون أن يجد عقباتٍ أو معارضة روسية لغاراته، لعلمه التام أنه لن يستطيع ممارسة عدوانه في سوريا في حال قررت موسكو منعه، أو قامت بتفعيل مضادتها وتصدت لغاراته وأسقطت طائراته ودمرت في السماء صواريخه.
يبدو أن الحكومة الإسرائيلية أصبحت مضطرة عملياً ورسمياً للوقوف على الحياد في الحرب الروسية الأوكرانية، وقررت أن تمتنع عن انتقاد موسكو أو المشاركة في فرض عقوباتٍ عليها، حرصاً على مصالحها، وحفاظاً على حرية عملها العدواني، وتؤيدها في ذلك الإدارة الأمريكية وبريطانيا، وربما غيرهما من دول أوروبا، الذين غضوا الطرف عن السلوك الإسرائيلي وقبلوا بدورها ووساطتها وحيادها الشكلي، لتتمكن من تمرير سياستهم المشتركة في ضرب سوريا واستهداف جيشها ومقراتها ومقدراتها.
وعليه فقد نرى في الأيام القليلة القادمة نتائج هذه الوساطة، وحقيقة الثمن الذي تقاضاه الكيان الصهيوني نتيجةً لهذا الموقف أجراً لحياده المزعوم ووساطته الكاذبة، وفهماً حقيقياً للأسباب والدوافع التي جعلته يتخلى عن دولةٍ نصف قيادتها من اليهود، وكثير من شعبها منهم، وكل أرضها مستباحةً لهم وسوقاً لخبرائهم وحقلاً لتجاربهم، فهذا العدو لا يعطي إلا إذا أخذ، ولا يلتزم بالعهد إلا إذا استفاد، ولا يسعى بالخير بين الفرقاء إلا لمنافعه، ولا يصلح بين المتخاصمين إلا لتحقيق مآربه، فاحذروه إن تحرك، وشِكِّوا فيه إن سكن، وانتبهوا منه إن نطق أو صمت.
صفحاتٌ من الحربِ الروسيةِ الأوكرانيةِ (6)
القتلةُ المأجورون والمرتزقةُ المجرمون
يبدو أن الحرب الروسية الأوكرانية التي مضى على اندلاعها شهرٌ ستطولُ أكثر، وستتسع دائرتها لتشمل كل الأراضي الأوكرانية، وستشارك فيها دولٌ بالوكالة ومنظماتٌ بالأصالة، وستختلطُ فيها الجيوش الوطنية مع المقاتلين الأجانب، والشركات الأمنية مع متعاقدي القتال والحروب، وسيشترك فيها مقاتلون من دول الجوار مع مقاتلين مدعومين من أمريكا ودول أوروبا، في محاولةٍ مكشوفةٍ لتوريط القوات الروسية، وإغراقها في المستنقع الأوكراني، واستنزاف قوتها وتدمير اقتصادها وإحباط مخططاتها، ولست هنا حزيناً على تورطها ولا سعيداً بالجهود الخبيثة لتوريطها، ولكنني أشخص الحالة وأستعرض الأحداث التي قد تتشابه مع غيرها في التاريخ القريب وتلك التي ما زلنا نشهدها ونعاني منها.
دخلت القوات الروسية إلى الأراضي الأوكرانية وحدها، واجتاحت أطرافها وقلبها، وحاصرت مدنها وعاصمتها، وقصفتها من أراضيها ومن عرض البحار، فيما أعلنت دول الجوار الروسي استعدادها للقتال إلى جانب القوات الروسية، في حال طلبت منها القيادة الروسية المساعدة والتدخل، وقد استعدت قواتها للمهمة وتهيأت لها، وأبدت جاهزيتها للمشاركة في الهجوم والعمليات القتالية، رغم أن الجيش الروسي ليس بحاجةٍ لهم، وهو لم يستخدم بعدُ كامل قوته في الحرب، ولكنه قد يحتاج خلال المراحل التالية إلى قواتٍ بريةٍ، في حال طال الحصار وتحول القتال إلى حرب عصاباتٍ وشوارع.
إلا أن أوكرانيا التي أعلنت التعبئة العامة في جيشها، ومنعت الذكور من سن 18 وحتى 60 عاماً من مغادرة الأراضي الأوكرانية، وألزمتهم بوضع أنفسهم تحت إمرة الجيش وقيادة المقاومة الأوكرانية، فتحت الأبواب واسعةً ومعها الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبا عامةً وبولندا خاصةً، لكل من يرغب في قتال الروس ومقاومتهم، وسهلت لهم دول الجوار الدخول إلى الأراضي الأوكرانية، وزودتهم بمختلف الأسلحة التي تلزمهم، وسمحت لمشاهير القناصة والمقاتلين الأجانب، والمجرمين والمنحرفين وقطاع الطرق ومرتزقة الحروب، بالعبور إلى أوكرانيا لممارسة هواية القتل، وقد جاء بعضهم طلباً للمال وسعياً وراء الكسب والثراء، بينما التحق غيرهم بجبهات القتال كرهاً في روسيا وحقداً على نظامها وأملاً في هزيمته وإسقاطه.
إنها ذات المهمة القذرة التي قامت بها أمريكا وبريطانيا وحلفائهما، عندما خلقوا في بلادنا داعش وغيرها، وزرعوا في أوطاننا الفتن وفجروا فيها الصراعات، وأدخلوا في أوطاننا كل الفاسدين والقتلة، والمأجورين والسفلة، وأغرقوا شعوبنا في أتون الحرب ومستنقعات الظلام، ودمروا بلادنا وخربوا أوطاننا وسمموا أحلامنا، وشردوا أهلنا وشتتوا شعوبنا، وحققوا ما كانوا يرجون ويتمنون.
إنها أفكار ومخططات الفيلسوف الملياردير الصهيوني برنار هنري ليفي، الذي كان له أكبر الدور في تدمير بلادنا العربية وتخريبها، إذ نقل الحرب عمداً كشعلةٍ من بلدٍ إلى آخر، ونجح في إقناع أمريكا ودول الناتو بالتدخل العسكري في ليبيا، ومن قبل بالتدخل الأمني والمالي والمعلوماتي في مصر وتونس وسوريا، وشجع على تجنيد المرتزقة وإدخال المقاتلين الأجانب، مما أدخل بلادنا العربية في حروبٍ أهليةٍ لم تنته حتى اليوم.
إنه نفسه الشيطان برنار هنري ليفي، الذي سبق له أن زار أوكرانيا، ونفخ فيها ضد روسيا، وأطلق من عاصمتها كييف تصريحاتٍ شديدة اللهجة ضد موسكو، اتهم فيها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالعدوانية، ونعته بأقسى الصفات وأقذعها، يخطط اليوم لتحويل أوكرانيا إلى ساحة حرب وميدان قتال، يجمع فيها كل من يستطيع من المقاتلين الأجانب والمرتزقة المأجورين، تماماً كما حدث في بلادنا العربية، وتساعده في ذلك الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، علَّها تحقق بذلك أكثر من هدفٍ وغايةٍ، وقد بدأت أفواجٌ من المقاتلين المرتزقة تصل إلى أوكرانيا من أمريكا وكندا وغيرهما.
أظن أننا ما زلنا في بداية الحرب رغم مرور شهرٍ على اندلاعها، ورغم أن المعارك الجارية معاركٌ ضارية وموجعة، إلا أن القادم سيكون أسوأ وأخطر، وأبشع وأقذر، ذلك أن الحروب التي يخوضها الأجانب ويقاتل فيها المرتزقة غالباً ما تكون حروباً قذرةً، لا مكان فيها للقيم والأخلاق، ولا لقواعد الحروب وقوانين القتال.
المرتزقة الذين لا يربطهم بالأرض التي تدور فيها المعارك روابط وطنية ووشائج قومية، لا يبالون بالإنسان، ولا يخافون على الوطن، ولا يترددون في ارتكاب المجازر والمذابح، وستفتح أمامهم الحدود، وستنهال عليهم المساعدات الدولية، وسنجد بين أيديهم أسلحةً فتاكةً مميتةً، تقتل وتدمر وتخرب، مما سيطيل أمد الحرب، ولن يكون الخاسر فيها غير الأوكرانيين، الذين صدقوا أمريكا واتبعوا شيطانها المريد، رئيسها بايدن وفيلسوف الحروب الأهلية برنار ليفي.