القياس الشِّعري
ليس ما تبدو عليه الأفكار الشِّعريَّة من تحديدٍ أحيانًا بسِوَى تأثير نغمات الشِّعر وإيقاعاته في نزعات المتلقِّي، التي توجِّهه إلى اصطفاء أفكار معيَّنة من بين عددٍ مائجٍ مبهَمٍ من المعاني الممكنة. ومع هذا فإنَّ اللُّغة الشِّعريَّة تبدو غالبًا أقدر من اللُّغة النثريَّة على وصف الأشياء؛ لأنَّ لغة العِلم تفتقر إلى طاقة الشِّعر في تصوير الظِّلال ونقل الإيحاءات، التي يملك الشاعر السيطرة عليها حتى حينما يكتب نثرًا.(1) على أنَّ درجة اختلاف اللُّغة الشِّعريَّة عن غير الشِّعريَّة تتفاوت من نصٍّ شِعريٍّ إلى آخَر. فإذا كان اختلافها في النصوص (التخييليَّة) ملحوظًا، فإنَّه يتوارَى في النصوص الأقلِّ في تخييليَّتها، كـ(النَّصِّ الحِكْمي)؛ حيث تنتظم جُمَل النَّصِّ فيما بينها بمنطقيَّةٍ ومباشرة. وبذلك يَضْعُف في الأدب الحِكْمي (سِجِلُّ الغياب) في مقابل (سِجِلِّ الحضور)، حسب تصنيفات (تودوروف)(2) لما يسمِّيه بـ«سِجِلَّات الكلام».
إنَّ التجربة الشِّعريَّة تختار في نفس الشاعر لغتها، أو على حدِّ قول (عبدالقاهر الجرجاني)(3): «إنَّك إذا فرغتَ من ترتيب المعاني في نفسك، لم تحتج إلى أن تستأنف فِكْرًا في ترتيب الألفاظ، بل تجدها تترتَّب لك. بحُكم أنَّها خَدَمٌ للمعاني وتابعةٌ لها ولاحقةٌ بها، وأنَّ العِلم بمواقع المعاني في النفس عِلمٌ بمواقع الألفاظ الدالَّة عليها في النُّطق». ولذلك لا يمكن للشاعر أن يُدرِك الأسباب وراء اختياراته؛ لأنْ ليس اختياره وليدَ فِكْر، وإنَّما أساسه إحساسُه الغريزيُّ المجرَّد؛ كي يؤكِّد ذاته أو يتآلف مع آخَر.
إنَّ أمواج التجربة، إذن، هي التي تُملي ألفاظَها على الشاعر- شريطةَ أن تكون تجربته صادقةً لا مصطنعة- فما روعة الشاعر في تنظيم الكلام سِوَى جزءٍ من روعةٍ أكبر في تنظيم تجربته.(4) وهكذا فإنَّ ألفاظ الشاعر تُملي بدَورها أَثَرَها على القارئ، الذي هو محتاجٌ كذلك إلى (كفاءةٍ أدبيَّة)(5)، تقوم على: وَعْيٍ مسبقٍ بطبيعة الخطاب الأدبيِّ عمومًا، ثمَّ إدراكٍ لضربٍ من النحو الداخليِّ للأدب، مع خِبرةٍ بالآليَّات الخاصَّة بالنصِّ الذي يقرأ. ولذلك فإنَّ الأَثَر الذي ينتقل إلى القارئ يقلب مبدأ السببيَّة؛ ليكون سببًا ونتيجةً في آن.(6) من حيث يَغمر القارئَ بتفاعلٍ استجابيٍّ، لا يقلُّ حرارةً وصفاءً ونُبْلًا عمَّا حَدَث في تجربة الشاعر: (أمير الكلام الأوَّل وسيِّد التجربة)، في عمليَّةٍ عجيبةٍ لا مثيل للشِّعر في عُمق التفاعل الناجم عنها.(7) وهو ما اختزل (جميل صدقي الزهاوي)(8) التعبيرَ عنه بقوله:
إذا الشِّعرُ لم يَهْزُزْكَ عندَ سَماعِهِ ::: فليس خَليقًا أنْ يُقالَ لهُ شِعرُ
بَيْدَ أنَّ الهزَّة هاهنا ليست بهزَّة الإيقاع الموسيقي، ولا بهزَّة الطَّرَب الإديولوجيِّ أو الفكريِّ، ولا بهزَّة القارئ غير المدرَّب شِعريًّا، وإنَّما هي هزَّة الإيقاع النفسي- النابع أصلًا من التفاعل الصادق بين شخصيَّة الشاعر وبنية تجربته- عند القارئ الحُجَّة، ذوقًا فنيًّا ووعيًا نقديًّا.(9) ذلك لأنَّ هناك فرقًا بين صِدق القضيَّة العِلْميَّة وصِدق التعبير الشِّعري؛ بما أنَّ صِدق القضيَّة العِلْميَّة يتأتَّى عن طريق التحقيق المختبري، على حين أنَّ الصِّدق الشِّعريَّ ينبني على قبولنا التعبير قبولًا عاطفيًّا لتوافقه مع موقفٍ عاطفيٍّ معيَّن، ومن هناك قبول الموقف العاطفيِّ نفسه الذي تضمَّنه التعبير الشِّعري. والرُّكن في القياس الشِّعري عند (اليونان)، مثلًا- وَفق ما ينسبه (الصَّفَديُّ)(10) إلى (أرسطو)- هو إيراد المقدِّمات المخيِّلة فقط، دون الوزن والقافية، «فإنْ كانت المقدِّمة التي تَرِد في القياس الشِّعريِّ مخيِّلةً فقط، تمحَّض القياس شِعْرِيًّا، وإنْ انضمَّ إلى المقدِّمة قولٌ إقناعيٌّ، تركَّبت المقدِّمة من معنيَين: شِعريٍّ وإقناعيٍّ.» وعليه، فليست وظيفة الشِّعر أن يقرِّر قضايا حقيقيَّةً من الوجهة العِلْميَّة.(11) كما أنَّ السببيَّة الصريحة في الأدب بعامَّة تُؤدِّي غالبًا إلى ضعف الشِّعريَّة؛ لأنَّ الاحتفاظ بسببيَّة ضِمنيَّة تُجبِر القارئَ الضِّمنيَّ على الخضوع للعمل لإعادة إنشائه(12)؛ وفي ذلك واحدٌ من أهمِّ مكامن التفاعل الجماليِّ الدائر بين الشاعر والمتلقِّي حول النصِّ.
ـــــــــــــــــــــــ
(1) يُنظَر: رِتشاردز، أ. أ. I. A. Richards، (د.ت)، العِلْم والشِّعر، ترجمه: مصطفى بدوي، راجعته: سهير القلماوي، (القاهرة: مكتبة الأنجلو المصريَّة)، 30- 31.
(2) يُنظَر: تودوروف، تزفيتان، (1990)، الشِّعريَّة، ترجمة: شكري المبخوت ورجاء بن سلامة، (الدار البيضاء: دار توبقال للنشر)، 31، 38.
(3) (1984)، دلائل الإعجاز، قرأه وعلَّق عليه: أبو فهر محمود محمَّد شاكر، (القاهرة: مكتبة الخانجي)، 54.
(4) يُنظَر: رتشاردز، 46- 48.
(5) See: Culler, Jonathan, (1975), Structuralist Poetics: Structuralism, Linguistics, and the Study of Literature, (London: Routledge & Kegan Paul), 113.
(6) يُقارن:
Culler, Jonathan, (1982), On Deconstruction– Theory and Criticism after Structuralism, (Ithaca, New York: Cornell University Press), 86- 00.
(7) يُنظَر: رتشاردز، 32- 33، 49.
(8) (1924)، ديوان الزهاوي، (مِصْر: المطبعة العَرَبيَّة للزركلي)، 369.
(9) ويُقارن: رتشاردز، 48- 50.
(10) (1305هـ)، الغيث المسجم في شرح لاميَّة العَجَم، (القاهرة: المطبعة الأزهريَّة المِصْريَّة)، 1: 30.
(11) يُنظَر: رتشاردز، 66- 67.
(12) يُنظَر: تودوروف، الشِّعريَّة، 63.
وسوم: العدد 977