أسماء الإشارة في القرآن الكريم
الأسماء العربية إمَّا أن تُطلق على معين كـ«زيد وعمرو» وإما غير معين كـ«رجل وفرس»، والقسم الأول يسميه أهل اللغة «المعرفة»، والقسم الثاني يسميه أهل اللغة «النكرة».
والـمعَارِف لا تقتصر على أسماء الأعلام كـ«زيد وعمرو»، بل تشمل الضمائر كـ«أنت وهو» والمعرَّفَ بأل كـ«الرجل والفرس» والأسماء الموصولة كـ«الذي والتي»، وأسماء الإشارة كـ«ذا - ذهِ - ذان - تان – أولاءِ».
وهذه الأسماء -أعني أسماء الإشارة- قد تقرن بهاء التنبيه إشارة للقرب كـ«هذا – هذه- هذان- هاتان- هؤلاء»، والمقصود بالقرب هنا قرب الزمان كقولك: «هذا وقت الدرس»، أو قرب المكان كقولك: «هذا بيتي»، وقد يُنزَّل منزلة القريب للتحقير والتقليل من الشأن كقول الله تعالى: «وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قالوا ما هذا إلا رجل يريد أن يصدكم عمَّا كان يعبد آباؤكم وقالوا ما هذا إلا إفك مفترى وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم إن هذا إلا سحر مبين» (سبأ: 43) وليس المقصود من استخدام اسم الاشارة «هذا» للقريب في المواضع الثلاثة من الآية الكريمة سوى بيان استخفاف الكفار بالآيات ومن جاء بها.
القريب والبعيد:
وقد تقترن أسماء الإشارة بالكاف للدلالة على البعد فتقول: «ذاك»، وإذا أردت الإشارة إلى الزيادة في البعد زدت اللام فتقول: «ذلك».
والمراد بالبُعد هنا البُعد الزماني كقولك: «عاش الفراعنة في ذلك الزمان الغابر»، وقد يراد البُعد المكاني كقولك «يسكن محمد ذلك المنزل البعيد»، وقد ينُـزَّل القريب منزلة البعيد للتعظيم كقول الله تعالى في سورة البقرة: «ذلك الكتاب لا ريب فيه» (البقرة: 2) وليس المقصود من البُعد هنا البُعد المكاني ولا الزماني بل بُعد المنزلة والقدر، ومِثلُه قول الله تعالى مُخبراً عن يوم القيامة: «إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود» (هود: 103).
والقرآن الكريم حافلٌ بهذا النوع من البلاغة، وقد أفرده بعض الباحثين في مؤلفاتهم. إلا أننا سنرصد أحد تلك الأمثلة التي فيها قدر كبير من التشابه في موضوع الآيات والسياق الذي جاءت فيه، ومع ذلك وقع اختلاف يسير في استعمال اسم الإشارة. وقد أورد هذا المثال ابن الزبير الغرناطي في كتابه «ملاك التأويل» وسعى لاكتشاف وجه البلاغة فيه.
منكم وذلكم:
الآية الأولى وردت في سورة البقرة عند قوله تعالى: «..ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر..» (البقرة: 232)، والآية الثانية في سورة الطلاق: «ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر..» (الطلاق: 2)، وموضوع الآيتين يتعلق بالطلاق وأحكامه. والملاحظ في آية البقرة أن اسم الإشارة «ذلك» جاء بإفراد الخطاب وقال بعدها «منكم» التي تفيد التبعيض. أما آية الطلاق فقد جاء اسم الإشارة بزيادة ميم الجمع «ذلكم» ولم يقل بعدها منكم، فما السرُّ في ذلك؟!
أجاب ابن الزبير عن ذلك بقوله: (ووجه ذلك والله أعلم: أن آية البقرة ترتبت على تصنيف المضرين بالزوجات واحتيالهم على أخذ أموالهن بغير حق، ومن ذلك قوله تعالى: «ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً» وقوله تعالى: «ولا تـُمسكوهن ضراراً لتعتدوا» وجاءت المبالغة في زجرهم في قوله تعالى: «ولا تتخذوا آيات الله هزواً»، ثم نهى سبحانه وتعالى عن عضل النساء وهو من الضرار والاعتداء.
المنهي عنه أبلغ:
والحاصل أن المنهي عنه في سورة البقرة أبلغ في التعدي من الـمُرتكب في سورة الطلاق، وهو تطليقها قبل عدتها وإخراجها من بيتها قبل تمام العدة. ومن المعلوم أن الأمور العويصة يقلُّ سالك طريق النجاة فيها، ومن أجل ذلك أفرد الخطاب في البقرة إشارة لتقليل المستجيبين المتورعين عن أموال الزوجات والإضرار بهن عضلاً أو احتيالاً على ما لديهن، ومما يؤكد ذلك ورود الجار والمجرور «منكم» الذي يحمل معنى التبعيض وأن المستجيبين ليسوا كل المخاطبين.
ولما كان الأمر الوارد في سورة الطلاق أخف وأيسر في التكليف ما يجعل المستجيبين لهذا الخطاب أكثر من المستجيبين لخطاب البقرة، ناسب ورود ميم الجمع مع اسم الإشارة فقيل: «ذلكم» وبعدها «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر» دون حروف التبعيض «منكم»، فَرُوعِيَ في كل من السورتين ما بنيت عليه القصة في الأخرى). انتهى كلامه بتصرف.
من كلام الخالق عز وجل وبلاغة قوله في الذكر الحكيم؛ القرآن الكريم، نغوص في تفاصيل الحروف ونبحر في كمال المعاني، لنرسم لقرائنا الأعزاء أجمل الصور الكتابية على هيئة أسرار ربانية بديعة.
هذه الأسرار التي نستشفها من آيات قرآنية، تجسد بجمال تعابيرها واكتمال معانيها، كل ما لا يستطيعه بشر ولا يقوى عليه مخلوق.
فيها تجد الكلمة الأوفى والصورة الأنقى والإعجاز الأبقى، فيها أيضاً القول الفصل لكلام الخالق ذي الكمال، فليس أبلغ من كلام الله عز وجل قولاً. هو أصدق الحديث كلاً وجزءاً، وهو أوفى فاتحة وأكمل خاتمة، إنه القرآن الكريم الكتاب المحفوظ الذي لا ينقص تلاوة وإبحاراً واستزادة في العلم والنور؛ ولقارئه السرور.
«بديع الأسرار» محطة رمضانية ارتضيناها لكم من أنوارنا «أنوار رمضان»، لنمتع العقول ونقنع القلوب، بكلمات ربانية تتجلى فيها كل المسميات الحصرية؛ فيها الجمال والكمال والمثال، والإيحاء والوفاء والبناء؛ والتمام ختام.
غرض بلاغي
البلاغة في أسماء الإشارة لا تقتصر على مسألة الإفراد والجمع والقرب والبعد، فمن أوجه البلاغة في استخدامها، استخدام اسم الإشارة الذي يأتي مع العاقل في الأمور التي لا تَعْقِل وذلك لغرض بلاغي، ومثال ذلك قوله تعالى: «ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً» (الإسراء36) فاسم الإشارة «أولئك» يستعمل للعاقل، والغرض من استعماله في غير العاقل -وهو السمع والبصر والفؤاد- تنزيل هذه الحواس منزلة العقلاء لأنها تشهد يوم القيامة على أصحابها، وقيل نُزلت منزلة العقلاء لأنها جديرة بذلك إذ هي طريق الفهم والإدراك، والله أعلم.
وسوم: العدد 983