تقديس «الفُرُوع»، وتَهْوين «الأُصُول»
د. محمد عناد سليمان
1
لقد ألزمَ بعض العلماء أنفسهم «لزوم ما لا يلزم»، لنزوة نفس طارئة، أو إعلاءٍ لنفوذ سياسيٍّ ما، فقد وجدت بعض أهل العلم بالعربيَّة يقدِّسون ما سنُّوه من قواعد نحويَّة، ولا يعتدُّون بما خالفها، وإن كان المخالف لها من «القرآن الكريم»، أو من «القراءات القرآنيَّة» المتواترة، وكذلك الأمر عند أهل العلم بالشَّريعة، الذين سلكوا النَّهج ذاته، فقدَّمُوا «الجماعة»، أو «المذهب»، أو «الطَّائفة» ذات الموروث الثَّقافي الدِّيني، على الملَّة الحقيقيَّة التي يجب أن يكون عليها الدِّين، فضلُّوا وأضلُّوا، فانطبق عليهم قول الله عزَّ وجلَّ: «بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ».
ولعل الدَّافع وراء ذلك من كلا الطَّرفين، «أهلِ العربيَّة»، و«أهل الشَّريعة» يكمن في النَّزعة العلميَّة التي كانت سائدة، من الحيازة على لقب «وحيد الدَّهر»، و«فريد العصر، و«العلامة الجامع»، و«العلامة البارع»، وغير ذلك من الأوصاف والألقاب، التي ضيَّعت الهدف الحقيقيّ من البحث العلميّ، والوصول إلى الغاية المنوبة منها في معرفة الحقيقة، وهداية الناس.
والأمثلة على ذلك كثيرة متشعِّبة، وسأقتصر على شواهد يتَّسع لها المقام، والعودة إليها سيحتاج رسالة علميَّة قائمة بذاتها، فالشَّواهد ليست بالقليلة؛ وقد تكون المشكلة أكبر في العلوم الشَّرعيَّة؛ لأنَّ الباحث قد يصل في معرفتها إلى مخالفة كثير من علماء الأمة وجهابذتها، فقد يسارع بعض المتعصِّبين و«المتذمهبين» إلى نبذ المخالف؛ بل قد يصل إلى حدِّ تكفيره عند بعضهم وإخراجه من الملّة، وليت القوم يعلمون الفرق بين «الملَّة» و«الطَّائفة»، و«المذهب» و«الدِّيانة»!!
من ذلك ما ذهب إليه بعضهم من وصف قراءة الأعرج وزيد بن عليّ والأعمش وخارجة عن نافع وابن عامر قوله تعالى: «وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُون» ([1])، بهمز «معائش»([2]) بالغلط، أو الرَّداءة، أو الضّعف، أو الخطأ([3]).
وقال الزّجاج: «جميع نحاة البصرة تزعم أنَّ همزها خطأ، ولا أعرف لها وجهًا، إلا أنَّ لفظ هذه الياء التي من نفس الكلمة أُسكن في «معيشة» فصار على لفظ «صحيفة» فحمل الجمع على ذلك»([4])، «ولا ينبغي التَّعويل على هذه القراءة»([5]). وقال المازني: «فأمَّا قراءة من قرأ من أهل المدينة «معايش» بالهمز فهي خطأ، فلا يُلتفت إليها، وإنَّما أُخذت عن نافع بن أبي نعيم، ولم يكن يدري ما العربيَّة، وله أحرف يقرؤها لحنًا نحوًا من هذا»([6]).
فالمازنيّ يرفض القراءة لمجرَّد أنَّها خالفت القياس، ولا يعتدّ بها، وإن كان قارئها قارئ مدينة الرَّسول صلى الله عليم وسلم نافع؛ بل إنَّه يُشير إلى أنَّ كثيرًا من قراءة هذا الرَّجل الإمام العدل الثِّقة هي لحن يجب ردُّها، ولو انَّ دارسًا يتتبَّع هذه المواضع فيظهرها حقَّ الإظهار.
وقد قال الفرَّاء: «وربَّما همزت العرب هذا وشبهه يتوهّمون أنَّها «فعيلة» لشبهها بوزنها في اللَّفظ وعدَّة الحروف فيشبّهون «مفعلة» بـ«فعيلة»([7]).
وقال الطَّبري: « وربَّما همزت العرب جمع «مَفْعَلَة» في ذوات الياء والواو وإن كان الفصيح من كلامها ترك الهمز فيها، إذا جاءت على «مفاعل» تشبيهًا منهم جمعها بجمع «فعيلة»، كما تشبه «مَفْعلاً» بـ«فَعِيل»([8]).
فهذا نقل من الفرّاء والطَّبري «عن العرب أنَّهم ربَّما يهمزون هذا وشبهه»([9])، ومنه قول الشَّاعر: [الطويل]
مَزَائِدُ خَرْقَاءِ الْيَدَيْنِ مُسِيفَةٍ |
|
أَخَبَّ بِهِنَّ الـمُخْـلِفانِ وأَحْفَدَا([10])للكمبيوتر |
«وجاء به نقل القراءة الثِّقات ابن عامر وهو عربيّ صرَّاح، وقد أخذ القرآن عن عثمان قبل ظهور اللَّحن، والأعرج وهو من كبار قرّاء التَّابعين، وزيد بن عليّ وهو من الفصاحة والعلم بالمكان الذي قلّ أن يدانيه في ذلك أحد، والأعمش وهو من الضَّبط والإتقان والحفظ والثِّقة بمكان، ونافع وهو قد قرأ على سبعين من التَّابعين، وهم من الفصاحة والضَّبط والثِّقة بالمحلّ الذي لا يُجهل، فوجب قبول ما نقلوه إلينا ولا مبالاة بمخالفة نحاة البصرة في مثل هذا. وأمَّا قول المازنيّ: «أصل أخذ هذه القراءة عن نافع» فليس بصحيح؛ لأنَّها نُقلت عن ابن عامر وعن الأعرج وزيد بن عليّ والأعمش. وأمَّا قوله: «إنّ نافعاً لم يكن يدري ما العربيَّة» فشهادة على النَّفي، ولو فرضنا أنَّه لا يدري ما العربيَّة وهي هذه الصِّناعة التي يتوصَّل بها إلى التكلُّم بلسان العرب فهو لا يلزمه ذلك، إذ هو فصيح متكلِّم بالعربيَّة، ناقل للقراءة عن العرب الفصحاء، وكثير من هؤلاء النُّحاة يسيئون الظَّنَّ بالقرّاء ولا يجوز لهم»([11]).
بل إنَّهم لَمَّا وجدوها خالفت القياس المعمول به، والكثير المطَّرِد في كلامهم، وصفوها بذلك، وأمرهم هذا لا يقلُّ عمَّا فعله سيبويه حين وصف قراءة من جمع بين الهمزتين بأنَّه رديء([12]). وهذا غير مقبول منهم، وما ينبغي لهم أن يصفوها بذلك؛ بل الواجب أن تُقبل القراءة على شذوذها، وألا تُوصف بما أطلقوه عليها؛ «لأنَّ القراءة سنَّة متَّبعة، يلزم قبولها والمصير إليها»([13])، ولا يجوز ردُّها، سواء أكانت شاذَّة أم مقيسة.
وما ذكروه من وصف لهذه القراءات إنَّما هي جسارة منهم، لا تليق بحالهم، ولا بطهارة لسانهم، لأنَّهم قد عمدوا إلى قراءة متواترة عن رسول الله صلى الله عليم وسلَّم قرأ بها سلف الأمَّة، واتصلت بأكابر قرَّاء الصَّحابة الذين تلقوا القرآن من في رسول الله صلى الله عليم وسلم عمدوا إليها فوصفوها بمثل هذه الأوصاف([14])، لا لشيء إلا لأنَّها خالفت القياس المعمول به. ومتى كانت القواعد الموضوعة تردُّ القراءة؟ أو تقلِّلُ من شأنها وتصفها بمثل ذلك؟ فالقراءة إن ثبتت فلا «يردُّها قياس عربيَّة، ولا فشوُّ لغة»([15]).
وإنَّما ذكرت هذا وأطلت فيه؛ لئلا يطَّلع غُمْرٌ من النَّاس على كلام المبرد وابن جنِّي وابن يعيش وابن الحاجب وغيرهم في هذه القراءة فيسيء ظنًّا بها وبقارئها، فيقارب أن يقع في الكفر بالطَّعن في ذلك([16])، أمَّا سيبويه فحسبه أنَّه أغفل القراءة؛ لئلا تتعارض وآراءه، وهذه سمته في كثير من المواضع.
فبعض علماء اللُّغة، ومثلهم بعض علماء الدِّين، قد أوهموا أنفسهم بصواب وأصوليَّة قواعدهم، وإن كان «القرآن» يفنِّدها، ويرفضها، كما فعلوا في «جموع التَّكسير»، حيث إنَّ الواقع اللُّغويَّ المستعمل يُشير إلى وجود أبنية لـ«جموع التَّكسير» غير ما ذكروه، وهذا أمر أخر ينهضُ دليلاً قويَّا على عدم استقرائهم لكلَّ ما ورد من هذه الجموع، ففي «القرآن الكريم» وحده اثنان وأربعون بناء لـ«جموع التَّكسير» ([17])، وهو عدد يكاد يكون ضعف ما ذكره الصَّرفيُّون في مصنَّفاتهم، ومن هذه الأبنية الجديدة «فَعَّالة»، و«فِعَالَة»، و«فَعِيل» وغيرها، وأمثلتها على التَّرتيب، قوله تعالى: «وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ» ([18])، وقوله: «قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً» ([19])، وقوله: «وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ» ([20]).
بل إنَّ الاستعمالَ اللُّغويّ لجموع التَّكسير يدلُّ على أنَّ العرب كانوا يُفرِّقون بين الدَّلالات التي يُستعمل فيها الجمع، فإذا ما أرادوا العين الباصرَة مثلاً جمعوها على «أعين»، أمَّا إن قصدوا عين الماء ونحوها فإنَّما جمعوه على «عيون»، ولقد ورد هذان الجمعان في القرآن الكريم، فتكرَّر الأوَّل اثنين وعشرين مرَّة، والثَّاني في عشرة مواضع، ولم يُستعمل أحدهما لمعنى الآخر([21]).
فالقرآن الكريم عمدة وأصل، ولا ينبغي إخضاعه للقواعد الموضوعة، أو إسقاطه تحتها؛ بل أرى أن تستنبط القواعد منه باعتباره الأصل والقاعدة الأمّ.
*******************
2
أوردنا في مقالنا السَّابق بعض الأمثلة عن تعصُّب أهل العلم من العربيَّة بقواعدهم التي وضعوها من تلقاء أنفسهم، وبنائهم على ما كثُّر سماعُه، فما كان موافقًا ومسموعًا كثيرًا فلا مجال لردِّه عندهم، وما كان مسموعًا قليلاً احتاطوا منه، ولجؤوا إلى الاستعمال، أمَّا إن كان غير مسموع، فلا مجال عندهم لقبوله، وإن كان موافقًا للقياس، مِمَّا يدلُّ على قوَّة المسموع في بناء القواعد والقياس عليه إن كثُرَ واسْتُعْمِلَ، واتِّباع الموروث الثقافيِّ المتواتر عمَّن سبق من أهلهم وآبائهم وأجدادهم.
بل وصل الأمر بهم أنَّهم ينعتُون المخالف لقواعدهم بـ«الشُّذوذ» عند خروجه عن «المقاييس» التي اعتمدوها في وضع القواعد، حتى وإن كان المخالف «قراءة قرآنيةَّ»، ولا ينبغي لهم مثل ذلك؛ لأنَّ «القراءة القرآنيَّة» لا ينبغي أن تخضع لأقيستهم وقواعدهم؛ بل الواجب أن تحكمَ القراءةُ «القواعدَ» و«المقاييس»، وأن تُتخذَ أساسًا ومصدرًا في بناء القواعد، وما ذكرناه جزء من المواضع الكثيرة التي يظهر فيها تعصُّب ثُلَّة من علماء «العربيَّة» للقواعد التي بنوا عليها أحكامهم، وإن كان هذا الحكم يؤدِّي إلى رفض قراءة مشهورة، أو شاذَّة، ولو انَّ علماء «النَّحو والصَّرف» عزفوا عن ذلك لأمدُّونا بكثير من لغتنا التي ضاع أكثرُها قبل وضعهم القواعد والقوانين التي اعتمدوها، ولضيَّقوا دائرة الخلاف التي بينهم في كثير من المسائل.
وإذا كان الحال سهلا في الخلاف الدَّائر بين علماء النّحو واللُّغة، ولا يعدو خلافًا في مسائل تخصُّ «العربيَّة» وأهلها، فإنَّ الخلاف بين علماء «الشَّريعة» أشدُّ مرارة، وأكثر صعوبة؛ لأنَّ آراءهم تنبني عليها مسألة شرعيَّة، قد تجعل متَّبِعها مؤمنًا، ومخالفها كافرًا، وهو بابٌ فيه من الخطورة ما فيه، قد أسهم بشكل أو بآخر في وصول حال الأمَّة إلى ما هي عليه من تردٍّ سياسيٍّ، واقتصاديٍّ واجتماعيٍّ، وأوصلها إلى حالة من التخلُّف والضَّياع، ما لم تشهده من قبل، وقد تصل إلى فقدان وجودها إن هم لم يصلحوا ما هم عليه، وأن يعيدوا الأمور إلى نصابها، من تقديم «الأصل» على «الفرع»، والابتعاد عن تقديس «الفرع»، والتَّعصُّب لـ«لمذهب»، أو «الجماعة»، فـ«الدِّين» أجلُّ وأعلا وأكبر من مذهبيَّتهم، أو عصبيَّتهم، أو فكرهم الدِّينيِّ القائم على أساس حزبيٍّ في مجمله.
بل إنَّ كلَّ فريق منهم يحاول أن يُلغي الآخر، ويقصيه، بحجَّة أنَّه على صواب، وأنَّ الآخر على خطأ، وإن لم يكن معه فهو ضدّه، وهو في ضلال، وقد يصل الأمر ببعضهم أن يكفِّر الآخر، ويجعله في نار جهنَّم، وكأنَّه أصبح وصيًّا على «الجنَّة» و«النَّار»، يُدخل في الأولى من يشاء، ويبعد عن الثَّانية من يشاء، تعالى الله علوًا كبيرًا عمَّا يصفون، مثلهم في ذلك مثل «اليهود» و«النَّصارى» الذين حاول كلُّ واحد منهم أن يحتكر الدِّين لنفسه، وأنَّه على الهداية والرَّشاد، وأنَّ الآخر ليس بشيء؛ في قوله تعالى: «وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ». «البقرة 113».
بل إنَّهم وصلوا إلى حدِّ أنَّه لن يدخل «الجنَّة» إلا من كان على «ملَّتهم»، فقال تعالى: «وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ». «البقرة 111»
وإذا كان هذا قد ذُكر في حال «اليهود» و«النَّصارى»، فقد أصبحَ موروثًا في ثقافتنا «الإسلاميَّة»، بعد أن أصبح «الدِّين» فرقًا وشيعًا، وكلُّ حزب بما لديهم فرحون، وذلك لأنَّهم لا يعلمون، فقالوا مثل قولهم، وجعلوا من «الدِّين» حكرًا لأنفسهم، فوقعوا في الضَّلال والضَّياع.
ومن أكبر ما يعترضنا في النُّصح لمثل هؤلاء، أنَّ الأتْبَاع يقعدون منَّا كلَّ مرصد، فلا يجوز الطَّعن في شيوخهم، أو أعلامهم، وإن كان أعلامهم لا يفقهون شيئًا ولا يهتدون، معتمدين في ذلك على القاعدة الدِّينية الموروثة اجتماعيًا، والقائمة على التَّقديس والتَّنزيه، وأنَّهم أصحاب حقٍّ، لا يأتيهم الباطل من بين يديهم ولا من خلفهم، في اعتقاد جازم من عند أنفسهم أنَّ ما ورثوه هو «الدِّين» حقًّا، وإن كان مخالفًا لنصِّ «القرآن الكريم»، فانطبق عليهم قول الله عزَّ وجل: «وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا لقمان». «21». ومثل هذا الموروث قد عشتُه طويلا اجتماعيًا، فآباؤنا وأهلنا كانوا يقدِّمُون العادات والتَّقاليد على «الدِّين» الحنيف، وهذا يحتِّم علينا لزامًا أن نُطلق صفة الباطل على مجتمع يحكِّم «الدِّين الاجتماعي» الموروث، المبنيّ على ما اعتمده الآباء والأجداد، والبعيد عمَّا أنزله الله.
وهنا أشير إلى مسألة في غاية الأهميَّة، ألا وهي مسألة الاقتتال الدِّيني عبر التَّاريخ، فقد كان التعصُّب للموروث الدِّيني الاجتماعي السَّبب في خلق حالة من الخلاف، أدَّت إلى إنشاء دين خاصٍّ بكلِّ منطقة، وبكلِّ طائفة، مما أفضى إلى مرحلة من الصَّراع فيما بينها، إضافة إلى حالة من التَّكفير التي تلزم صاحبها إقامة الحدِّ عليه؛ لأنَّهم استندوا إلى الدِّين الاجتماعي الموروث، واتَّخذوا منه قاعدة، وجب الدُّخول فيها، بعيدا عن «الدِّين» المنزل، ونسوا أنَّ «الدّين» عبارة عن منهج ربَّاني لا إلزام فيه، بل للإنسان حريَّة الاختيار، فلا إجبار ولا إكراه فيه، وهو نص قوله تعالى: «لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ. «البقرة». «256 ».
ولعلَّ من أهمِّ الموروثات الثَّقافيَّة الدِّينيَّة الاجتماعيَّة التي وصلتنا مَّما تعلَّمه وتناقله الآباء والأجداد، أنَّ هناك أكثر من ديانة سماويَّة، كـ«المسيحيَّة» أو «النَّصرانيَّة»، و«اليهوديَّة»، و«الإسلام»، وهو خطأ كبير دَرَجَ عليه الأقدمون ومن تبعهم من المحدثين على طريق التَّقليد الأعمى، واتِّباع ما كان عليه الآباء، في حين أنَّ «الدَّين» هو«الإسلام»، بنصِّ قوله تعالى: «إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّهِ فَإِنَّ اللّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ». «آل عمران19»، في حين أنَّ «اليهوديَّة» و«المسيحيَّة» عبارة عن «طائفة» أو«فئة» من النَّاس، وليست «ديانة»، بدليل قوله تعالى: «وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ». «البقرة132»، وقوله تعالى: «وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوَاْ آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ». «المائدة111»، وقوله تعالى: «وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ». «يونس84»، بل ثبت بالدَّليل القاطع أنَّ «الإسلام»ليس دين «محمَّد» صلى الله عليم وسلم، ولم يأت به كدين جديد مستحدَث؛ بل هو دين الله، والأدلَّة على ذلك كثيرة، منها قوله تعالى: «وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ». «الحج78»، وقوله في موضع آخر: «إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ». «المائدة44»، وقوله تعالى على لسان سيِّدنا إبراهيم عليه السَّلام: «رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ». «البقرة128».
ولو أردتُ سرْد الأمثلة على تجاوز كثير من علماء الأمَّة لـ«لأصول» وتركها، والاعتماد على «الفروع» لوقفنا على كتب ومجلَّدات، وسيقف في وجهنا أصحاب التَّعصُّب، وأهل التَّقديس والتَّبجيل والتَّنزيه، ولا يعلمون أنَّ الحقيقة مدار العلم، فهو الغاية المطلوبة، والنِّهاية المرغوبة، فنحن لسنا متعبدين بأقوال علماء العربيَّة، ولا غيرهم مِمَّن خالفهم، ولسنا متعبَّدين بأقوال من رأوا في التَّقديس غاية، وفي التَّنزيه للبشر آية، لا يقبلون نصحًا، ولا يعترفون بزلَّة.
([1]) الأعراف: 7/10.
([2]) السَّبعة في القراءات: ص278، والحجَّة للفارسيّ: 4/7، والبحر المحيط: 5/15.
([3]) المقتضب: 1/123، والمنصف: 1/307، وشرح المفصَّل لابن يعيش: 10/97، والإيضاح في شرح المفصَّل: 2/463.
([4]) إعراب القرآن: 2/320، 321.
([5]) البحر المحيط: 5/15.
([6]) المنصف: 1/307.
([7]) معاني القرآن: 1/373.
([8]) جامع البيان: 5/125.
([9]) البحر المحيط: 5/15.
([10]) البيت منسوب إلى الرَّاعي النميري وهو في ديوانه: ص61، وإلى الطرماح في الخصائص: 2/328، ولسان العرب
(حفد): 3/235، وبلا نسبة في المخصَّص: 10/10.
([11]) البحر المحيط: 5/15.
([12]) الكتاب: 4/443.
([13]) القراءات واللَّهجات: ص163.
([14]) البحر المحيط: 3/500.
([15]) القراءات واللَّهجات: ص163.
([16]) البحر المحيط: 3/500.
([17]) من قضايا جموع التَّكسير: ص121، وملاحظات على قياسية الغالب من جموع التكسير «بحث منشور»: ص30.
([18]) يوسف: 12/10.
([19]) الإسراء: 17/50.
([20]) النَّحل: 16/8.
([21]) جموع التَّكسير والعرف اللُّغوي «بحث منشور»: ص188، 189.