القدس التي أنجبت شهيد الجبهة الديمقراطية
تُحيي الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين ومعها عموم جماهير شعبنا من كل عام يوم الرابع من حزيران والذي يرفع فيه عنوان "يوم شهيد الجبهة الديمقراطية" وفاءً للشهداء القادة الميامين، ولروح الشهيد الرفيق ابن مدينة القدس عمر القاسم "مانديلا فلسطين" عضو اللجنة المركزية للجبهة، أيقونة الحركة الأسيرة في سجون الاحتلال، وصاحب المشوار النضالي الطويل في مقارعته. حيث لم يكن هذا اليوم مجرد شعارًا، إنما تعزيزًا وتقديرًا للدور النضالي المشهود لقادة الجبهة وكوادرها في محطات النضال الوطني على مدار تاريخ الثورة الفلسطينية، واستحضارًا لبطولات الرفاق الفدائيين في داخل السجون والمعارك القتالية، إضافة للعمليات النوعية مثل ترشيحا معالوت.
لم يقتصر هذا الدور للجبهة على هذا الصعيد، بل قدمت نفسها نموذجًا في الحفاظ على الوحدة الوطنية الفلسطينية، راسمةً طريق موحد بين السياسة والمقاومة يمكن من خلاله السير نحو ضياء التحرير وكنس الاحتلال، والسعي نحو الخروج من نفق ظلمة الفرقة والانقسام للتفرغ لاستكمال مشوار الحياة الكفاحية بشتى أشكالها، كيف لا وأمينها المؤتمن الرفيق نايف حواتمة صاحب مقولة (طوبى لمن اتبع هدى النضال .. فالحياة مشوار نضال). شهر حزيران لم يكن عابرًا على شعبنا، وفيه ذكرى رحيل الرفيق عمر القاسم الذي شهدت له ساحات النضال الوطني إلى جانب شهداء وقادة الثورة، هذا الانسان في عمله، القائد في موقعه، الصلب في مبادئه، البار لفلسطين ولحقوق شعبها، وظل مثقفًا مشتبكًا طيلة حياته رغم سنوات الأسر والتعذيب إلى أن رحل كما تمنى (شهيدًا) مدافعًا عن الأرض والانسان.
كما بقيت مواقفه شاهدة عليه حتى بعد رحيله، فمن أبرزها عندما قامت مجموعة مسلحة تابعة للجبهة الديمقراطية بتنفيذ عملية "معالوت" في الجليل واحتلال مبنى ورهائن، استدعت إدارة السجن الرفيق عمر ومعه الشهيد "أنيس دولة" وأخذوهما على متن طائرة مروحية إلى مكان العملية وساوموه وطلبوا منه أن يتحدث للفدائيين لتسليم أنفسهم وإطلاق سراح الرهائن، فكانت البطولة والتضحية في سبيل القضية والمبادئ عندما أمسك شهيدنا الميكروفون مخاطبا رفاقه الأبطال وقال جملته الشهيرة "أيها الرفاق .. أنا عمر القاسم .. نفذوا ما جئتم من أجله فعدوكم غدار" وفور انتهاء هذه الكلمات القليلة لبى رفاقه النداء وأشعلوا الأرض والسماء نارًا عندما قاموا بتفجير الكلية العسكرية لتُحلق أراوحهم شهداء في سماء فلسطين.
إن يوم الرابع من حزيران مميز في تاريخه، ومُعطر في ذكرياته، خاصة عندما نستذكر فيه الشهداء القادة للجبهة وفي المقدمة منهم أعضاء المكتب السياسي واللجنة المركزية، الذين عاشوا من أجل فلسطين ورحلوا عن أرضها وهم يدافعون عنها، بل عمدوا ترابها بالدم على طريق انتزاع الحق. الرفاق القادة الذين آمنوا بفلسطين ولم يعرفوا معنى للصعاب، وتبنوا المحطات النضالية المختلفة ما بين خوض الخيارات الكفاحية وصوغ البرنامج المرحلي لمنظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد لشعبنا في كل أماكن تواجده.
تناضل الجبهة الديمقراطية في مواقع مختلفة، وتعتبر صاحبة النظرة الأكثر صوابًا على الساحة الفلسطينية في ظل الظروف السياسية والوطنية المعقدة، حيث تميزت بدورها النضالي منذ تأسيسها عام 1969م، سواء على صعيد قراراتها الوطنية في مواجهة الاحتلال والتصدي للمؤامرات التصفوية للقضية الوطنية والتي أصبحت محط إجماع وطني فلسطيني عام، أو تعزيز الوحدة الداخلية والحفاظ على البيت الوطني الجامع (م.ت.ف)، إضافة للحضور الوطني المؤثر خلال طرح مبادرات سياسية لإنهاء الانقسام واستعادة الوحدة الداخلية وهي الأكثر واقعية، وهذا كان واضحًا إبان انعقاد الدورة الأخيرة للمجلس المركزي الفلسطيني، والهجمة التي تعرضت لها الجبهة حين قطعت الطريق على خلق البديل.
ففي ظل التحديات التي تواجهها القضية الوطنية، يمر علينا هذا العام في أسوأ ظروفه، من عمليات تهويد للمقدسات الإسلامية والمسيحية، والتهجير القسري، والتطهير العرقي، وانتشار الاستيطان في مختلف مناطق الضفة، وقتل للأطفال والنساء، وتدمير للمنازل، واغتيال ممنهج ومُتعمد للصحفيين، وسياسة الإبادة اليومية للمناضلين والمواطنين الفلسطينيين، إضافة للاقتحامات الكثيفة لمخيمات ومدن الضفة، واتباع سياسة البطش الجماعي في محاولة لتحقيق الردع ووقف النضال الوطني المشروع، الأمر الذي يستدعي أن يكون هناك تحرك فلسطيني على أعلى مستوى يحقق أهداف شعبنا على طريق الحرية والعودة والاستقلال وتقرير المصير.والمؤسف أيضًا، أن حياة شعبنا أصبحت كلها مهددة، وقابلة للانهيار بفعل الانقسام الأسود والمدمر، في سبيل تحقيق المكاسب والمصالح الحزبية لطرفي الانقسام على حساب المصلحة العامة لشعبنا مما جعل الحقوق الوطنية تتجه نحو الضياع.
وأمام غياب دور القيادة السياسية للسلطة واللجنة التنفيذية في ظل ارتكاب الاحتلال الإسرائيلي جرائمه البشعة بحق شعبنا، تعزز الجبهة الديمقراطية موقفها وموقعها السياسي يوم بعد يوم بشكل علني وواضح من خلال إطلاق نداءات وطنية عاجلة للمطالبة بإعلاء سقف الرد الفلسطيني الرسمي الذي لا يتجاوز إصدار البيانات وتوسل التدخلات الأميركية، والتي ثبت بالتجربة أنها غير فاعلة، وليست الحل المناسب للتصدي للبطش الإسرائيلي.
ولمواجهة التغول الإسرائيلي بحق الأرض الفلسطينية ومدينة القدس العاصمة الأبدية بشكل خاص التي تواجه ارهابًا منظمًا، بات المطلوب فلسطينيًا أن يكون هناك مسارًا جديدًا، عبر العمل على توحيد صفوف أبناء شعبنا، وتحشيد قوانا السياسية في خندق واحد لمواجهة الاحتلال والمشاريع الاستيطانية التوسعية، من خلال انهاء الانقسام واستعادة الوحدة عبر حوار شامل تحت مظلة منظمة التحرير الائتلافية، وتفعيل برنامجها الكفاحي، واتباع استراتيجية وطنية بديلة تكون قائمة على سحب الاعتراف بإسرائيل، ووقف كل أشكال التنسيق الأمني، وتفعيل كل أشكال المقاومة الشعبية الرامية إلى دحر الاحتلال، ويتحقق ذلك بتوفير الغطاء السياسي لها، والعمل الفوري على تدويل القضية والحقوق الوطنية، إضافة للمطالبة بالحماية الدولية الكاملة لشعبنا أمام عربدة جيش الاحتلال وقطعان مستوطنيه.
ختامًا، على قيادة أطراف الانقسام أن تخجل أمام عظمة هؤلاء الشهداء القادة، ومن تجاربهم الوطنية الغنية بالدروس الأخلاقية والثورية، لا سيما تجربة الشهيد عمر القاسم، الذي كان يعتبر مدرسةً في الثقافة الوطنية الوحدوية، وشخصية مُلهمة للأسرى داخل السجون الإسرائيلية، فكان يحظى باحترام وتقدير ومسؤولية كبيرة من الأسرى كافة على دوره المشهود، إلى أن تلقى موعده مع الشهادة في الرابع من حزيران عام 1989.
فتحية العزة والكرامة إلى مدينة القدس التي أنجبت عمر القاسم وغيره من الشهداء القادة،
والتي تواجه اعتداءً حاقدًا من الاحتلال وقطعان مستوطنيه،
النصر آتٍ لا محالة أيها المدينة المقدسة.
وسوم: العدد 984