قدوة القيادة في الإسلام 1
قدوة القيادة في الإسلام
الحلقة الأولى : المقدمة
د. فوّاز القاسم / سوريا
إن تغيير واقع أية جماعة أو دولة أو أمة ، ونقله من حالة التردي والضياع ، إلى حالة النهوض والتقدم ، يحتاج إلى مجموعة عوامل وظروف لعل على رأسها ، وجود القيادة القدوة .
فإذا تهيأت لهذه الجماعة أو الدولة أو الأمة ، قيادة راشدة ، ذات مواصفات قيادية متميزة ، فإنها تستطيع أن تنهض بها إلى مستوياتها، وتحلق بها في آفاقها ،ثم تقودها بعد ذلك بخطى واثقة وأقدام راسخة ، لتحقق بها ما تصبو إليه من أهداف ، وما تتطلع إليه من طموحات .
من أجل ذلك فقد أرسل الله الأنبياء والمرسلين ، من لدن آدم إلى محمد ، صلوات الله عليهم أجمعين ، ليكونوا قادة للبشرية ، وقدوة لها . وكان كلما طال الزمن ، وخلا رسول ، وضلت البشرية طريقها، يرسل رسولاً ، مجدداً للمبادئ ، وموقظاً للضمائر ، وباعثاً للهمم ، وقائداً وقدوة على الطريق .
قال تعالى : (( إنا أرسلناك بالحق بشيراً ونذيراً ، وإن من أمة إلا خلا فيها نذير )). فاطر (24)
ومن أجل ذلك أيضاً ، فقد جعل الله الأنبياء والمرسلين بشراً عاديين ، ليجتهدوا في تطبيق التكليف الرباني في أقصى كمالاته البشرية ، وليتمكن أتباعهم من تقليدهم ، والتأسي بهم ، والسير على منهجهم . قال تعالى : (( وما أرسلنا قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم ، فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ))الأنبياء (7) .
وقال أيضاً : (( وما أرسلنا قبلك من المرسلين ، إلا انهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق ، وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون، وكان ربك بصيراً ))
الفرقان (20) .
ولو تتبعنا مسيرة الأنبياء والمرسلين ، عليهم السلام ، منذ فجر البشرية ، إلى تاريخ التحاق الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى ، لوجدنا أن واحدة من أهم الصفات والخصائص ، التي تميزوا بها ، في دعوتهم إلى الله ، وقيادتهم البشرية على طريق الإيمان به ، والعبودية له ، وخلافته في أرضه ، إنما هي صفة القدوة .
فلقد كان ذلك الرهط الكريم ، سلام الله عليهم ، قدوة للبشرية التي يقودونها ، في كل جانب من جوانب الحياة ، سواء ما تعلق منها بقضايا الإيمان والاعتقاد ، أو ما تعلق منها بالشمائل والأخلاق ، أو ما تعلق بجانب السلوك الإنساني ، والعلاقات الاجتماعية ..
ولما شاءت إرادة الله ، أن تختار محمداً صلى الله عليه وسلم ، ليقود هذه الدعوة المباركة في آخر حلقة من حلقاتها ، وليكون خاتم أنبياء الله ومرسليه ، قال تعالى :
(( ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ، ولكن رسول الله ، وخاتم النبيين ، وكان الله بكل شيء عليماً )). الأحزاب (40) .
لذلك فقد جعل منهجه شاملاً كاملاً متكاملاً ، يلبي كل طاقات البشر واستعداداتهم ، في نفس الوقت الذي يرفع هذه الطاقات وهذه الاستعدادات ، إلى الأفق اللائق بخليفة الله في الأرض، وبالكائن الذي كرّمه الله ، ونفخ فيه من روحه ، وفضله على كثير ممن خلق تفضيلاً …
وجعل هذا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، إنساناً تتمثل فيه هذه العقيدة بكل خصائصها ، وتتجسم فيه بكل حقيقتها ، ويكون هو بذاته، وبحياته ، الترجمة الكاملة ، والصحيحة ، لطبيعتها واتجاهها. وجعل حياته الخاصة والعامة ، كتاباً مفتوحاً لأمته وللبشرية كلها ، تقرأ فيه صور هذه العقيدة ، وترى فيه تطبيقاتها العملية .
كما أوكل مهمة التغيير والإصلاح في أمته من بعده إلى جنوده وأتباعه . لأن الإسلام العظيم هو دين الجد، والمبادرة ، والإيجابية . وهو يمقت الخنوع ، والكسل ، والسلبية .
ويطالب أتباعه دوماً بالعمل على إصلاح الواقع ، وترشيد الحياة ، وقيادتها ، وإغنائها .
لذلك فإن قادة العمل الجمعي في الأمة مطالبون دوماً بالإقتداء بهذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، والتأسي به ، والتخلق بأخلاقه ، والسير على نهجه .
قال تعالى مخاطباً المسلمين :
(( لقد كان لكم في رسول الله أسوةٌ حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر ، وذكر الله كثيراً )) الأحزاب (21).
تماماً كما خوطب الرسول الكريم نفسه ، بالاقتداء بسيرة من سبقه من إخوانه المرسلين ، لأن دينهم واحد ، ودعوتهم واحدة ، ومنهجهم واحد ، سلام الله عليهم أجمعين .
قال تعالى مخاطباً رسوله الكريم ، محمداً صلى الله عليه وسلم .
(( وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه ، نرفع درجات من نشاء ، إن ربك حكيم عليم . ووهبنا له اسحق ويعقوب كلاً هدينا ، ونوحاً هدينا من قبل . ومن ذريته داوود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون ، كذلك نجزي المحسنين . وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين . وإسماعيل واليسع ويونس ولوطاً ، وكلاً فضلنا على العالمين . ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم ، واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم . ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده ، ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون . أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة ، فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوماً ليسوا بها بكافرين .أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده ، قل لا أسألكم عليه أجراً ، إن هو إلا ذكرى للعالمين )) الأنعام (83-90).
ويطول بنا المقام لو رحنا نتتبع صفة القدوة عند كل نبي من الأنبياء، وندرسها عند كل رسول من المرسلين .
ولما كانوا جميعاً سلام الله عليهم ، ينهلون من منهل واحد ، ويقتبسون من مشكاة واحدة ، وينهجون نهجاً واحداً .
لذلك فإننا سنكتفي في هذه الدراسة ، بإبرازها عند خاتم الأنبياء ، وإمام المرسلين .
فلقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قدوة لأمته في كل شيء ، وطيلة حياته المباركة .
وعلى العاملين للإسلام اليوم ، وطلاب الحريّة في سورية الحبيبة وغيرها ، من الذين لا تنقصهم الغيرة على دين الله ، ويعملون مخلصين لاستئناف المسيرة الإسلامية على ظهر هذا الكوكب ، بعد كل ذلك الانقطاع الطويل ، أن يقفوا ملياً عند هذه المعاني ، ويدرسوها بمنتهى العمق والإخلاص والتجرد ، مستفيدين من دروسها وعبرها ، متخذين منها معالم شاخصة في طريق دعوتهم الطويل ، باذلين كل ما بوسعهم ، للتأسي بها ، والسير على نهجها ، وتطبيقها ...