وزير مغربي سابق: القول بـ"العنف القرآني" إفكٌ وجهالة
إن الزعم بتأصل العنف وانغراسه الجيني في القرآن الكريم (حيث لا وجود في نصه للفظ العنف) إنْ هو إلا ضرب من الإفك والجهالة السافرين لا يعضده سند صريح ولا برهان مقحم. وكان ممن قال به متحمسا هو محـمد أركون متبوعا بأزلامه من ضعاف الزاد المعرفي والطاقة الفكرية وإن لم يعدموا في خبطهم حبرا وورقا.
وكان أركون في ذلك يداوم على نهجه المنقول عن الفيلسوف الفرنسي جاك ديريدا الذي سماه "la déconstruction" وطبقه رأسا على مواضيع فلسفية وأدبية، وترجمتُه العربية ليست، كما شاع، التفكيك بل حرفيا ومضمونيا "هدم المبني"، ولم يفهمه صاحب قراءات للقرآن إلا بهذا المعنى حصريا لكن مطبقا هذه المرة على الخطاب الديني وأساسا القرآني، معولا أيما تعويل على سورة التوبة (وهي مدنية) لإظهار تماهي ذلك الخطاب مع العنف (أي الارهاب في قصده) وقيامِ هذا في ذاك كثابت وطبع مركوز.
وانصبت قراءته بالتحديد على الآية الرابعة من تلك السورة، وهي ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ﴾. ومما عميَ القارئ المتهاف عن إدراكه هو:
1 ـ إن السورة تبدأ هكذا: ﴿بَرَاءَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ﴾، وقد وردت على نحو استثنائي من دون ﴿بسم الله الرحمن الرحيم﴾، ولم أجد عند المفسرين لهذا الغياب علة سوى أن تكون السورة نزلت (والله أعلم) والنبي المرسل في حالة استياء وتذمر بالغين من المشركين المستميتين في نكث العهود وفسخ العقود وخرقها، كما كان سلوك يهود يثرب وسواها مع المسلمين ورسولهم الأكرم.
وهذا ما لم ينتبه إليه ذلكم القارئ المتهافت ويسجله.
2 ـ المعنيون إذن بوجوب التصدي لهم وقتلهم هم حصريا المشركون الأشداء عداوة على الديانات التوحيدية التي أمرت بقتالهم لكونهم لا يلحدون بالله فقط ويشركون به آلهة متعددة من حجر منحوت أو من عناصر الطبيعة ومكوناتها ويعبدونها، بل لأنهم أيضا يحاربون الموحدين لله بشتى ضروب المحاربة والتعنيف والبطش، فوجب جهادهم.
3 ـ تأتي الآية 13 لتبيان السبب في مواجهة المشركين وقتالهم، ﴿أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مؤْمِنِينَ﴾. وتذكرنا الجملة "وهم بدءوكم أول مرة" بالمؤرخيْن اليونانيين (من القرن الخامس قبل الميلاد) هيرودوت وثوسيديد، الأول في كتابه الحروب الميدية (بين الإغريق والفرس)، والثاني في كتابه حرب البيلوبونيز (بين أثينا وسبارتا)، وكلاهما ذهب إلى أن سؤال الأسئلة في ظاهرة الحرب هو حول بادئها والسباق إلى إضرام نيرانها، مصداقا لقول علي بن أبي طالب في هذا المقام "الشرُّ بالشرِّ والبادي أظلم".
وعطفا على ذلك، ها هو حديث نبوي شريف يقول: "أيها الناس، لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية. فإذا لقيتموهم فاصبورا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف. اللهم منزلَ الكتاب، ومجريَ السحاب، وهازمَ الأحزاب، اهزمهم وانصرنا عليهم»، وفي حديث آخر: "لو بغى جبلٌ على جبلٍ لدُكَّ الباغي منهما".
4 ـ إن المستخلص إذن من الآية 13 هو أن قتال المشركين ليس بدئيا أو استباقيا، وإنما هو دفاعيٌّ صرفٌ تؤكد طابعه هذا بنحو قويٍّ حاسم الآية 36، وهي ﴿وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً﴾ وتنضاف إليها من باب الاستزادة في البيان والشرح الآية 190 من سورة البقرة ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾. وتنضاف إليها أيضا دعوة القرآن الكريم إلى المجادلة بالتي هي أحسن وأخرى إلى أهل الكتاب حول الكلمة السواء، وما ماثلهما كثير.
إن ما تيسر سوقه من آيات بينات ينفي قطعيا ما ذهب إليه أركون وأزلامه، إلا أنهم إذ ظلوا، رغما عنها، يلجون ويعاندون حتى زايد بعضهم وزعموا أن جماعات "إرهابية"، وأعتاها داعش، إنما استمدت إيديولوجيتَها وتبريرات أعمالِها من متن القرآن وصلبه، وكان أركون ينوي تأليف كتاب في هذا الموضوع لولا أن المرض حتى الموت عاجله.
عطفا على ذلك، هل كان زعماء مقاومة الغزو النازي لأوروبا، كشارل دوغول وونستون تشرشيل وجان مولان، يوصون بغير قتال الغزاة وتسخير كل وسائل الحرب وحيلها من نصب الكمائن والعمليات الفجائية ورصد تحركات العدو والضرب بقوة في مكامنه ومواقعه، وكلها وسائل تنهل مشروعيتها من كونها دفاعية، كما كان الحال في كل حركات التحرير الوطني عبر العالم.
وليُعتمد أيضا على كتاب العالم للسوسيولوجي الألماني ماكس ڤيبر الذي برر عنف الدولة بالحاجة الماسة إلى إرساء قواعد النظام والأمن، فألقى عليه طابع المشروعية كعنف دفاعي مضادٍ للعنف العدواني الإجرامي. في هذا الشأن بالمنهج المقارن والقراءة الطباقية contrapuntal reading، التي نظّر لها وأجرأها الراحل إدوارد سعيد في مجمل كتاباته وأبحاثه.
من هذا الباب، لنصوِّبِ النظر الآن إلى بعض وجوه العنف المبرَّح في المسيحية، منها ما ورد في إنجيل لوقا، بعد صلب عيسى ابن مريم بحوالي أربعة عقود، من أن يسوع المسيح قال: "لا تظنوا أني جئتُ لأحمل السلام إلى العالم. ما جئتُ لأحمل سلاما بل سيفا. جئتُ لأُفرق بين الإبنِ وأبيه، والبنتِ وأمها، والكنَّة وحماتها. ويكون أعداء الإنسان أهل بيته".
وفي الإنجيل نفسه يطالعنا أمر عيسى المسيح بإحضار معارضيه وذبحهم جميعا أمام عينيه... وهذا يشوع ابن نون خليفة موسى كليمِ الله و"خديمِ الأبدي" يبشر في سفر الإنجيل القديم بأن الأرض الموعودة لإسرائيل الكبرى هي من النيل إلى بلاد الرافدين. وكل من خالف هذه البشرى أو شك فيها خصوصا من الكنعانيين (أسلاف فلسطينيي عهدنا) تُعمل فيهم سيوفُ العنف والإبادة.
ونختم للإيجاز بما جاء في إنجيل يوحنا من أن المسيح ابن مريم، رسول المحبة والمسالمة والسماحة، حدث له أن فجرَّ غضبته العارمة على باعة معبد القدس وصرّافيه، فطردهم من بيت أبيه الربّ شر طردة بالضرب المبرح، مستعملا حبلا من مسد.
هل كان زعماء مقاومة الغزو النازي لأوروبا، كشارل دوغول وونستون تشرشيل وجان مولان، يوصون بغير قتال الغزاة وتسخير كل وسائل الحرب وحيلها من نصب الكمائن والعمليات الفجائية ورصد تحركات العدو والضرب بقوة في مكامنه ومواقعه، وكلها وسائل تنهل مشروعيتها من كونها دفاعية، كما كان الحال في كل حركات التحرير الوطني عبر العالم.
في سياق رصد مظاهر العنف في تاريخ المسيحية، لا بدَّ من التذكير بالحملات الصليبية الثمانية وهمجيتها الضارية في الغلو الفادح والقتل الجماعي الذريع، وشعارهم فيها هو "الله يريد". ولم يتخلص العالم الإسلامي منها إلا بفضل جيش صلاح الدين الأيوبي بطل موقعة حطين المجيدة ومحرر القدس الشريف من مخالب حملة الصليب. وهذه شهادة مؤثرة، ضمن أخرى كثيرة، بقلم، أسامة بن منقذ أمير شيزر شمال سوريا، المعاصر لإحدى تلكم الحملات، إذ يسجل في مؤلفه الشيق كتاب الإعتبار بعد أن سلبه الفرنجه من كل متاعه: "إن سلامة أولادي وأبناء أصدقائي ونسائنا قد خففت من آلام فقدي لكل ممتلكاتي، ولكن خسارتي لكتبي آلمتني ألماً ممضا. لقد كانت أربعة آلاف مجلد من كتبٍ قديمة نفيسة، وغدا فقدها باعث حزني طوال عمري".
أما عنف مسيحيي إسبانيا في حرب إعادة الغزو la reconquista فحدِّث ولا حرج، إذ عرف أوجه مع المدجنين los mudejares، إسم أُطلق على مسلمي الأندلس بدءا من 1492م تاريخ سقوط غرناطة آخر مملكة إسلامية جراءَ تحالف ملك أراگون فردينان وملكة قشتالة إيليزابيت، وهم من فئات آثروا البقاء في الأندلس ولم يطردوا، فدخلوا تحت حكم المسيحيين المنتصرين وأُجبروا على تغيير دينهم ولغتهم التي اعتُبرت عجمية aljamiado ولو أنها تُكتب بحروف عربية، وهم أصلا فرع من المورسكيين المهجرين عنوةً من الأندلس إلى مدن مغاربية بمرسوم للملك فيليب الثاني سنة 1609. وقد خضع أولئك المدجنون لمحاكم التفتيش l’inquisition للنظر في صحة ردتهم عن الدين الإسلامي والتحقق من فتح أبواب دورهم أو إخفاء مصاحف القرآن، وغير ذلك من المضايقات والعقوبات المهينة، كالجلد وتمزيق الكتب ذات الصلة بالإسلام..
أما في فرنسا الكاتولكية التي يأمر رسولها المسيح "أبدا لا تقتل" فقد عرف تاريخها الوسيط حرب المئة سنة ثم الثلاثين سنة مع أنجلترا الأنگليكانية، وحملات مطاردة البروتستانيين وإرغامهم على اعتناق الكاتولكية عنوةً، أشهرها لاسنت بارتليمي التي كانت مذبحة فظيعة سنة 1572 أتت على الرجال والنساء والأطفال وعمت باريس ومدنا أخرى لعدة أشهر، وذلك بتحريض من كاترين دي ميديسس وابنها شارل التاسع وتواطؤ الكنيسة، ولم تعرف تلك المأساة نهايتها إلا مع الملك هنري الرابع بإصدار مرسوم ليدي دي نانت. غير أن الملك لوي الرابع عشر أعاد تأجيج أوارها ولو لمدة معلومة.
في سياق رصد مظاهر العنف في تاريخ المسيحية، لا بدَّ من التذكير بالحملات الصليبية الثمانية وهمجيتها الضارية في الغلو الفادح والقتل الجماعي الذريع، وشعارهم فيها هو "الله يريد". ولم يتخلص العالم الإسلامي منها إلا بفضل جيش صلاح الدين الأيوبي بطل موقعة حطين المجيدة ومحرر القدس الشريف من مخالب حملة الصليب.
وكان معاصره السلطان إسماعيل يعيب عليه ذلك وينطق به أنكيشيشيون، ويعارضه معتزا بالإسلام دين السماحة والسلام. ومع الثورة الفرنسية في 1789 ظهرت المقصلة la guillotine التي أُعدم بها الملك لوي السادس عشر وحتى زوجته ماري أنطوانت وكذلك اليعقوبي روبسبيار الذي سُميَ عهده عهد الرعب. وكانت في تاريخ فرنسا طرق أخرى في القتل، منها التسميم وكذلك التحريق le buchet كما حصل في كثير من الحالات، منها حرق جيرار دي بروي G. de Breuil لكونه نقل بعض أعمال أبي الوليد ابن رشد الفلسفية إلى اللغة اللاتينية.
الكيل بمكيالين ركنٌ ركين
إن المنتسبين إلى المسيحية من ممتهني الجريمة المنظمة والهول ـ دوب والاتجار في المخدرات والبشر، لا أحد منهم سُمي christianiste. وهذا يصح حديثا على واحد من أفظع القتلة وأعتاهم النرويجي أندرس بريڤك عرّف نفسه بكونه مسيحيا إنجيليا وماسونيا، ونعتته الصحافة بصليبيِّ الكراهية والتعدد الثقافي ومعادٍ للإسلام بالتخصيص عداوة غريزية مرضية. وفي غضون يوليوز 2010 أطلق العنان لجنونه الإجرامي ففجر قنبلة في أوسلو ثم قصد جزيرة أوطووا حيث وجه سلاحه الرشاش إلى تجمع شبابي احتفالي فأعدم منهم العشرات. وبالرغم من كل تلكم القرائن والدلائل لم تُحَمِّل الأوساط المعنية الديانةَ المسيحية مسؤولية هول ما جرى، ولم يُنسب إليها إعلاميا ذلك الإرهابي المتوحش أي تحت إسم christianiste.
وأما مع إرهابيي الصهيونية العبرية فحدث ولا حرج، من هاگانا وإرگون (ومن زعمائهم منهيم بيگين رئيس إسرائيل لاحقا) وكذلك اليمين الديني المتطرف، فلم يُلصق بأحدهم نعت judaiste، ومن أقربهم إلى عهدنا الطالب الإرهابي إيگال أمير قاتل إسحاق رابين أثناء إلقاء هذا الرئيس خطابا أمام تجمع حاشد في تل أبيب يوم 4 نونبر 1995، وخلفه شمعون بيريز الذي سيكون جزار قانا جنوب لبنان حيث انهمرت القنابل على ملجأ للفلسطينيين العزّل تابعٍ للأمم المتحدة؛ فيما سُمي توّا إسلامبولي قاتل أنور السادات (1981) islamiste من طرف الإعلام الغربي جميعه، وقس على ذلك حالات لا مجال هنا للإستزادة في سردها، إلا ما قل: السلاح النووي حلال على إسرائيل، حرام على إيران؛ تجريم معادة السامية وحتى الصهيونية وإباحة معاداة الإسلام (إسلاموفوبيا)..
كل ما جاء في مقالتي هاته إن هو إلا غيض من فيض غايته الإسهام في دحض تقولات محترفي الإفك وتزوير الحقائق والوقائع، وهم من سميتهم "المدجنون الجدد" في فصل من كتابي في الإسلام الثقافي.
وسوم: العدد 987