دروس من الفردوس المفقود
لعلّ المتداول على ألسنتنا حين نتحدّث عن الأندلس، هو أنها دولة مسلمة أموية قامت في شبه جزيرة إيبريا مدة ثمانية قرون.
وهذا الاختصار ليس خاطئاً لكنه بعيد عن الدقّة، وفيه الكثير من المجازفة، لا سيما ونحن نسأل: كيف قامت هذه الدولة وكيف سقطت؟.
ليس من شأن مقال أن يستعرض تاريخ الأندلس ويدرس أسباب نشوئها وازدهارها وأُفولها، إنما نذكر من ذلك ما نستنبط منه بعض الدروس.
لنذكر أولاً أن هذه الدولة مرّت بثلاث مراحل: مرحلة الخلفاء الأمويين الذين كان أوّلهم عبد الرحمن الداخل الملقّب بصقر قريش (عبد الرحمن بن معاوية بن هشام: 113 – 172 ه). وقد امتدّت هذه المرحلة نحو ثلاثة قرون. ثم مرحلة دول الطوائف التي بلغت 22 دولة!. ثم مرحلة المرابطين والموحّدين والتساقط المتتابع.
وفي كل مرحلة كانت هناك مواقف مشرّفة، وانتصارات باهرة، وإعزاز لدين الله، ومظاهر العمران... إلى جانب مواقف مخزية، وتناحرات بين الأمراء، واستعانة من بعضهم بالنصارى ضد أبناء دينهم.
وبطبيعة الحال فإن أي أمير لدولة وهو يحارب أميراً آخر، ويستعين عليه بأعداء الإسلام، يستطيع أن يذكر مسوّغات صادقة أحياناً، وكاذبة غالباً، ليكون فعله مشروعاً. وهكذا يتصارع المسلمون أحزاباً وفصائل ودولاً، والآخر يتفرّج أو يُذْكي الصراع ما استطاع.
وهنا لا بدّ من استحضار قول النبي صلّى الله عليه وسلّم، فيما يرويه الإمام البخاري: "... فوالله ما الفقرَ أخشى عليكم، ولكني أخشى أن تُبسَط عليكم الدنيا كما بُسطت على مَن كان قبلكم، فَتَنافَسوها كما تنافسوها، وتُهلككم كما أهلكتهم".
لقد كانت الاستنامة إلى الرخاء والسعة، والتنافس على متاع الدنيا، من أموال وقصور ومناصب... سبباً للهلاك.
ومما يُنسب إلى ابن عطاء الله السكندري قوله: آخر ما يخرج من قلوب الصدّيقين حب الرئاسة.
ومن أجل حب الرئاسة كان الأمير المسلم يستعين بجيوش النصارى ليقضي على أخيه المسلم، كالذي يحدث في مراحل تاريخية هابطة.
وقد شاهد العلّامة ابن حزم الأندلسي (ت 456ه) هذه الرحلة فقال عن أولئك الملوك: "والله لو علموا أن في عبادة الصلبان تمشية أمورهم لبادروا إليها. فنحن نراهم يستمدون النصارى فيُمكّنونهم من حُرُم المسلمين وأبنائهم ورجالهم... وربما أعطوهم المدن والقلاع طوعاً فأخلوها من الإسلام، وعمروها بالنواقيس".
وهنا نسجّل موقفاً سديداً لحاكم إشبيلية، المعتمد بن عبّاد، أحد أشهر ملوك الطوائف، في أواسط القرن الخامس الهجري، وقد اشتد الضعف في دويلات الطوائف، حتى صارت ممالك النصارى تأخذ الجزية من بعض هذه الدويلات، وكان ألفونسو السادس من أشد ملوك النصارى بأساً، وأحسّ المعتمد بن عبّاد بالخطر فاستغاث بيوسف بن تاشفين أمير المرابطين في المغرب، وحين حذّره بعض ملوك الطوائف بأن ابن تاشفين إذا نجح في صدّ الصليبيين فإنه سيتملك البلاد لنفسه، قال ابن عبّاد: "لأن أرعى الإبل عند ابن تاشفين خير من أن أرعى الخنازير عند ألفونسو".
تمكّن ابن تاشفين من هزيمة ألفونسو في موقعة الزلّاقة في رجب 479ه، الموافق لتشرين الأول 1086م، وكان نصراً عظيماً تسبّب في وقف العدوان الصليبي مدة من الزمن. وبذلك انتهت دول الطوائف التي حكمت ستين عاماً وقامت دولة المرابطين التي حكمت ستين عاماً أخرى، ثم جاء الموحّدون من بلاد المغرب كذلك وتغلّبوا على المرابطين وحكموا البلاد بعدهم.
وفي عام 138ه أصبحت الأندلس دولة قائمة بذاتها، حيث كانت خلافة بني أميّة في الشام قد سقطت، وقامت دولة بني العباس التي لم تسيطر على الأندلس.
وتتابع الملوك الأمويّون في الأندلس: صقر قريش عبد الرحمن الداخل (حتى عام 172ه)، فهشام الأول بن عبد الرحمن (حتى عام 180ه)، فالحكم بن هشام (حتى عام 206ه)، فعبد الرحمن الأوسط بن هشام (حتى عام 238ه)... وأخيراً هشام الثاني بن الحكم (حتى عام 399ه).
وكلما سقطت دويلة سقط ما حولها من بلدات. وكان الصليبيّون يعاملون المناطق التي يحتلّونها معاملة تتفاوت في قسوتها ودرجة التنكيل بأهلها وإجبارهم على التنصّر، ومحاربة أي أثر للالتزام بالإسلام، بل محاربة التكلّم بالعربية والكتابة بها والتسمّي بأسماء إسلامية أو عربية... وكان المحتلّون يَلقَون مقاومة من المسلمين بعد سقوط دولتهم، وكانوا في كثير من الأحيان يعقدون معاهدات مع المحتل ليضمنوا لأنفسهم بعض الاستقلال وبعض الحقوق، لكن المحتل الصليبي كان ينسف كل المعاهدات متى تمكّن، وكان المسلمون إما أن ينتقلوا إلى الدويلة التي لم تسقط بعد، أو يُهجَّروا قسراً، أو يبقوا يمارسون بعض شعائر دينهم سرّاً، لكنهم في هذه الحال يذوبون تدريجياً في النصرانية. ومن أفضل مَن وصف هذا الذوبان كتاب: "ثلاثيّة غرناطة" للكاتبة: "رضوى عاشور".
وكانت الدويلات الشمالية هي الأسرع سقوطاً، لأن الدويلات الجنوبية هي الأقرب لدول المغرب، فكانت تتلقّى الدعم بالرجال والسلاح فتكون أقدر على المقاومة.
ولذلك كانت غرناطة هي آخرها سقوطاً لأنها الأقرب إلى المغرب، وقد كان في سكانها الكثير من المسلمين الذين لجؤوا إليها من الدويلات التي سبقتها في السقوط.
ومن الجدير بالذكر أن المقاومة الإسلامية لم تتوقّف سواء قبل سقوط غرناطة أو بعد سقوطها، وهذا ما خصّص له الدكتور عبد الواحد ذنون طه كتاباً بعنوان: "حركة المقاومة العربية الإسلامية في الأندلس بعد سقوط غرناطة"، فإذا كانت غرناطة قد سقطت سنة 897ه=1492م، فإن المقاومة استمرت بعد ذلك بصور شتّى حوالي 130 سنة.
وكان ملوك الإفرنج لا يَدَعون وسيلة يحاربون بها الإسلام والمسلمين إلا فعلوها: من حصار اقتصادي، وتعذيب وسجن وإبعاد، ونصب لمحاكم التفتيش، وانتهاك للحُرُمات... وكانت الخيارات أمام المسلمين الهجرة أو الذوبان السريع أو البطيء. ولا حول ولا قوة إلا باللّه.
وسوم: العدد 988