الوباء والمدينة النائمة
استيقظ صديقي، ولنقل إن اسمه خليل، في صباح الثلاثاء 26 تموز/ يوليو 2022 وهو يرتجف بالحمى، وكان أنفه يسيل، مع ألم خفيف في الحلق. فاعتقد أنها مجرد أعراض للرشح أو الكريب، ولم تخطر الكورونا في باله. فهو أخذ أربع جرعات من اللقاح، واجتاز بسلام أيام الرعب من «كوفيد 19» التي اجتاحت العالم.
جميع أصدقائه والمحيطين به أصيبوا بهذا الوباء اللعين، وكان يخامره شعوران متناقضان، شعور بالنجاة وشعور بالنقص. ففي هذه الموجة الوبائية التي اجتاحت العالم بأسره، بدت النجاة من الإصابة أشبه بنقصان، كأنك لست جزءاً من هذا العالم.
في ذلك الصباح كان يفكّر في ضرورة القيام بعمل ما لأن الذكرى السنوية الثانية لكارثة الرابع من آب/أغسطس، التي دمرت ثلث بيروت، تقترب. فكّر أنه على الرغم من مشاركته في انتفاضة 17 تشرين لم يصب سوى بالاختناقات التي كان مصدرها القنابل المسيلة للدموع، بينما شهد وقائع السحل والضرب والرصاص الذي فقأ عيون العديد من الشبان، الذين حاولوا إسقاط نظام مافيات الطوائف بحناجرهم وأيديهم وصدورهم العارية.
ورغم أن منزله أصيب في انفجار الرابع من آب/أغسطس، ووجد نفسه منبطحاً تحت ركام الزجاج، ورأى فراشات الدم تنتشر في المكان، نتيجة إصابة العديد من أفراد عائلته، غير أنه لم يصب، وقضى تلك الليلة الرهيبة على رصيف المستشفى مع جرحى يئنون من الألم، وممرضات وممرضين يخيطون جراحات الناس بلا بنج.
ومرة ثانية شعر الرجل بأنه ليس مواطناً كاملاً، كأن نجاته كانت علامة نقصان في حبه لبيروت. فالحب لا يتسع للناجين. هذه المدينة التي صارت في ذاكرته علامة على علاقة الجرح بالحب، تستحق أن يموت الإنسان معها حين تموت. وبيروت تُحتضر منذ الرابع من آب/أغسطس، بل لعلها ماتت منتصبة كصوامع القمح في المرفأ، التي شوه الانفجار ملامحها، وتحترق اليوم ببطء وتنهار في عاصفة من الغبار، كي يتم محو آخر أثر للجريمة- المجزرة.
على الرغم من هذين الاستثناءين، كان صاحبنا يشعر بأنه مصاب بوباء أشد فتكاً، هو وباء اللبنانيين بوطنهم المثخن بالجراح، وبأوبئة الاستبداد والانحطاط والاحتلال التي تجتاح المشرق العربي.
وأتى ذلك الصباح ليقول لصاحبنا بأنه انضم اليوم إلى قافلة المصابين بجائحة «كوفيد 19». وعلى الرغم من تأخر انضمامه إلى الموبوئين، غير أنه شعر بمزيج من الفرح والخوف.
فرح لأنه لم يكن يستسيغ فكرة أن لا يملك قصة شخصية عن الوباء يستطيع أن يرويها لأحفاده بعد انقشاع غيمة الكورونا، وخاف على الذين يحبهم من أن يكون قد نقل العدوى إليهم من دون إرادته.
عندما اتصل بي صديقي هذا الصباح وروى لي مشاعره المتناقضة، حاولت أن أطمئنه، لكنه بدا مطمئناً أكثر من اللازم، لم يرو سوى عن خوفه على الذين يحبهم، وطلب مني أن أجري اختبار P.C.R. كي أتأكد من أنني لم أصب.
«هل يكون الحب أداة لنقل المرض»؟ سألني.
«كبّر عقلك يا رجل! وحاولت أن أضفي نكهة أدبية على المسألة عبر تذكيره برواية غبريال غارسيا ماركيز «الحب في زمن الكوليرا» ومشهد راية الوباء التي رفعها العاشقان الكهلان على مقدمة سفينتهما في النهر.
«أنا لا أحب هذه الرواية»، قال خليل، «الحب ليس ذاكرة الحب كما في رواية ماركيز، الحب هو امتداد الروح في الروح. أما في هذه الرواية، فنحن أمام احتفال بالبراعة الأسلوبية المليئة بالتفنيص».
«لكنه تفنيص جميل»، قلت.
«هذا يعتمد على رأينا في الجمال»، قال. «الأدب يا عزيزي، هو أن نأخذ الواقع إلى تخومه الأخيرة، هذا هو معنى الخيال، وهذا ما نجده في روايات أخرى للكاتب نفسه، أما في هذه الرواية فهناك خفة في التعامل مع الوباء وآثاره المدمرة، كما أننا أمام لعبة حولت الحب إلى وهم».
ثم عاد إلى الكلام عن بيروت، وأوبئة هذا الزمن التي تحاصرها، وقال إنه يشعر بأن المدينة ماتت. «كيف تستطيع أن تعيش في مكان ميت من دون أن تموت، أو تتحول إلى مجرد شبح إنسان ميت؟ نحن موتى»، قال.
حاولت أن أشرح له بأنني أملك برهاناً على أن ما يقوله ليس صحيحاً، وقلت إن المشاعر المتناقضة التي تنتابه بسبب إصابته بوباء كورونا، هي دليل على أنه لا يزال حياً يُرزق.
ضحك خليل طويلاً، وسألني: «هل تعتقد أن ضحكي الآن هو علامة حياة أيضا؟».
لم أجب. ماذا أقول أمام لغة تقوم بإنهاء الكلام داخل منطق صارم، فلا ترى الأشياء إلا من منظور الحالة المأساوية التي وصلنا إليها هنا في لبنان، وهنا في فلسطين وسوريا؟
الأوبئة تفتك بنا وتفتك بالعالم الذي نعيش فيه، وأوبئة الروح أكثر إيلاماً من أوبئة الجسد. لكنني، وكي أنهي هذا الاتصال الهاتفي، قلت إن كلامه عن الموت قد يكون صحيحاً، لكن الصحيح أيضاً أن الموت هو أحد أشكال الحياة والتماعات قوتها التي لا تنضب.
«يعني تموت بيروت كي نشعر أنها حية»، قال. «هذا تفنيص أيضاً»، وأقفل الخط.
لا يا صاحبي، إذا نسينا كل شيء، فعلينا أن لا ننسى كيف وقف يسوع الناصري، عيسى بن مريم، أمام الصبية المستلقية على فراش الموت وأمسك بيدها وقال: «لماذا تضجون وتبكون، لم تمت الصبية لكنها نائمة».
وبيروتنا نائمة أيها الناس، وما تحتاج إليه ليس معجزة، بل أن نمد أيدينا ونمسك بيديها المجروحتين وننهض معها لأننا نموت معها.
وسوم: العدد 991