فوق القَصْرِ خيمَة

د. محمد عناد سليمان

د. محمد عناد سليمان

[email protected]

من العبارات الجميلة والحكايات التي كانت تحِّدثني عنها «والدتي» رحمها الله، قصَّة بعض الأغنياء الذين ينعمون بحالة من العيش المترف، لا ينفكُّون يتغزَّلون بالمال وكثرته، وطرق إيراده، وسُبُل صرفه، ولا يشغَلُ بالُهم ضنْكُ عيشٍ، أو ضيقُ حالٍ، أو عسْرَةُ يومٍ، أو حتَّى ساعة، لكن جلَّ ما كان يؤرِّقُهم، و«يغثُّ بالهم»، وينغِّص عيشهم في كلِّ لحظة يختلون بها مع أنفسهم، قضية السَّكن والإقامة والمبيت!!

نعم إنهَّا قضيَّة جوهريَّة بالنِّسبة إليهم، لكن هذا لا يعني أنَّهم لا يمكلون البيوت، أو القصور، أو المباني الفخمة، و«الفلل» الفارهة؛ بل على العكس من ذلك، ففي كلِّ بقعة أرض ابتاعوها أنشأووا لأنفسهم مسكنًا ومنزلاً، لكن هيهات هيهات ترتاحُ النُّفوس بها، وتطمئنُّ للجلوس على سجادها، فقد تعلَّقتْ أرواحهم بها، وظلَّت أوتادها ملتصقة بعقولهم، وامتزجت أحبالها بشراينهم، ورائحتها تذكِّرُهم بأوَّل واسطة نقل في «التَّاريخ»، فأنَّى لهم أن يهنأ عيشهم، أو تسْكُن  نفسهم، بعيدًا عنها، أو عدم النَّوم بين جنباتها !!

إنَّ نفوسهم توَّاقة إلى شكلِ «الخيمة» ورونقها، وعذب جلستها، ورشاقة أهلها، فنزعت نفوسهم، وبنَتْها فوق قصورهم، وفي أرض ديارهم، حتى أصبحوا من أهل«فوق القصر خيمة»، لكنَّ هذا التَّصوُّر لـ«لخمية» في عقول أهلها بدأت تغيِّرُه هموم الحياة العربيَّة، من شماله إلى جنوبه، ومن شرقه إلى غربه، فلم تعُدْ حالةً من التَّرف والرَّفاهيَّة، ولم تعد نموذجًا للأصالة العربيَّة البائدة؛ بل أصبحت رمزًا للشَّقاء والعذاب الملازمين لـ«لعرب» أينما وجدوا، وحيثما حلُّوا وارتحلوا، بعد أن أصبحت «حكوماتُهم وأنظمتُهم»رهينة لمن لم يرعَ فيهم إلاًّ ولا ذمَّة، وأصبح شغل «الحكَّام» الشَّاغل كيفيَّة الاستمرار في السَّيطرة على رقاب العباد، ونهب مقدَّرات «البلاد».

ولا يبتعد صديقنا «غسان كنفاني» عن تصوير واقع «الفلسطينييِّن» عندما شرَّدتْهم الظُّروف والأحوال في أصقاع الأرض، وأصبحوا «شَذَرَ مَذَر» بين بلدان لم يسمعوا لها همْسًا، فكانت روايتُه «خيمة عن خيمة تختلف» تصويرًا دقيقًا لما عليه واقع التَّشرُّد، وحال التفرُّق، في صرخة مدويَّة، ومناشدة لأهل السِّياسة والرِّياسة، أن يعودوا بذاكرتهم إلى أصلهم، وأن يعيدوا لـ«لخمية» كرامتها وعزَّتها ونشوتها، وأن تكون أوتادها عربيَّةَ الأصل والمنشأ، ونارُها رمزَ الكرم والكرامة، وحبالها عنوانًا للتَّآلف والمحبَّة.

لكنَّني أظنُّ جازمًا أنَّ «غسان كنفاني» لو بقي حيًّا إلى لحظتنا هذه، وما أصبح عليه حال «العرب» عامَّة، و«السُّورييِّن» خاصَّة، لعلم أنَّ «الخيمة التي اختلفت عنده لهي أفضل مئات المرَّات ممَّا عليه «الخيمة السُّوريَّة» الآن، ولصنع لها «تمثالاً» من ذهب، ولأقام لها «طقوسًا» تُنبيء بقداستها وجلالتها.

فـ«الخيمة السُّوريَّة» في «بلاد العرب أوطاني» لم تعد رمزًا لكلِّ ما يمتُّ إلى الأصالة والعروبة بصلة، ولم تعد تمثِّل إلأ المهانة والمذلَّة، ولم ولن تكون بعد اليوم رمزًا للحياة المترفة لأصحاب القصور و«الفِلل». لقد أضحت «الخيمة السُّوريَّة» في بلاد اللجوء رمزًا أبديًا للمأساة الإنسانيَّة، اختلطت فيها أوتادها بدماء أهلها، ودموع نسائها، وأنين صغارها، وأصبحت حبالها مصنوعة من أمعاء أطفالها، و«صُرر» خُدَّجِها، وأصبحت نارها جزءًا من «جهنَّم» التي لا تبقي ولا تَذَر، فلم تعد «الخيمة» عن «الخيمة» تختلف كما أراد الـ«كنفاني»، ولم تعد الجارة تذهب إلى الجارة إلا لتوديع شهيد، أو البكاء على فقيد.

بل إنَّ «الخيمة» أصبحت تختلف باختلاف مُنشئها، فـ«خيمةُ الأردن» لا تشبه «خيمة تركيا»، و«خيمة مصر» تختلف عن «خيمة العراق»، و«خيمة البرتغال» لا قرابة لها بـ«خيمة إيطاليا»، وثَّمة خيام جديدة لم تسمع بها يا «غسان»، إنَّها «خيمة مجوقلة» تقلُّ ساكنيها إلى موت محتَّم في عرض البحار، أو بين ثنايا حبَّات الثَّلج العربيَّة، وكذلك «خيمة الحدائق والمزارع»، و«خيمة الشَّوارع والأنفاق».

ولعلَّ ما يثير عناء «الخيمة» ذاتها أنَّها بُنيت في أرض من يَعْرف أصالتها ورمزيَّتها، ويعلم عذريَّتها التي قد تنذر بحرب «داحس والغبراء»، أو «حرب البسوس» إن هي انْتُهكت، أو دُنِّست أوتادها، أو قُطِّعت حبالها، أو أُطفئت نارها، لكن كلُّ هذا واقعٌ في «خيمة العصر»، ومهانة الدَّهر، إنَّها «الخيمة السُّوريَّة».