ماذا قال علي عبد الرازق عن الاستعمار الفرنسي في الجزائر؟
ماذا قال علي عبد الرازق
عن الاستعمار الفرنسي في الجزائر؟
أ.د مولود عويمر*
ارتبط اسم علي عبد الرازق بكتاب " الإسلام وأصول الحكم" الصادر في القاهرة سنة 1925 والذي أحدث آنذاك ضجة كبيرة في العالم العربي والإسلامي، وأثار فيه سجالا فكريا لم تشهد مثله الحياة الأدبية والدينية والسياسية، ولم يهدأ إلا بعد سحب شهادة العالمية من كاتبه وعزله من الوظيف.
وكان من أشهر العلماء الذين ردوا على هذا الكتاب الشيخان محمد الخضر حسين ومحمد الطاهر بن عاشور. وقد أحسنت دار نشر لبنانية حينما جمعت هذه النصوص الثلاثة ونشرتها مؤخرا في كتاب واحد بتقديم المفكر اللبناني الدكتور رضوان السيد.
فإذا كان الشيخ عبد الرازق جريئا في معالجة مسألة خطيرة كالخلافة الإسلامية وتبني رأي خارج السرب في عز الحركة الإصلاحية، والمتمثل في فصل الدين عن الدولة، ومعارضة إحياء نظام الخلافة الذي أسقطه كمال أتاتورك، فهل بلغت جرأته مستوى نقد السياسة الاستعمارية الفرنسية في الجزائر، أم أن دراسته في جامعة أكسفورد وتأثره بالثقافة الفرنسية ختما على بصره فعمي كما عميت أبصار المثقفين العرب الذين تأثروا بالفكر الغربي أكثر من اللازم فلا يرون في الغرب إلا الايجابيات والمحاسن؟
إن الإجابة نجدها في هذا النص المغمور لعلي عبد الرازق. وهو مقال نشره في عام 1927 في جريدة "السياسة". وهي صحيفة يومية تصدر في القاهرة عن حزب الأحرار الدستوريين بداية من عام 1922. وتولى رئاسة تحريرها الأديب المعروف الدكتور محمد حسين هيكل.
وفتحت الجريدة صفحاتها للأدباء والشعراء والمفكرين المصريين فكتب فيها طه حسين وعلي عبد الرازق ومحمد توفيق دياب ومحمود عزمي وإبراهيم عبد القادر المازني...الخ. وتوقفت عن الصدور في عام 1942 بسبب الحرب العالمية الثانية.
نشر الأستاذ علي عبد الرازق المقال تحت عنوان: "فرنسا في الجزائر"، وهذا نصه الكامل:
» يحتل الفرنسيون الجزائر منذ سبعة وتسعين عاما. وليس كنشاط الفرنسويين وذكائهم نشاط ولا ذكاء ولا كاليد الفرنسوية يد في عمل الزينة والتواليت، فلا عجب ان يصبح الجانب الأكبر من بلاد الجزائر عامرا زاهيا وكأنما استجاب الله فيها أمنية إسماعيل باشا الخديوي الأسبق التي تمناها لمصر فلم تعد الجزائر قطعة من إفريقيا ولكنها قطعة من أوروبا بل من خير أجزاء –فرنسا بل من خير أجزاء فرنسا- باريس.
أما الجزائريون أنفسهم فهم يفرون أمام ذلك التمدن الفرنساوي وينكمشون تدريجيا، كأنما تطاردهم تلك الحضارة الجديدة وتنزوي بهم إلى النائي السحيق من الأرض حيث لا تستطيع أان تمتد يد العمران، فلست ترى للجزائري بيتا كريما في المدن الكبيرة ولا دكانا وجيها، وقلما تلمحه في قهوة أوروبية أو عربة من عربات الدرجة الأولى من السكة الحديدية، حتى لقد تحسب بلادهم خلت منهم وحيل فيها بينهم وبين الحياة سائغة محترمة، فإذا ما التمستهم في المدن فلهم في كل مدينة ركن يطويهم لا ينفذون منه إلى الأقطار الأوروبية إلا تراجمة وسواقي عربات أو ليتكففوا أو يلتمسوا العيش استجداء.
وهم في نقص مطرد بالنسبة لما يغمرهم من سيل المهاجرين فرنسويين وغيرهم، حتى أصبح عددهم بالنسبة للأجانب كواحد إلى ستة، وقد تنزل النسبة في بعض البلاد كمدينة الجزائر نفسها فيبلغ الجزائريون فيها نحو الربع تقريبا.
إن تكن أساطير التاريخ القديم صادقة فثمة إذن أمم تبيد كما تبيد الناس والحيوانات، وتندثر كما تندثر البيوت والبلاد، وإن يكن صحيحا أن الأمم تبيد وتندثر فوشيكا سيشهد التاريخ الحديث لأول مرة في التاريخ الحديث مصرع أمة من البشر.
وليس بين الجزائريين وبين أن يموتوا ويقبروا إلا أن يتركوا مائة عام أخرى لما هم فيه حتى يجهز الجهل على بقية ما ترك الجهل لهم من عقول، ويأكل الفقر فضل ما ترك الفقر فيهم من أعظم وجلود، ويغتال الأجنبي من أيديهم ما نسي الأجنبي بأيديهم من عقار ومنقول. إن كان الجهل قد ترك لهم عقلا، أو كان الفقر قد ترك فيهم عظما وجلدا، أو كان الأجنبي قد نسي بأيديهم مالا أو ملكا.
إن يكون صحيحا أن أمة من البشر تموت فسيموت الجزائريون كما يموت الجياع تؤخذ لقمة العيش من أفواههم، وعريا لا يجدون خرقة تكسوهم، وجاهلون تسد أبواب العلم في وجوههم، وضعاف تسلط عليهم وحوش مفترسة جائعة.
قد يكون من مذاهب الاستعمار عند بعض الأمم المستعمرة أن تطارد الشعوب الضعيفة حتى تضيق بهم الأرض فيخرجوا من الأرض وأن تنزع أموالهم حتى يقتلهم الفقر، ليخلو العالم منهم وتقوم على آثارهم أمة متمدنة جديرة بالبقاء. فذلك أرضى للبشرية وأكمل للتمدن وأنفع للعالم.
وقد يكون لذلك المذهب قوته وقيمته لكني لا أصدق أن يكون هو مذهب الفرنساويين في احتلال الجزائر. الفرنساويون أول من جاهد في سبيل حق الإنسان لا يكونون أعداء الإنسانية، وأول من قرر مبدأ الحرية والإخاء والمساواة لا يكونون أول من يسجل التاريخ الحديث عدوا مبينا للحرية والإخاء والمساواة. والفرنساويون من أرقى الأمم في مدنيتهم ورقتهم لا يكونون متوحشين و لا مفترسين. والفرنساويون أذكياء يدركون أن اغتيال الضعيف وامتصاص دمه نوع من أشد أنواع الكانيباليزم إذا أساغته بعض الأذواق فليس يسيغه ذوق الفرنساويين. والفرنساويون بعد ذلك كله علماء يعرفون أن الأمم لن تموت ولن يموت الجزائريون.
إنما تموت الأفراد، لكن الأمة فوق الأفراد. الأمة معنى من المعاني الكلية ووجود من الموجودات العالية وسر من الأسرار الخفية تتجلى على الأفراد فإذا هم بشر ينتشرون، وتتجلى على الأرض فإذا بلاد قائمة، وأنهار جارية، وزروع نامية، وعلى الفضاء فإذا سحب تحمل الغيث وطيور سابحة تغني وعلى السماء فإذا شمس بالنهار ونجوم بالليل.
وهب الجزائريين بادوا حتى لا تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا فالأمة الجزائرية لن تبيد بل هي باقية خالدة، وينبت الجزائريون في أمتهم كما تقوم البلاد وتجري الأنهار وتنمو الزروع، وكما تتكون السحب وتحلق الطيور وتشرق الشمس وتضيء النجوم.
أما الجزائريون فلست أخشى عليهم ان يبيدوا ولكنما أخشى عليهم – يا رحمتاه لهم- أن تطول محنتهم ويزلزلوا زلزالا شديدا.
وأما الفرنساويون فلست أخشى أن يدعوهم الناس أكلة اللحوم البشرية ولكنما أخشى أن يقولوا عنهم أنهم كانوا يحكمون الجزائر فما أحسنوا سياسة الجزائريين ولا دفعوا عنهم شرا ولا أصلحوا لهم أمرا.
وللتاريخ قضاء، وفي هذه الدنيا جزاء. «انتهى.
لم يختلف كثيرا وصف علي عبد الرازق للجزائر والجزائريين عن وصف الأدباء والعلماء العرب الذين زاروا بلادنا في الثلث الأول من القرن العشرين، التي كانت تشهد تحولات عمرانية واقتصادية واجتماعية، وسيطرة العنصر الفرنسي والأوروبي على كل خيرات الأرض وثرواتها بينما كان الجزائريون محرومين منها.
غير أن الشيخ عبد الرازق اعتبر عزلة الجزائريين وابتعادهم عن المدينة تعبيرا عن عدم اكتراثهم بالمدنية الحديثة كأنهم يصرون على البقاء في التخلف؛ والصواب يكمن في أن الاستعمار هو الذي حرمهم من التمدن حينما فرض عليهم قيودا مادية ومعنوية صارمة تمنعهم من كل تقدم وتطور.
ولم تنجو منها إلا فئة قليلة التي استطاعت بطرق مختلفة أن تتجاوز هذه القوانين العنصرية الجائرة وتبلغ درجات عليا في التعليم والاحتكاك بالحضارة الحديثة والاستفادة منها.
لقد عبّر علي عبد الرازق وكل من زار الجزائر في تلك الحقبة التاريخية عن يأسه من مستقبل الجزائر نظرا للبؤس الذي ساد بين الجزائريين وتعنت الفرنسيين في سياستهم الاستيطانية ومحاربتهم لكل الرموز العربية والإسلامية.
ولم تتغيّر هذه الصورة القاتمة في المخْيال العربي إلا بعد ظهور جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في عام 1931 التي حملت لواء المقاومة الثقافية، وتواصل العمل السياسي تحت قيادة زعماء معروفين كمصالي الحاج وفرحات عباس وغيرهم للمطالبة بحقوق الجزائريين في مجالات مختلفة.
وجاءت ثورة أول نوفمبر 1954 لتقطع قول كل خطيب ميئوس، وتجنّد كل جزائري وعربي مخلص لتحرير الجزائر ونيل استقلالها المنشود.
لم يتوقف علي عبد الرازق عن النشاط الأدبي والفكري كما تزعم العديد من الدراسات المهتمة بتاريخ الفكر العربي المعاصر. فقد استمر في كتابة المقالات كما تبيّن هذه الوثيقة الموجودة بين أيدينا، والمشاركة في فعاليات الندوات والمؤتمرات العلمية.
ويكفي أن أشير هنا إلى أن هذا النص قد أرسله علي عبد الرازق إلى جريدة "السياسة" من تونس. فهل زار الجزائر خلال رحلته إلى تونس؟ وهل اطلع بنفسه على أحوال الجزائر والجزائريين التي وصفها في مقاله أم قرأها أو سمعها في تونس من التونسيين أو من النخبة الجزائرية المهاجرة إلى هذا البلد المجاور؟ إنها حقائق مدفونة في وثائق أخرى جديرة بالبحث والاكتشاف.
*أستاذ تاريخ الأفكار بجامعة الجزائر