قالوا رحّلوه وانصروا علمانيتكم إن كنتم فاعلين
محاكاة لمطلب " هيزن " الأعرابي الفارسي أو الكردي بتحريق سيدنا إبراهيم عليه السلام ،ونصرة لأصنام النمرود كما جاء في كتب التفسير تفسيرا لقوله تعالى : (( قالوا حرّقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين )) ، طالبت زعيمة اليمين المتطرف في فرنسا " لوبان " الداخلية الفرنسية بترحيل إمام مغربي انتصارا للعلمانية الفرنسية بتهمة نشر خطاب الكراهية والتحريض عليه عبر وسائل التواصل الاجتماعي .
ولقد سجل اضطراب لدى كل الأطراف التي أرادت ترحيله خصوصا حين غادر فرنسا محققا رغبتها طواعية قبل أن تطبق عليه الترحيل ، فاعتبر البعض رحيله استجابة لقرار فرنسا ، وبناء عليه لا يمكن أن يتابع قضائيا ،لأنه ليس في حكم المدان ، بينما اعتبر البعض الآخر أن ما فعله فيه مساس بكبرياء فرنسا التي يجب أن تطبق عليه الترحيل انتصارا لكبريائها . ولا زال الجدل والخلاف قائما بخصوص ما تم اتخاذه من قرار في حق هذا الإمام المتأرجح حاله بين الفار أو الراحل طواعية ،وبين الماس بكبرياء من أرادوا ترحيله قسرا وإهانة .
وقبل أسابيع قليلة وقع حادث مثير للاستغراب بأحد الفنادق في بلادنا حيث طالبت مجموعة من السياح الفرنسيين من حراس الفندق طرد مواطنة مغربية كانت تفسد عليهم سباحتهم في مسبح الفندق وهي ترتدي لباس "البوركيني" انتصارا " للبيكيني " العلماني ، وهكذا لم يعد المنتصرون للعلمانية الفرنسية يقتصرون على الانتصار لها فوق التراب الفرنسي فقط بل صاروا يطالبون بذلك دون خجل حتى خارج مستعمرات فرنسا السابقة وحالهم كما يقول المثل الشعبي المغربي : " في عشنا وينشنا " فما بالنا إن كنا في عش فرنسا التي صار دون حصولنا على تأشيرات ولوج عشها خرط القتاد مع في ذلك من إهانة ؟
نعود إلى موضوع الإمام المرحّل لنقول إن فرنسا التي ألزمت نفسها بعلمانيتها يلزمها أن تحترم ما ترفعه هذه الأخيرة من شعارات وعلى رأسها حرية الرأي وحرية التعبير ، وحرية الجسد أيضا بحيث تسبح صاحبة " البوركيني " إلى جنب صاحبة " البيكيني " في نفس المسبح ، وفي نفس البحر وتتمدد على رمال نفس الشاطىء ، وتدرس أو تعمل المحجبة جنبا إلى جنب مع الحاسر أو المتبرجة حتى لا تختل القيم والشعارات العلمانية التي تفخر بها فرنسا وهي تعتبر نفسها رائدة وقيدومة من يحذون حذوها في السير على النهج العلماني . وبناء على هذا فإن ما صدر عن الإمام المغربي المغترب في الديار الفرنسية لا يعدو ما تسمح به العلمانية الفرنسية من حرية الرأي وحرية التعبير ما دام الفرنسي العلماني يتمتع بحريته كاملة غير منقوصة في التعبير عن علمانيته بل قد يذهب بعيدا في ذلك إلى حد رسم رسوم كاريكاتورية لمقدساتنا الإسلامية ،وعلى رأسها شخص النبي الكريم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم . ولا ندري لماذا تعتبر فرنسا العلمانية هذه الرسوم حرية تعبير ، وفي المقابل تصادر حرية الإمام المغربي في التعبير عن رأيه، وهو الذي غرته شعارات فرنسا العلمانية فقصدها للتمتع بفائض الحريات فيها .
وعوض أن تعالج العلمانية الفرنسية قضية الإمام المغربي عن طريق مقارعة الرأي بالرأي ، فإنها لجأت إلى أسلوب ترحيله قصرا معبرة عن تناقضها الصارخ مع نفسها، وهي تجمع في نفس الوقت بين شعار الدفاع عن الحريات نظريا ، وبين مصادرتها والتضييق عليها بل ومعاقبة من يمارسها بالترحيل والطرد عمليا وإجرائيا .
ومن المغالطات التي تسوقها العلمانية الفرنسية التي شرعت لنفسها ما سمته إسلاما فرنسيا ، وليس ذلك من حقها ، وما ينبغي لها أن كل من يتحدث بشيء من الخطاب القرآني أو خطاب الحديث النبوي الشريف يعتبر مروجا لخطاب الكراهية ، وهي تتهم تحديدا و عن قصد وسبق إصرار بذلك ما في كلام الله عز وجل ، وما في كلام رسوله صلى الله عليه وسلم بهذه التهمة، ذلك أن في كلام الله عز وجل وفي حديث رسوله صلى الله عليه وسلم تصنيف للبشر بناء على اعتقادهم ،ففيهم المؤمن ،والكتابي، والكافر، والمنافق ، الفاسق ... ولا يمكن بوجه من الوجوه أن يتحدث إمام أو خطيب أو عالم أو داعية عن هذه الفئات كما جاء ذكرها في القرآن الكريم ، وفي الحديث الشريف ، فيعتبر بذلك داعيا للكراهية ومحرضا عليها .
وإذا صح أن من يفعل ذلك يكون بالفعل متابعا بهذه التهمة ، فماذا يمكن أن يقال عمن يتحدثون عما في الكتاب المقدس بعهديه القديم والحديث، وما في غيرهما من تلمود وغيره من تصنيف للبشر ؟ إنه لعمري كيل مزدوج تكيل به العلمانية الفرنسية وأخواتها دون خجل من نفسها .
وفي الأخير نختم بالقول إن من شجع العلمانية الفرنسية على ترحيل الإمام المغربي هو إجراءات اتخذتها الوزارة الوصية على الدين عندنا في حق أئمة وخطباء كثر بالعزل وقد اتهموا بالخروج عن تعليماتها وهم ينتقدون أو يحذرون من بعض الأمور التي يرونها مخالفة لتعاليم ديننا دون أن يحالوا على مساءلة أمام لجان للمجالس العلمية التي لها وحدها حق البث في ما يصدر عن الأئمة والخطباء من مخالفات أو هفوات بشرط صحتها وثبوتها ، ولها وحدها سلطة الحكم والقضاء بعزلهم أو غير ذلك مما تقضي به من إجراءات تأديبية والتي يجب أن تكون بالضرورة شرعية ، خالية من أي نوع من المزاجية .
وحين يحين الوقت الذي يحترم فيه الإمام والخطيب وطنه ، فإنه سيحظى أيضا بالاحترام حيثما حل خارج وطنه .
وسوم: العدد 996