دولة الحرية والإسلام

مجاهد ديرانية

عنوان المقالة هو وصفُ الدولة التي أحب أن تقوم في سوريا، وهي الدولة التي أتمنى أن أعيش فيها أنا وأولادي وأحفادي وحَفَدةُ الأحفاد. إنها دولةٌ تجمع الصفتين معاً -التديّن والحرية- ولا تنفرد بواحدة منهما، لذلك لم أحبّ قط أن أعيش في دول الغرب رغم حريتها، لأن الحرية فيها بلا إسلام صارت تفلتاً وبهيمية لا تُطاق، ولم أحب قط أن أعيش في دولة طالبان رغم إسلاميتها، لأن الإسلام فيها بلا حرية صار قيداً آسراً ولم يعد طريقاً لصفاء الروح وصلاح المعاش والمعاد.

إنني أصرّ على جمع الصفتين معاً في الدولة التي أريد لأن الحرية ثمرة طبيعية من ثمرات الإسلام، وأرجو أن يكون عامةُ السوريين مثلي حتى يحصلوا على أفضل دولة في العالم. ولو أن الصفتين لم تجتمعا في دولة واحدة ثم خُيِّرتُ بين دولة الحرية ودولة الإسلام (وأرجو أن لا أضطر إلى مثل هذا الاختيار) فلن أتردد في اختيار دولة الحرية، لأن الدولة المستبدّة التي تصادر حريات الناس بسبب الدين لا تلبث أن تصادرها بغيره من الأسباب، ثم تتحول بسرعة وخلال جيل واحد أو اثنين إلى الاستبداد المطلق، ويفقد الدينُ دورَه الفاعل في الحياة ويتحول إلى "أداة" من أدوات السلطة، فتكاد تقتصر قيمته على منح الشرعية للحكام المستبدين. ولنا في التاريخ عبرة.

في ضوء المقدمة السابقة سأناقش بإيجاز ثلاثةَ مشروعات للدولة السورية القادمة: المشروع الدولي، والمشروع العلماني، والمشروع الداعشي.

*   *   *

إن "الدولة" التي يتبناها المجتمع الدولي ويدفع إليها من خلال المؤتمرات والمفاوضات السياسية تقوم على تزاوج غريب بين طرفَي النزاع، فهي تقترح دمج جزء من المعارضة بكتلة كبيرة من النظام القديم لإنشاء نظام خِلاسيّ هَجين جديد.

غير أننا نعلم أن النظام الطائفي النصيري البعثي الذي احتل سوريا خلال السنوات الخمسين الماضية يتناقض تناقضاً جذرياً مع الحرية وكرامة الإنسان، فإذا بقي هذا النظام أو بقي أي جزء منه -ولو كان جزءاً ضئيلاً- فإن الشعب السوري سيظلّ محروماً من حريته وكرامته في المستقبل كما حُرم منهما في الماضي، وبالمقابل فإن حصول السوريين على الحرية والكرامة يعني الفناء التلقائي للنظام ويقتضي نهايته الحتمية.

لذلك فإن أي حل للمشكلة السورية يتضمن بقاءَ أي جزء من النظام هو حل مرفوض لأنه سيحرم أهل سوريا من حريتهم التي يقاتلون من أجلها منذ ثلاث سنين، حرية الدين وحرية الحياة، فهو يتعارض تعارضاً كلياً مع الحرية ويتعارض تعارضاً كلياً مع الإسلام. وبذلك يسقط المشروع السياسي الدولي.

*   *   *

المشروع العلماني قد يوفر للسوريين جزءاً من الحرية ولكنه يصادر جزءاً آخر، بل إنه يصادر الجزء الأهم، وهو حرية التديّن وحرية الدعوة إلى الإسلام. فإنه يبدأ بفصل الدولة عن الدين، ثم يتدرّج في تقييد التديّن، ولا يلبث أن يقوم بتفكيك الدين واختيار بعض مكوّناته "الآمنة" ونفي سائر المكونات (التي تهدد الكيان العلماني) عن الحياة السياسية والاجتماعية والدينية والثقافية، وفي النهاية نحصل على دولة تدّعي حماية الحريات ولكنها -في الحقيقة- تصادر أهم الحريات وأكثرَها قداسةً في حياة المسلمين، وهي حرية الدين.

لقد علّمتنا عشرات التجارب السابقة في عالمنا العربي والإسلامي أن العلمانيين يَقبلون الحرية ما لم تهدد مشروعهم العلماني، فإذا كانت ثمرتُها اختيارَ الإسلام لحكم البلاد فإنهم لا يبالون بها ولا يقيمون لها وزناً، ولا يخجلون من مصادرة حق الأكثرية في الاختيار.

لذلك فإن أي حل للمشكلة السورية يتضمن إنشاء نظام حكم علماني هو حل مرفوض، لأنه سيحرم أهل سوريا من حريتهم الدينية التي يعتبرونها أهم وأقدس الحريات، وهو يتعارض تعارضاً جزئياً مع الحرية وتعارضاً كلياً مع الإسلام. وبذلك يسقط المشروع السياسي العلماني.

*   *   *

المشروع الداعشي (مشروع الدولة الإسلامية في العراق والشام) يزعم أنه يقدّم النموذجَ الإسلامي للدولة، وهو في حقيقته يَحْرم السوريين من حريتهم ويفرض عليهم "نسخة" خاصة من الإسلام لا يملكون أدنى حق في قبولها أو رفضها. ولاتعجبوا من قولي "نسخة من الإسلام"، فإن الدين واحد له كتاب واحد، ولكن الأحكام الشرعية التي نطبّقها في حياتنا هي خلاصة فهمنا البشري للدين ولنصوصه المعصومة. فالنص واحد معصوم ولكن الفهم متعدد متنوع غيرُ معصوم، وما يصنعه مشروع داعش هو فرض نوع من أنواع الفهم البشري للإسلام على سوريا وأهلها دون أي اعتبار لفهم الآخرين من أئمة الدين وفقهاء الأمة المعتبَرين.

إن المشروع الداعشي يصادر حريات الناس ويفرض على المجتمع شكلاً محدداً من أشكال التدين، وهو يَحْرم الجمهور من حق الاختيار بمنطق الوصاية وتسليط مَن يسميهم "أهل الحل والعقد"، الذين لا يعرف أحدٌ من أين جاؤوا ولم يكن للناس يد في اختيارهم في أي وقت من الأوقات.

لذلك فإن أي حل للمشكلة السورية يتضمن إنشاء نظام حكم على الطريقة الداعشية هو حل مرفوض، لأنه يتعارض تعارضاً كلياً مع الحرية ويتعارض تعارضاً جزئياً مع الإسلام الحقيقي بسعته ومرونته اللتين ارتضاهما له الله. وبذلك يسقط المشروع السياسي الداعشي.

*   *   *

بقي المشروع السياسي للجبهة الإسلامية الجديدة. وبما أن الجبهة تمثل أفضل مشروع عسكري في سوريا فإننا نرجو لها أن تحمل أفضل مشروع سياسي أيضاً، ولكن المشروع السياسي الذي طرحَته في ميثاقها المقتضَب ليس كذلك، ومن ثَمّ فإنه يستحق وقفة مفصَّلة لمناقشته، وهذا ما سأصنعه في مقالة آتية مستقلة إن شاء الله.