العبوا أرضي… يا صحافة الاحتلال
فوجئ الإسرائيليون بالرّفض الشّعبي العربي للتعامل مع صحافييهم، وهتاف البعض في وجوههم بعفوية «فلسطين فلسطين»، علماً أنهم توقعوا على ما يبدو أن تهتف الجماهير «عاشت إسرائيل عاشت إسرائيل»، عاشت من البحر إلى النهر»، توقّعوا أن يهتف العرب «الموت للعرب الموت للعرب» على طريقة جمهور بيتار القدس، أو «الموت لنا لأننا عرب»، «أهلاً بأبطال الإعلام الإسرائيلي، أهلاً بممثلي أرحم وأجمل وأفخم احتلال في التاريخ».
فوجئوا لأنه كان يفترض أن يستقبلوهم بالدبكة والمزامير وهتاف… «أهلاً بالنكبة الجديدة، أهلاً بالنكبة الجديدة»، «هيّا هيّا يا أحباب اهدموا الأقصى وأريحونا منه»، «إسحاق يِس…إسماعيل نو… سارة يِسّْ، هاجر نووو…
فوجئوا أن البعض من جمهور الدول المطبّعة ومن عقدت اتفاقيات سلام قال لهم.. بلّوا الاتفاقيات واشربوا ميّتها، فهي لا تمثلنا.
في فلسطين فوجئوا من مفاجأة الإسرائيليين، ولم يصدّقوا بأن الإسرائيليين يتحدّثون بجدّية عن تفاجُئِهم! عنْ جدّ متفاجئون؟ ماذا توقّعتم مثلاً؟ ولَك يخرِب بيتكم، على شو تريدون من العرب أن يحبّوكم! تكذبون الكذبة ثم تصدقونها! هل توقّعتم أن تحبس الجماهير العربية أنفاسها وتنتظر وصولكم، لتهلّل وتكبّر وتنشد طلع البدر علينا! يبدو أن الإسرائيليين يعيشون وهماً بأنّ الأنظمة العربية هي نُسخة صادقة عن شعوبها.
ممكن يا حضرة الإسرائيلي أن تسأل مثلاً، هل توجَّه مُوقِّعو اتفاقات السّلام أو التطبيع وغيرها إلى شعوبهم باستفتاءات نعم أم لا؟ هل أجريت استطلاعات رأي في الوطن العربي عن العلاقة بإسرائيل وكيف يرونها؟ ومن يتحمل مسؤولية سفك الدماء في فلسطين مثلاً؟
توجّه الصحافيون إلى جماهير كرة القدم، وهي عموماً الشرائح الأكثر شعبية وعفوية، وطلبوا التقاط الصور معها، وليس هذا فقط، بل مع التعريف بأنفسهم «نحن إسرائيليون»، فيقفز العربي وحتى البرازيلي والياباني مبتعدين: «إسرائيل نووووو».
محبطٌ جداً أن لا تحظى من بين آلاف المحاولات، بمن يقبل بالتقاط صورة معك! يعني فُرصة الفوز باللقطة المشتهاة، هي مثل نسبة الفوز لمن يملأ نماذج اليانصيب الرّقمي (اللوتو).
في الحقيقة لاحظت أنّ الجماهير العربية مهذّبة جداً، فقد رفضت الإسرائيلي عموماً بصورة حضارية، رفضته ونبذته مع ابتسامة أحياناً، ومن دون غضب في أكثر الحالات، بعضهم وضع العلم الفلسطيني على رأسه أو أمام الكاميرا، ومن دون أذى، بل بخفّة دمّ في أحيان كثيرة، أما من هتفوا في وجوههم غاضبين، فهم أولئك الذين أصرَّ الصحافيون على استفزازهم، بكلمات مثل إسرائيل أمر واقع، وإسرائيل إلى يوم القيامة، وغيرها.
تصرّفَّ الإسرائيلي في وهم بأن العرب ضاقوا ذرعاً بقضية فلسطين وأصحابها، وصاروا متلهفين للقاء السّوبرمان الأسطوري لالتقاط صورة تذكارية معه، توهّموا بأن البُعبع الإيراني وحّد العرب مع إسرائيل، وأنساهم حقيقتها!
وهو موقف غريب، يعني حتى لو رأى بعض العرب في إيران خطراً عليهم، فهل هذا يعني التواطؤ مع جرائم الاحتلال في فلسطين؟!
ما يجري في فلسطين ليس معزولاً عن الشعوب العربية ولا العالم، رغم تعتيم بعض الأنظمة، فوسائل التواصل الاجتماعي تنقل ما يحدث في اللحظة ذاتها، وصورة مستوطن ملثّم بقناع أسود يقطع بمنشاره أشجار الزيتون الفلسطينية ويعتدي على مُسنٍ يعتمر الكوفية بالضّرب، تحت سمع ونظر وحماية الجيش، ممكن أن توقظ كراهية عشرات ملايين العرب، وتُشعرَهم بالإهانة، وتذكّرهم بكل ما قامت به إسرائيل في الماضي وما تمارسه في الحاضر. ناهيك عن الشُّهداء من مختلف الأعمار والحالات.
أيها المتفاجئون، هل تذكرون صوت وصورة شيرين أبو عاقلة، هل تذكرون جنازتها؟ هل تذكرون كيف غطّيتم الحدث؟
ما هو موقفكم من مقتل حوالي ستين صحافياً فلسطينياً وعربياً في قطاع غزة والضفة الغربية منذ انتفاضة عام 2000 إلى يومنا برصاص جيش الاحتلال! هل اتّخذتم ولو مرة واحدة موقفاً مناصراً لمهنتكم وللحقيقة بلا لف ولا دوران!
هل تعتبرون أنكم صحافة حرّة، وأنّكم أفضل من غيركم رغم تجندكم وانحيازكم وامتثالكم إلى روايات الجيش والشرطة، فيما يخص كل حوادث القتل للفلسطينيين والعرب؟
كم ألف مرة أدنتم الضحايا ظلماً وكذباً؟
الجيش يحقّق مع نفسه وكذلك الشرطة، وأنتم تردّدون ما يقوله الجيش.
صحافي إسرائيلي يصيح مستغرباً موقف شاب مغربي: نحن عقدنا معكم اتفاقات سلام.
هل توقيع اتفاق سلام يعني التسامح مع جرائم الاحتلال، هل هذا فهمكم للسّلام؟!
لقد أوهم الإعلام الإسرائيلي نفسه وشعبه، بأن ظهور عربي هنا أو آخر هناك، على وسائل التواصل معبّراً عن عشقه لإسرائيل ويرفع رايتها، ويغني بضع كلمات بالعبرية، بأنها حالة عامة تشير إلى نبض الجماهير العربية!
الشعوب العربية ستكره إسرائيل ليس فقط لقمعها الفلسطينيين، بل لأنها بالذات حليفة لأنظمة تقمع شعوبها.
من جهة أخرى، فهذه رسائل للأنظمة العربية بأن تنصت جيّداً لنبض شعوبها،
حتى الجماهير الأجنبية شعرت بأن التقرّب من الإسرائيليين ليس عملاً حكيماً، ولهذا ابتعدوا عنهم، وراح بعضهم يرفع الأعلام ويهتف لفلسطين، ليكسب شعبية بين الجمهور العربي، بل إن المراسلين الإسرائيليين صاروا ينكرون إسرائيليتهم، درءاً للتعرُّض للسخرية والهتافات، ولا نقول الضرب والرصاص كما يحدث للصحافيين الفلسطينيين والعرب.
كل هذا يجري على خلفية الغرور الغربي ورهانه على فشل المونديال، وانتقاداته العنصرية وتحريضه الذي استهدف دولة قطر، بما في ذلك الإعلام الإسرائيلي الذي انضم إلى هذه الجوقة، وصوّر المونديال في قطر ككارثة بيئية،
وهذا جعل العرب يشعرون أكثر وأكثر بأنهم مستهدفون، بلا استثناءات.
لا أظن أن الإسرائيليين سوف يستوعبون الدرس، فالإجابة عندهم واضحة، وبكل بساطة سيقولون إن الشعوب تكرهنا لأننا أفضل، وأشدُّ ذكاءً وأغنى وأجمل، سوف يستحضرون المبررات منذ فرعون إلى يومنا، سوى الاعتراف بالحقيقة.
عندما يكون لاعبو فريق كرة القدم قصيري القامات، تسمع كابتن فريقهم يصيح بهم «إلعب أرضي»، أي اجعل التمريرات أرضية، لأنه لا نصيب لك مع القامات العالية.
العب أرضي، صار مجازاً، فمن يختلف مع شخص ما ويريد تحذيره يقول له: «العب أرضي»، والآخر يفهم بأن يخفّف قليلاً من الهجوم أو من الحدة في طرح الأمور، وبأن لا يذهب بعيداً، وأن لا يوسّع دائرة الخلاف والمواجهة أكثر، بل عليه أن يتراجع، ولا داعي لتسخين الوضع أكثر، فالعبوا أرضي بقاماتكم القصيرة يا صحافة الاحتلال..
وسوم: العدد 1009