شباب الانتفاضة على طريق الانتفاضة الفلسطينية
منير شفيق
يبدو المشهد الخارجي لفلسطين والقضية الفلسطينية ضبابياً في أحسن الحالات، وسوداوياً في نظر الكثيرين. فالعرب منذ العام 2011 غرقوا في شؤونهم القطرية مع اندلاع الثورتين التونسية والمصرية وتداعياتهما من المحيط إلى الخليج. فذهب الكثيرون إلى القول أن فلسطين غابت عن المشهد وفقدت قضيتُها مكانتها المركزية.
وفي فلسطين تكرس الانقسام، وزادت وتيرة الإستيطان في الضفة، وتعاظم التهويد في القدس وفي المناطق المحتلة منذ 1948 لا سيما في النقب وعكا ويافا. وقد اعتبر الكثيرون بأن الكيان الصهيوني في أفضل حالاته بسبب ما يسود الوضع العربي من صراعات وانقسامات واقتتال داخلي.
وجاءت المفاوضات بين سلطة رام الله وحكومة نتنياهو لتغطي الاستيطان والتهويد وتهدد الوضع بالتوصل إلى اتفاق ما، طويل الأمد، فيما تمادت قوات الأمن الفلسطينية في التصدي لمنع التظاهرات وقمع المقاومة. ثم ازداد الطين بِلّة مع قرار المصري بإحكام إغلاق المعابر وتدمير الأنفاق (شريان الحياة والتسلح في ظل حصار قطاع غزة). بل وأُحكِم الحصار على القطاع من جانب سلطة رام الله أيضاً مع مضاعفة أسعار النفط مما أغرق غزة ومخيماتها في الظلام وحرمهما من الطاقة عموماً.
إن كلاً من المفاوضات من جهة، وإحكام الحصار على قطاع غزة وهدْم الأنفاق من جهة ثانية، تشكلان فعلاً صورة سوداوية على سطح المشهد وعمقه.
ولكن انشغال الداخل العربي في قضايا التغيير، وما يتداعى عنها من صراعات وانقسامات يمكن أن يُرى من خلال أكثر من زاوية لا تذهب إلى الضبابية والسوداوية. لأن الانشغال في إحداث تغيير جذري في الأوضاع القطرية العربية عموماً مسألة ضرورية لفلسطين وقضيتها استراتيجياً. فإذا تراجع وضع القضية الفلسطينية على الأجندة لا يعني إرسالها إلى عالم الغياب والتجاهل. فهو بالتأكيد سيكون مؤقتاً، وفي الأصل لم تكن القضية الفلسطينية (تحرير فلسطين) على رأس أجندة الأوضاع الرسمية العربية منذ 1948 وقبلها. وكان ذلك دائماً محط الشكوى بل في موضع الاتهام بالمسؤولية عما أصاب فلسطين من نكبة ونكسات، وما واجهته مقاومة شعبها من عراقيل وحصار وحتى تصفيات.
هنا ثمة مبالغة كبيرة في الندب على القضية الفلسطينية بسبب ما حدث ويحدث من تغيير في الوضع العربي الداخلي. وكان دافعه في الأغلب استخدامه لأغراض أخرى لا علاقة لها بالحرص على أولوية القضية الفلسطينية. والدليل أن أصواتا كثيرة تباكت على فلسطين خلال 2011 حتى منتصف 2013 توارت الآن وحتى صمتت وهي ترى الهدم الشامل للأنفاق وإحكام الحصار وعودة المفاوضات بين سلطة رام الله وحكومة نتنياهو وبإشراف مباشر من الإدارة الأمريكية.
علماً أن إحكام الحصار على قطاع غزة وهدم الأنفاق والعودة إلى مفاوضات التسوية هو ما يشكل جانباً سلبياً خطراً ضد المقاومة والقضية الفلسطينية لأنه يمسّ مباشرة الإنجاز الاستراتيجي الكبير في موازين القوى. عندما أصبح قطاع غزة قاعدة عسكرية للمقاومة مستعصية على العدو الصهيوني. إلى جانب خطر ما تحمله المفاوضات من تنازلات فكيف إذا ما وصلت إلى اتفاق ما.
أما انشغال الداخل العربي في إعادة ترتيب أوضاعه فلا يجوز أن يُعتبر سلبياً على القضية الفلسطينية من حيث أتى، أو من حيث المبدأ. بل أن ما يتضمنه هذا الانشغال في المرحلة الراهنة من تغييرات يتجه لتحرير الإرادة العربية في ظل تراجع السيطرة الأميركية وتعاظم المأزق الصهيوني ومن ثم سيكون في مصلحة القضية الفلسطينية أو في الأقل في غير مصلحة أمريكا والكيان الصهيوني.
هذا من دون التقليل من خطورة ما تحمله الصراعات الدائرة الآن من احتمالات انقسامية وتجزيئية أو حروب أهلية أو شبه حروب أهلية وفتن، والخطر هنا على المستقبل العربي كله وليس فقط على القضية الفلسطينية.
ولكن الجانب الذي يناقض ما يظهر على سطح المشهد العام من سلبيات تغري بالنظرة السوداوية أو تدعو إلى التشاؤم، فيتجسّد على المستوى العربي العام ومستوى الوضع الفلسطيني في ما راح يبديه الشباب والشابات من مثابرة على النضال والمقاومة الشعبية السلمية والتجرؤ على الإمعان في كسر حواجز الخوف من البطش والقمع، وفي التخلي عن اللامبالاة السياسية، كما الإبداع في تطوير أشكال التحدي والكفاح الشعبي.
وإذا كان الهم هنا هو تبديد القلق الذي أخذ يسبّبه ما يظهر على سطح المشهد من سلبيات فمن الضروري أن نلاحظ أولاً ما تعانيه أمريكا وأوروبا من ضعف وتراجع لسيطرتها العالمية. وهي السيطرة التي لعبت الدور الأول في كل ما تعرضت له فلسطين من هجرة يهودية وإقامة دولة الكيان الصهيوني وتوّسعه وما امتلكه من تفوّق عسكري. ولهذا فإن الكيان الصهيوني الآن، وهو يملك القنابل النووية والصواريخ البالستية، ويستشرس في الاستيطان والتهويد، يعاني من مآزق حقيقية بسبب ارتباط قوته ومنعته بعامل السيطرة الغربية العالمية قوّة وضعفاً. هذه السيطرة التي قدّمت له فلسطين على طبق من فضة حين جزأت البلاد العربية وتحكمت بتسلحها وسيطرت على أوضاعها ردحاً طويلاً من الزمن، كما حين احتلت بريطانيا فلسطين بمائة ألف جندي. وقد حرمت الشعب الفلسطيني من التسلح، وأمّنت تشكيل جيش للمهاجرين الصهاينة لطرد ثلثي الشعب الفلسطيني من أرضه وإقامة دولة الكيان عليها.
أما الجانب الثاني في تصحيح قراءة المشهد الراهن فيجب أن يُلاحَظ من خلال أهمية انحسار الهيمنة الأميركية والأوروبية عن الوضع العربي والإسلامي بصورة لم يحدث لها مثيل منذ 1917.
على أن الجانب الثالث، وهو الأهم في هذه اللحظات في تصحيح قراءة المشهد فيتجسّد بصمود قطاع غزة من جهة وفي ما تشهده الضفة الغربية وقطاع غزة من حراك شبابي أخذ يشق الطريق باتجاه انتفاضة في الضفة الغربية وكسر الحصار عن القطاع من جهة أخرى.
مَنْ يُراجِع بيانات "ائتلاف شباب الانتفاضة" يلحظ أن ثمة حراكاً شبابياً يومياً ومواظباً، تقريباً، يتجه مع كل مناسبة، يدعو فيها الائتلاف للتحرك إلى نقاط التماس مع العدو. فعلى سبيل المثال انطلقت مجموعات من الشباب والشابات يوم الجمعة الفائت تحت شعار "الثأر للشهداء الثلاثة الذين قتلهم العدو في مدينة يطا إلى جانب استشهاد فتاة في حالة خطر داخل سيارة الإسعاف على حاجز الكونتيز بسبب منع الحاجز من وصولها إلى المشفى، وإلى جانب استشهاد شاب في مخيم قلنديا متأثراً بجراحه.
ففي ذلك اليوم اشتبك الشباب والشابات مع العدو على حاجز قلنديا وحاجز عطارة في رام الله، وحاجز كفرقدوم في قلقيلية والمعصرة ومخيم عايدة وبيت أمرّ، ومخيم الفوّار، ومخيم العروب، وباب الشلالة في الخليل، وكذلك في الرام وقريتي العيزارية وأبو ديس وراس كبسة في القدس، فضلاً عن الإشتباكات في بلعين ونعلين والنبي صالح ومحيط سجن عوفر، وفي قرية سلواد شمالي رام الله (أصيب جندي بحجر في وجهه واعتقل فتى في الخامسة عشر عاماً).
فبعد صلاة الجمعة انطلق الحراك الشبابي في كل تلك النقاط الُمواجِهة للعدو حيث تمّ الاشتباك بالحجارة وتحت الشعارات التي حدّدها ائتلاف شباب الانتفاضة. وقد ردّ العدو بالقنابل الصوتية والمسيلة للدموع والرصاص المطاطي وأحياناً بالرصاص الحي.
وكان من بين النشاطات الشبابية على النمط نفسه، وكلها في مواجهة حواجز العدو، ما دعا له لائتلاف من حراك ضد مشروع برافر الذي يستهدف مصادرة حوالى 80 ألف دونم من الأرض وتهجير ما يقارب سبعين ألفاً من سكانه وهدم 38 قرية عربية. هذا ويذكر بمناسبة الحراك ضد مشروع برافر والذي انطلق من الأراضي المحتلة عام 1948 بأنه لقى تجاوباً واسعاً في قطاع غزة والضفة الغربية وفي عدد من مواقع الشتات الفلسطيني. مما دلّل على إرهاصات نهوض فلسطيني يجب أن يُسّجَل في خانة الإيجابيات في قراءة الوضع العام.
وقد جاء الحراك الذي نظمه الإئتلاف في قطاع غزة لكسر الحصار البحري الصهيوني الذي منع صيد الأسماك في حدود ستة أميال بحرية (كان قد أُجْبَِرَ عليها في حرب الثمانية أيام). وذلك بإطلاق تظاهرة بحرية في 2/12/2013 ضمّت عشرين مركباً عليها حوالى المائتين من الشباب والفتيات وبعض المتضامنين من السويد والولايات المتحدة الأميركية وعدد من صيادي الأسماك والإعلاميين. وكانت النتيجة تراجعاً للعدو عن تهديداته العسكرية بمنع القافلة من الوصول إلى هدفها. ولكن القافلة اتسّمت بالصمود والإصرار والتحدي والشجاعة فيما وقفت البارجة الحربية، برشاشاتها وصواريخها عاجزة مرتبكة متردّدة. فكان ذلك الحراك نصراً جزئياً. ولكن لا يخلو من مغزى، يوجب أن يُقرَأ جيداً من أجل إطلاق الإنتفاضة الشاملة المصمّمة طويلة النفس. الأمر الذي يسمح بالقول أن النصر سيكون بانتظارهما، لتفرض دحراً لقوات الاحتلال وتفكيكاً للمستوطنات وإنقاذاً للقدس والأقصى وإطلاقاً لكل الأسرى، وبلا قيد أو شرط.
لقد أثبت الخط السياسي والعملي الذي تبناه ائتلاف شباب الانتفاضة صحته حتى الآن. وذلك من ناحية التركيز على الهدف والأسلوب. ومن ثم عدم السماح للدخول في صراعات حول أهداف أخرى أو قضايا جانبية، أو ما يمكن أن يستدعي خلافات تعرقل زخمه وتضعف مصداقيته. وهو بهذا يكون قد تعلم من تجربة فصائل سبقته فقدت التركيز على الهدف والأسلوب.
الهدف كما عبرت عنه بيانات الإئتلاف هو مقاومة الاحتلال والاستيطان والتهويد. وأما الأسلوب فالتهيئة لانتفاضة شعبية متواصلة لا تتوقف إلاّ بدحر الاحتلال وتفكيك المستوطنات واستنقاذ القدس وإطلاق سراح كل الأسرى. وهذا ما أمكن قراءته واستنتاجه من أدبيات الائتلاف تمثل في التركيز على هذا الهدف دون سواه، كما اتبّاع استراتيجية الانتفاضة الشاملة والوصول إليها من خلال إطلاق التظاهرات، مهما كانت صغيرة ومتفرقة، ولكن بمواظبة وإصرار، مع التركيز على الصدام بنقاط التماس مع جيش العدو وحواجزه ودورياته ومستوطنيه. وهذا ما أكده ما أُشيرَ إليه أعلاه خلال الأيام القليلة الماضية.
مارس الائتلاف هذا التوجه متجنباً كل القضايا التي هي محط خلاف بين الفصائل أو القضايا الخلافية حول ما يجري من صراعات في الساحات العربية. ولكن من دون أن يعني ذلك التقليل من أهمية أي من تلك القضايا فلسطينياً وعربياً. ومع ذلك يجب تجنيبه الخوض في أي منها داخل الائتلاف أو إقحامه فيها لسببين أساسيين: الأول: الحفاظ على وحدة شباب الانتفاضة. وهذه الوحدة شرط قيامها بدور طليعي وتثبيت صدقيتها، والثاني هو التركيز على الهدف وإنجاح الأسلوب. فهما كانا الأساس في تجمع الشباب وما بدأ الائتلاف يحظى به من احترام. ويمكن أن يكونا الأساس لأوسع وحدة شبابية ووحدة وطنية فلسطينية.
ثمة إشكالان من بين عدّة إشكالات تُواجِه الشباب والشابات على طريق الانتفاضة وهما: الإشكال الأول الذي يواجه الحراك الشبابي يتجسّد بالأجهزة الأمنية التي بناها الجنرال دايتون بالتعاون مع أجهزة الأمن الصهيونية. وقد قامت على هدف قمع المقاومة ومنع أي مقاومة شعبية تستهدف الاحتلال والمستوطنين وهذا الإشكال لا يُحَلّ إلاّ بالتركيز على التظاهر ضد نقاط التماس مع العدو وحواجزه ودورياته ومستوطنيه وإلاّ وجدنا أنفسنا أمام صراع حاد فلسطيني – فلسطيني فيما العدو يحتل الأرض ويستوطن ويهجّر ويُهوّد. ولكن يجب أن يُدعم ذلك بحملة سياسية ضد الأجهزة الأمنية كلما تعرض لحراك شبابي.
الإشكال الثاني: الإنقسام الفلسطيني والذي هو نتاج خلاف على الاستراتيجية التي تتبنى المقاومة من جهة والاستراتيجية التي تتبنى خط التفاوض والتسوية من جهة أخرى. ولكن هذا الخلاف تحوّل إلى انقسام بسبب اتباع أسلوب المغالبة في الانتخابات مما ولّد سلطتين. أما المأساة فالعودة إلى تكرار سبب الانقسام أي بالعودة إلى الانتخابات والمغالبة باعتبارهما بنداً أساسياً للمصالحة وإنهاء الانقسام. وهذا يشبه الحفر وأنت في الحفرة متصوراً أنك بهذا تخرج منها.
من هنا يمكن للائتلاف أن يدعو إلى تحقيق المصالحة ووحدة كل الشعب الفلسطيني وراء شعار الانتفاضة التصادمية مع الاحتلال والاستيطان ومخططات التهويد، أو الاتحاد على أرض التظاهر الشبابي الذي أصبح يُشكّل أهم طريق للخروج من حالة الإنقسام والصراعات والركود أو الدوران في المكان. أما ما عدا ذلك فتجريب المجرّب. وقد قتل هذا الموضوع مفاوضات ووساطات وضغوطاً بلا جدوى.
فليكن الشعار في مواجهة الانقسام هو "الوحدة في ميدان المواجهات ضد حواجز العدو ودورياته ومستوطنيه وصولاً للانتفاضة الشاملة التي يمكنها أن تفرض انسحاباً وتفكيكاً للمستوطنات بلا قيد أو شرط".
وخلاصة، ما حققه إئتلاف شباب الانتفاضة ومختلف المجموعات الشبابية الأخرى جاء اختراقاً فلسطينياً مدهشاً على المستويين الفلسطيني والعربي في وضع الكيان الصهيوني في الزاوية وفي فتح آفاق أمام انتفاضة شعبية واعدة. وما ينبغي للمخضرمين من أمثالنا أن يزيدوا عليه أو ينقصوا، وإنما أن يدعموه ولا يشغلونه بانقساماتنا وخلافاتنا. فهذه لحظة لهم ويمكن أن تكون لنا أيضاً إذا أحسنا التصرف وحافظنا على وحدتهم وشجعنا مبادراتهم في قراع العدو. بل وانضممنا إليهم على هذا الطريق.