احتلال حلب عام 1980 مجتزأة من كتابي ( محطات صغيرة في حياة مواطن سوري )
من دفتر الذاكرة ؛
….تم إستدعاء الفرقة الثالثة بقيادة اللواء الطائفي شفيق فياض على عجل من لبنان إلى حلب بعد أن حصل حافظ أسد على رسالة تطمين امريكية - إسرائيلية من أن إحتلاله للبنان بموجب الإتفاق مع إسرائيل لن يطرأ عليه أي تغيير، وأن مكانه محجوز هناك فور انتهاء حربه منتصراً على الشعب السوري.كما تم تعزيز الفرقة الثالثة بكتائب من المظليين والوحدات الخاصه وسرايا الدفاع والجميع كانوا تحت إمرة طائفية موثوقة من رفعت أسد إلى علي حيدر. وصل تعداد القوات المحاصرة لحلب إلى حوالي 30000 عسكري إضافة إلى استنفار أطقم المخابرات من أمن الدولة - المخابرات العسكرية - الشعبة السياسية.
إطمأن الجزار حافظ أسد للوعود الاسرائيلية ، فأطلق يد الجزار شفيق فياض بتدمير حلب .
قسّم الجزار حلب إلى قسمين : الشرقي أو القسم التاريخي القديم من المدينة وإستباحتها عصاباته لسبعة أيام بحجة محاربة العصابات المسلحة، وبعد ان إنتهوا من مهمتهم هناك قتلاً وتعذيباً وسحلاً وإعتقالاً وتخريباً أعلنوا عن منع التجول في المنطقه الغربية إعتباراً من منتصف الليل وحتى إشعار آخر .
أعزائي القراء
بدأت أفتش مع زوجتي مكتبتي بدقة عن أية كتب قد تستغلها عصابات التفتيش الأسدية فتكلفني حياتي و تكون سبباً لإرسالي إلى المجهول, أو قد تكون بقايا لرسالة في كيس تجميع الأوساخ من صديق يعيش في أوروبا مثلاً سبباَ لتوجيه تهمة من أنني عميل إستخبارات لدولة اوروبية .
بدأت بإتخاذ بعض الإحتياطات فمزقت بعض الرسائل الغير هامة إلى نتف صغيرة وأخفيت بعض الكتب ولم يكن لدي أكثر من ذلك لأخفيه...
وفي صبيحة أول يوم من منع التجول . كانت طائرات الهوليكوبتر تمر من فوق رؤوسنا متجهة إلى القرى الغربية والجنوبية حيث تهبط فيها ثم يقوم المظليون بتجميع شباب القرى وينصبون لهم محاكم ميدانية في عشر دقائق لينتهوا إلى حكم بتنفيذ عقوبة الأعدام وما أن ينتهي التنفيذ حتى يغادرون إلى قرية أخرى فينجزون مهمات مماثلة فيها, فذبحوا شباب الوطن ويتّموا اولاد الوطن ورمّلوا نساء الوطن...كل ذلك تم بدم بارد مشحون بسمّ قاتل مغلفٍ بحقدٍ جارف ضد ابناء الشعب السوري المُبتلى بهذه العصابة... كنا نراقب من النافذة لنرى أبناء الحارة رجالاً ويافعين يحشرون بسيارة زيل عسكرية واقفة في زاوية الشارع وشاحنات أخرى وراءها بإنتظار دورها فيحشروهم كالأغنام فيها ... كنت أقول لزوجتي ..أنظري هذا أحمد إبن عادل وهذا خالد وهذا حج صالح ...وهذا... وهذا...و ذاك.. آه ياوطن لقد أفرغوك من شبابك ورجالك ليستبيحوا كل حرماتك ويحولوك إلى مزرعة سموها تجاوزاً بالوطن .
في حوالي الساعة الرابعة عصراً من اليوم الأول من حظر التجول دخلت طلائع عصابات الأسد بنايتنا..قلت لزوجتي: إستعدي لقد وصل الزوار
وكنا جاهزين لإستقبالهم كانوا ستة أفراد إثنان بلباس مدني يحمل كل منهما مسدساً عرفت بعدها أنهما برتبة رقيب الاّ أن الرقيب علي كان قائد المجموعة وكان يخاطبني بلهجة ساحلية متميزة تكشف عن طائفيته ، أما الرقيب الآخر فلهجته تدل على أنه من قرى حلب.
أما الأربعة الآخرين فكانوا مجندين بلباس عسكري ثلاثة منهم يحملون كلاشينكوف والرابع يحمل رشاش عيار 500.
إنتشروا في البيت كالجراد لم يبق كرسي إلا ونبشوه ورفعوا قوائمه الأربعة إلى الأعلى ولا كتاباً الاّ مزقوه ونثروا اوراقه ولا زرعة ورد وياسمين الا وعرّوها من ترابها ..
قام أحدهم بتجميع نتف رسالة ممزقه مرمية في سلة المهملات يعيد ترتيبها عساه ان يتفوق على المفتش "كولومبو" فيصل لحل اللغز ويحصل على الجائزة.
وبعد ساعة أخرج الرقيب علي مجموعة أوراق متضمنة اسماءاً لمطلوبين مصنفين حسب الترتيب الهجائي ..وصل إلى حرف النون وبدأ يذكر أمامي أسماء من عائلة نجار الأسماء متشابهة فمحمد ..وأحمد.. ومصطفى.. وعادل ..وخالد ... كلها اسماء موجودة في كل عائلة ,فأنكرت معرفتي بأي منها الاّ انه وبعصبية ملفتة للنظر أمرني أن انزل معهم ليتم تعليبي بشاحنة الزيل إسوة بالآخرين ..موقفان جريئان انقذ الوضع ,الموقف الأول صدر عن زوجتي بجرأة ملفته للنظر فخاطبته بحدة: تأخذون الأبرياء وتقولون ليوم واحد مع فنجان قهوة ، فتعيدونهم جثة هامدة ، فاذا كنتم ستأخذونه فخذوا كل العائله معه..أما الموقف الثاني فصدر عن الرقيب مساعد قائد المجموعة حيث خاطب الرقيب علي بحزم وقوة: لا لن نأخذه طالما ليس له إسم, إلتفت إلى قائلاً عذراً أستاذ هشام إبق مع عائلتك..أحُبط الرقيب الطائفي علي وخرج وهو يلوح المسدس بوجهي : قد نعود في أي لحظه مفهوم...مفهوم...مفهوم!
في اليوم التالي كان أقل وطأة عن سابقه الاّ ان الإتصالات الهاتفية مازالت مقطوعة بين اهلنا وأصدقائنا لنطمئن عن مصيرهم .كان أول عمل نقوم به هو الإطمئنان على الوالدة بالرغم من ان الدبابات مازالت تصول وتجول في الشوارع وتتمركز في بعض الساحات ,تركنا أولادنا لؤي وقصي عند جيراننا وتحركت مع زوجتي بإتجاه بيت الوالدة.
وبصعوبة بالغة وصلنا إلى بيتها، قطعنا المسافة سيراً على الأقدام بين بيتنا الكائن قرب جامع الروضة في حي السبيل وبيت الوالدة عند أول شارع فيصل قرب جسر القطار بزمن إمتد إلى ساعة ونصف عوضاً عن خمس وعشرين دقيقة في الحالة الطبيعية وذلك لمرورنا على أكثر من ثمان حواجز كل حاجز لا تعرف من صاحبه ولمن تعود ملكيته..يسألوننا عن بطاقاتنا الشخصية ...عملنا.. وجهتنا..هل لدينا أحد من الأقارب والأصدقاء في المعتقل...وعندما إقتربنا من بيت الوالدة، بدأ يطرق مسامعنا صوت ضجيج مجنزرات تبين لنا عن قرب أنها دبابات عائدة ملكيتها لشفيق فياض قائد الفرقة الثالثة متجهة بإتجاه منتزه السبيل.. وليت الأمر كان مقتصراً على هذا الإستعراض الذي يتماشى مع إستباحة البلد من قبل عصابات الأسد, الا ان هذه الدبابات كانت تجر وراء كل منها شاب فقد حياته مقيداً رجليه بسلسلة معدنية مربوطة خلف الدبابه، كان رأسه يهتز صعوداً وهبوطاً حسب تضاريس الطريق... إهترأت ألبسته... وإنسلخ جلد رأسه وظهره بإستباحة مبتكرة لآدمية البشر وهي تدور بجثث هؤلاء الشباب شوارع المدينة في عملية يخجل منها مجتمعين هولاكو وكيم إيل سونغ وستالين ومناحيم بيجن ...
بعد هذا المشهد الإجرامي مكثت وزوجتي لفترة غير قصيرة في حالة ذهول لأشهر لم تفارقنا الكوابيس ليلة واحدة.
اليوم يُنفّذ الوريث دروس أبيه بل ويزيد عليها ماسهى عنه الجزار الاول حتى صار علم إبتكار الجرائم والمجازر بحق الشعوب حقاً محفوظاً لآل أسد.
غداً مع محاصرة النقابات العلمية عام 1980.
مع تحياتي ..
وسوم: العدد 1017