ضوابط الحياة الزوجية من خلال نصوص القرآن الكريم والحديث الشريف
موضوع الحياة الزوجية كان عبر التاريخ، ولا زال ، وسيبقى إلى نهاية العالم الموضوع الأكثر حظوة بكبير اهتمام جميع البشر لأنه مرتبط بالنواة الأساسية والصلبة التي تتكون منها المجتمعات ألا وهي الأسرة التي يكون طرفاها ذكر وأنثى تربط بينهما علاقة هي عماد ما يسمى بالحياة الزوجية .
ومعلوم أن هذه الحياة الزوجية تأخذ دلالتها من المعتقدات وما يتعلق بها من شرائع سماوية كانت أم وضعية . وما يعنينا في هذا المقال هو دلالة هذه الحياة فيعقيدة الإسلام وشريعته من خلال نصوص القرآن الكريم والحديث الشريف.
فمن خلال نصوص القرآن الكريم أول ما يستوقفنا منها بداية خلق طرفي الحياة الزوجية الذكر والأنثى ، وذلك في قوله تعالى : (( يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلقها منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء )) ، ففي هذا النص القرآني إشارة إلى بداية خلق البشر من نفس واحدة خلق منها زوجها ، وإلى بث منهما كثرة كاثرة من البشر . ولفظة " زوج " تشمل أول ذكر خلقه الله تعالى من طين، ونفخ فيه من روحه ، وأول أنثى خلقت منه ، وهذا يعني أن أول امرأة وهي حواء خلقت من أول رجل وهو آدم عليهما السلام ،فقيل في تأويل خلقها منه أنها خلقت إما من نفس الطين الذي خلق منه ، وقيل خلقت من ضلعه كما جاء فيما صح من حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا يدل على المساواة بينهما في طبيعة الخلق ، فسيّان خلق حواء من نفس الطين الذي خلق منه آدم أو خلقها من ضلعه ، فالنتيجة واحدة.
وبعد هذا الخلق المتزامن نشأت علاقة بين الزوجين لتحقيق هدف بث الخلق المتكاثر منهما ، ولتتحقق إرادة الخالق سبحانه وتعالى من خلقه ، وقوام تلك العلاقة بين آدم وحواء عليهما السلام و منهما انتقلت إلى الخلق المتكاثر هي حياة زوجية بكل ما تقتضيه من تلازم وتعامل، وتفاعل، وتواصل... كما حدد ذلك الله تعالى بقوله : (( ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة )) ، ففي هذا النص القرآني حدد الله تعالى ضوابط الحياة الزوجية وأولها السكينة، وهي عبارة عن استقرار، وطمأنينة ،وارتياح ، وثانيها مودة ، وهي محبة، ووئام ، وثالثها رحمة ، وهي رقة وشفقة ، وهذه الضوابط مشتركة بين الزوجين لا يلزم أحدهما بها دون الآخر ، ولا يزيد عنه فيهما، ولا يزايد فيها عليه، وهذا ثاني وجه المساواة بعد المساواة في طبيعة الخلق .
ومن الضوابط أيضا بعد هذه الثلاثة ضوابط أخرى منها ما جاء في قوله تعالى : (( وعاشروهن بالمعروف وعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خير كثيرا )) ، ففي هذا النص القرآني ضابط المعاشرة بالمعروف ، وهي مصاحبة تكون بكل ما هو حسن شرعا أو عقلا ، ولا تنكره الفطرة السوية . ولا بد من الإشارة هنا إلى أن أمر الله تعالى الأزواج بمعاشرة الزيجات بالمعروف لا يعفيهن من هذا الأمر الإلهي ،ذلك أنه عليهن أيضا معاشرة أزواجهم بالمعروف ، وهو سلوك مشترك بينهم ومتبادل على قدم المساواة كما حددته الضوابط السابقة التي هي السكينة، والمودة، والرحمة . والمثيرللانتباه في هذا النص الأخير ذكر الكراهة وهي استقباح شيء ما أو أمر ما أو سلوك ما ، وهي كراهة لا تستهدف ذوات الزيجات بل تستهدف ما يصدر عنهن مما يستقبحه الأزواج من خلال مصاحبتهن في الحياة الزوجية ، وهذا ما يؤكده حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يفرك مؤمن مؤمنة ، إن كره منها خلق رضي منها آخر " ، ففي هذا الحديث إشارة إلى وقوع الكراهة والرضا بخصوص خلق الزيجات ، و ليس كراهتهن. الخُلق حالة للنفس البشرية تصدر عنها الأفعال أو الأقوال من خير وشر ، وهي حالة ملازمة للإنسان سواء كان ذكرا أم كان أنثى ، وهنا أيضا لا بد من التذكير أن صدور الخلق المكروه لا يكون من الزيجات دون الأزواج ، وهذا وجه آخر من وجوه المساواة في الطبع . ومما يصون الحياة الزوجية وفق الضوابط السالفة الذكر هو وعي الأزواج والزيجات بوجود الخلق المكروه إلى جانب الخلق المحمود فيهم جميعا مع ضرورة تغليب المحمود على المكروه ، وهو ما تقتضيه السكينة، والمودة، والرحمة .
وفي حال استفحال أمر الخلق المكروه ،وتحوله إلى نشوز ، وهو شعور باستعلاء ،وتمرد يكون من الأزواج والزيجات على حد سواء ، تسوء بسببه المعاشرة، وربما أفضى ذلك إلى نسف ضوابط السكينة ،والمودة ،والرحمة ، وتكون النتيجة هي نهاية الحياة الزوجية بفراق يعتبر أبغض ما أحل الله عز وجل كما جاء في الحديث النبوي الشريف . وقبل أن تصل الأمور إلى هذا الذي أبغضه الله تعالى فإنه سبحانه تدارك وقوعه بضوابط في قوله تعالى : (( واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا )) ، ففي هذا النص القرآني مزيد من الضوابط التي تصون الحياة الزوجية في حال وقوع النشوز ، وهي ضابط الوعظ ،وهو نصح وتحذير من سوء العواقب ، وضابط الهجر في المضاجع ، وهو مكان النوم حيث تكون السكينة ،والمودة ،والرحمة ، وضابط الضرب ،وهو الأذى المعروف ، ولا عبرة بما يذهب إليه بعضهم من تأويلات حيث يصلون بهذا الفعل بعض حروف المعاني التي تغير من دلالته على الأذى إلى دلالات أخرى مجازية ، وهم يفعلون ذلك لحاجات في نفوسهم ، ومنهم من يرى أن ضابط الضرب لا يليق بشرع الله عز وجل تنزيها له ، ولكن كل ذلك لا يغير شيئا من دلا لة الضرب على وجه الحقيقة ، ويكون وفق شروط حددها الشرع .
وعند تأمل هذه الضوابط الخاصة بحالة النشوز، نجدها متدرجة حسب تأزم هذه الحالة النفسية أو هذا الخلق بتعبير الحديث النبوي الشريف الذي تترتب عنه أقوال وأفعال تأباها الفطرة السوية التي فطر الله تعالى الناس عليها ، لهذا فضابط الوعظ يعالج النوع الأدنى من النشوز ، وضابط الهجر في المضجع يعالج ما هو فوقه خطورة ، وضابط الضرب يعالج النشوزالأعلى والأخطر ، وهنا لا بد من استحضار الطباع البشرية من حيث طبيعة النشوز في البشر ، ومن حيث العلاج المناسب لها ،فالعلاج بالوعظ لا يفيد في حالة النشوز الأعلى والعكس صحيح ، وبين علاج النشوز الأدنى ، و علاج النشوز الأعلى يوجد علاج وسط، هو الهجر في المضجع ، وهو لا يفيد في علاجهما بل له حالة النشوز الخاصة به، وربما كان أقوى أثرا منهما ،لأنه يمس الضوابط الرئيسة في الحياة الزوجية التي هي السكينة، والمودة، والرحمة ، وهي لا عوض عنها، ولا صبر عليها خصوصا حين تفتقد في المضجع الذي هو موضع السكينة التي تسمو بها المودة، وتحصل الرحمة .
ومن الضوابط التي صان بها الله عز وجل الحياة الزوجية أيضا خصوصا حين يكون استمرارها مهددة بفراق الأزواج والزيجات ما جاء في قوله تعالى : (( الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان )) ،وهذا النص القرآني يقنن الطلاق لبغضه عند الله عز وجل ، فيسمح به مرتين فقط ،علما بأن المرة الثالثة لها ضابط آخر معروف حيث تتجدد العلاقة الزوجية بعد زواج الزيجات من أزواج آخرين بعد الأزواج الأوائل ثم يقع بينهم طلاق ، فحينئذ تنشأ هذه العلاقة الزوجية الجديدة التي كانت قد انتهت بالطلقة الثالثة ، وفي ذلك حكمة أراد بها الله تعالى تبغيض هذه الطلقة للأزواج . وعند التأمل في هذا النص نجد الله تعالى يقدم الإمساك على التسريح ترغيبا فيه قبل الذي يبغضه ، ويشترط في الإمساك المعروف وهو الخير، والإحسان المصحح لوضع سابق غير محمود ، ويشترط في التسريح الإحسان أيضا، لأنه ربما حصلت بعده عودة إلى حياة زوجية جديدة ، فيكون من أسباب عودتها ذلك الإحسان حين حصل التسريح ، وربما فعلت ضوابط السكينة، والمودة، والرحمة فعلها ،وكان الدافع وراءها هو ذلك الإحسان الذي صاحب التسريح المبغض عند الله عز وجل، وهو أيضا مبغض عند خلقه خصوصا في أوضاع معينة كوجود ذرية ، وتكون هي الطرف الأضعف ،والمعرض للضياع في حالة الطلاق فضلا عن افتقادها ما نشأت فيه من جو السكينة، والمودة ،والرحمة .
ومن الضوابط أيضا لصيانة الحياة الزوجية من الزوال ما جاء في قوله تعالى : ((وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصّالحا بينهما صلحا والصلح خير وأحضرت الأنفس الشح وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا )) ، ففي هذا النص القرآني، ذكر لنشوز الأزواج وإعراضهم عن زيجاتهم ، وهو أمر من شأنه أن يوقع أيضا في أبغض الحلال إلا أن الله عز وجل جعل لمنع وقوعه حلا وعلاجا وهو الاصّلاح ، بهذه الصيغة الدالة على التوافق، وزوال الخلاف ، وقد رغّب فيه الله عز وجل ، وهو صلح عند المشاحة، ويكون خيرا من الفراق ، كما حصل مع أم المؤمنين سودة بنت زمعة رضي الله عنها حين عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على فراقها لكبر سنها ، فصالحته على أن تبقى عنده مقابل تنازلها لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عن ليلتها أو يومها . ولقد تدارك الله تعالى بهذا التشريع زوال الحياة الزوجية خصوصا وأن داعي نشوز أو إعراض الأزواج هو فتور رغبة الزيجات في المعاشرة بسبب التقدم في السن ، ولهذا راعى الله تعالى حالتهن، فجعل الحل في صلح يكون خيرا من فراق الأزواج لهن كالحل الذي كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوجه سودة رضي الله عنها، وهو خير حل اختاره أشرف المخلوقين . ومهما يكن نوع نشوز أو إعراض الأزواج إذا وقع شيء منهما، فخير من الطلاق صلح بينهم وبين الزيجات صيانة لعروة الحياة الزوجية من الانفصام .
ومن ضوابط صيانة الحياة الزوجية ما جاء في الحديث الشريف كقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " استوصوا بالنساء خيرا فإنهن خلقن من ضلع وإن أعوج ما الضلع أعلاه فاستوصوا بالنساء خيرا " ، وهذا الحديث له صيغ أخرى لا بأس بذكرها منها صيغة فيها زيادة على ما في الصيغة السابقة : " وإن أعوج ما في الضلع أعلاه ، فإن ذهبت تقيمه كسرته ، وإن تركته لم يزل أعوج " ، ومنها أيضا صيغة : " المرأة كالضلع إن أقمتها كسرتها وإن استمتعت بها ، استمتعت وفيها عوج " ، ومنها صيغة : " إن المرأة خلقت من ضلع ، لن تستقيم لك على طريقة ، إن استمتعت بها استمتعت بها وفيها عوج ، وإن ذهبت تقيمها كسرتها وكسرها طلاقها " ، فهذه الصيغ لهذا الحديث، تدل على حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على صيانة الحياة الزوجية التي يتهددها الطلاق لأن الحياة الزوجية الأصل فيها دوامها. ولقد أبان هذا الحديث عن طبع متأصل في الأنثى الذي خلقت من ضلع ، وفي هذا إشارة إلى خلق حواء عليها السلام من ضلع آدام عليه السلام ، وقد شبه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تكون عليه من طبع يكون فيها جبلة باعوجاج الضلع الذي يكون في القفص الصدري ، وهو عوج يكون في أعلاه مما يلي العمود الفقري ،ووجه الشبه بين طبع الأنثى والضلع هو أن في طبعها عوج ، وهو عوج معنوي يتعلق بسلوك يصدر عنها لا يحسن أن تسلكه تماما كما في الضلع عوج مادي ، ولمّا كان عوج الضلع لا يمكن أن يقام أو يسوى ، فكذلك عوج طبعها لا يمكن أن يقوّم ، وكما أن إقامة عوج الضلع يتسبب في كسره ،فإن إقامة عوج طبعها يتسبب في طلاقها ،وهو أبغض ما أحل الله تعالى . وهنا لا بد من التنبيه إلى سوء فهم هذا التشبيه عند العامة ممن يقولون إن المرأة ضلع أعوج على وجه الحقيقة ، وهو ما لم يرد في الحديث بل ورد فيه أنها خلقت من ضلع ثم انصرف بعد ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحديث عن طبيعة اعوجاج الضلع لإقناع الأزواج بغض الطرف عما في طبع الزيجات مما لا يرضونه منهن من قول أو فعل، وتجاوزه صيانة للحياة الزوجية . وعند التأمل نجد أن اعوجاج الضلع لا يعد عيبا فيه إذ لولاه لما استدار ليكوّن قفصا صدريا يحمي ما بداخله من أعضاء ، وكذلك إعوجاج طبع االزيجات لا يعد عيبا بل هو من خصائص أنوثتهن إذ يمكن للأزواج أن يتمتعوا بهن مع وجوده كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو ما يؤكده حديثه السابق : " لا يفرك المؤمن مؤمنة إن كره منها خلقا رضي منها آخر " فما يكرهه الزوج من خلق زوجته هو من اعوجاج طبعها ، وهو ما لا يجب أن يؤثر فيما يرضاه من خلقها لأنه يستمتع بذلك منها .
ويبقى أن نقول أن هذا الحديث الشريف فيه تنبيه نبوي مهم إلى خطورة اعوجاج الطبع الذي قد يؤدي إلى انفصام عروة الحياة الزوجية لأبسط أو لأتفه الأمور إذا لم يفهم اعوجاج طبع النساء الفهم الصحيح ، والمثل العامي يقول : " أهل العقول في راحة " ،ومن هؤلاء أزواج يتفهمون ، ويتجاوزون اعوجاج طبع زيجاتهم ، ويغلبون في معاشرتهم لهن ما يرضونه من خلقهن على ما يكرهون منه ، وصدق الشاعر إذ يقول :
وعين الرضا عن كل عيب كليلة كما أن عين السخط تبدي المساوىء
وبناء على هذا القول، فإن عيون عقلاء الأزواج التي يحكمها الرضا كليلة عن كل عيب في الزيجات ، بينما حادّو الطباع منهم تبدي عيونهم التي يحكمها السخط كل عيب فيهن .
وكما صان رسول الله صلى الله عليه وسلم العلاقة الزوجية من انفصام عروتها بتوجيه الأزواج إلى التغاضي عن اعوجاج زيجاتهن ، فإنه وجه الزيجات إلى ما يرجح كفة استقامتهن لأزواجهم على كفتة اعوجاجهن ،فقال عليه الصلاة والسلام : " ما استفاد المؤمن بعد تقوى الله خيرا من زوجة صالحة ، إن أمرها أطاعته ، وإن نظر إليها سرّته ، وإن أقسم عليها أبرته ، وإن غاب عنها نصحته أو حفظته في نفسها وماله " ، ففي هذا الحديث الشريف تحفيز للزيجات على أن يكن من شريحة المؤمنات الصالحات بطاعتهن الأزواج إذا أمروهن ، وسرورهم بهن إذا نظروا إليهن ، وإبرارهم إذا أقسموا عليهن ، وحفظهن أنفسهن وأموالهم إذا غابوا عنهن ، فهذه الضوابط من شأنها أن ترفع من أقدار الزيجات عند الأزواج الذين يجدون فيهن خيرا يكون بعد نا في تقوى الله عز وجل من خير، وفي هذا تحفيز أيضا للأزواج لاختيار صالح الزيجات .
وأخيرا ليس هذا كل ما في القرآن الكريم ، و لا كل ما في الحديث الشريف من توجيهات لصيانة الحياة الزوجية ، إلا أن الاكتفاء بما ورد في هذا المقال من شأنه أن ينتفع به عقلاء الأزواج ، و كذاعاقلات الزيجات لحرصهم جميعا على صيانة العلاقة الزوجية التي هي رباط غليظ قوامه إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان.
وسوم: العدد 1017