لا وجود اليومَ لدولة عربية قائدة للعرب
في صخب الشجار الإعلامي الحالي الذي فجره بين مصر وبلاد الحرمين مقال عبد الرزاق توفيق رئيس تحرير جريدة " الجمهورية " ؛ تجدد الحديث عن الدولة العربية التي تقود العرب لامتلاكها مؤهلات هذه القيادة . عبد الرزاق يؤكد أنها مصر اعتمادا على حقيقة تاريخية توسعت بعد 23 ثورة يوليو 1952 التي اندفعت بقيادة جمال عبد الناصر نحو توجه عروبي جاد حقق زخما عارما بانتصار مصر سياسيا على العدوان الثلاثي الذي شنته بريطانيا وفرنسا وإسرائيل في أكتوبر 1956 ، وتضاعف هذا الزخم بالدعوة إلى الوحدة العربية من المحيط إلى الخليج ، وأنجز أول وحدة بين مصر وسوريا في فبراير 1958 . وواصلت مصر قيادتها للعالم العربي ، واعترضت هذه القيادة عوائق وصخور من الغرب وإسرائيل وبعض الأنظمة العربية الملكية ، وضربت بهزيمة 5 يونيو 1967 ضربة كبيرة إلا أنها ظلت متماسكة ، وجاءت الضربة الثانية بوفاة عبد الناصر في 28 سبتمبر 1970 ، ولبث شيء من تماسكها في عهد السادات حتى عقد صلحه مع إسرائيل في 1979 ، فشعر العرب القوميون أن مصر ابتعدت عنهم ، وتركتهم يواجهون المشروع الصهيوني وحدهم . وكانت إسرائيل من الحذر والحنكة والإصرار على إبعاد مصر من صف أعدائها ، فرفضت توقيع اتفاق الصلح إلا بوضع مادة في بنوده ، المادة السادسة ، تنص على أولية الأخذ ببنود الاتفاق في حال تعارضها مع بنود أي اتفاق لمصر مع دولة أخرى ، والمقصود بداهة الدول العربية وتحديدا اتفاقات الدفاع ، ورفضت مصر ، فضغطت إدارة كارتر الأميركية عليها ، فاضطرت للموافقة . وقاطعتها الدول العربية . وتواصل تراجع الدور المصري في المنطقة ، ووصفه الكاتب البريطاني الراحل باتريك سيل بالنوم الذي فتح الطريق لعربدة إسرائيل . وترافق تراجع دورها مع ضعف داخلي في كل شيء ، وتلاقى الإضعاف الخارجي مع الضعف الداخلي لينتجا مصر الحالية : لا في البر ولا في البحر . والضعف الاقتصادي سريع التأثير في حياة الناس لمسه المباشر بمأكلهم وملبسهم ومسكنهم وتعليمهم وصحتهم ومواصلاتهم . وكثرت في بيئة هذا الضعف جرائم القتل والانتحار ، وحالات الطلاق . ويعزو كثيرون ضعف اقتصاد مصر إلى سيطرة الجيش على أكثر من 50% من نشاطه ومؤسساته ، وهذا صحيح تماما . وثمة سبب رئيسي هو إخفاق نظامها السياسي الحالي في إدارة أحوال البلاد إدارة توظف قواها البشرية الكبيرة الحيوية بمهاراتها وخبراتها المتنوعة ، وتستغل ثرواتها الطبيعية ، وأولها مساحة الأرض التي تقارب مليون كيلومتر مربعة ، استغلالا ينقلها من الضعف الاقتصادي المرهق والمفجر للمشكلات الاجتماعية إلى القوة الاقتصادية التي تؤهلها لها تلك القوى وتلك الثروات . ويدفع الضعف الاقتصادي مصر إلى الاستغاثة بالدول الخليجية الغنية التي تمتنع عن إغاثتها إلا بشروط تحدث عنها وزير مالية بلاد الحرمين محمد الجدعان ، وأغضبت بعض الجهات في مصر ، فاندفع رئيس تحرير جريدة " الجمهورية " الحكومية للتعبير عن ذلك الغضب تعبيرا لم يحسنه ، ورد عليه إعلاميون من بلاد الحرمين ردودا أكثرها متزن ، وإن طعنت في النظام الجمهوري الذي أزاح النظام الملكي في 1952 ، وهو طعن جلي المرمى . وفي الشجار الصاخب ، أطلق الدكتور عبد الله عبد الخالق مستشار رئيس الإمارات محمد بن زايد رصاصة طائشة مثقلة بفخر يشبه الفخر القبلي في شعرنا القديم ، فجزم أن قيادة العرب حاليا خليجية مؤلفة من بلاد الحرمين والإمارات حتى إشعار آخر ! وكاد يضيف ، وفق مقتضى السياق ، شاء من شاء وأبى من أبى . ونعرض عما قال ، ونعود إلى مصر . مصر كانت كبيرة العرب قبل ثورة يوليو وعبد الناصر ، وأهلها لهذه المنزلة عمقها الحضاري العريق ، وفاعليتها في التعليم والثقافة والأدب عربيا . الأزهر وجامعة القاهرة التي أنشئت أهلية في 1908 كانا حاضنتين للطلاب العرب ، وتوالت هذه الحضانة بظهور جامعات جديدة مثل جامعة الإسكندرية . وكل من درس في جامعاتها من الطلاب العرب أحبها وأحب شعبها ، وشعر بأن الثقافة العربية مصرية الروح . وعززت الصحف المصرية منزلة مصر العربية منذ ظهورها مبكرا في القرن التاسع عشر ، وتكاثرها في القرن العشرين ، وكانت مجلتا " الهلال " و " الرسالة " الأدبيتان ملتقى للكتاب والشعراء العرب ، وتقرآن في كل الوطن العربي ، وللفن المصري بأغانيه وأفلامه تأثيره الجليل في الوجدان العربي . وفي السياسة لم تكن مصر غائبة في ذلك الزمان عن القضايا العربية ، وحذر كتابها مبكرا من خطورة المشروع الصهيوني في فلسطين ، وما فعله عبد الناصر بعد ثورة 1952 أنه وسع التوجه العروبي فيها ورسخه بما يوافق تطور الأحداث في المنطقة . وتراجع تأثيرها السياسي الحالي في المنطقة سببه قيادتها لا شعبها . وصحفها الحكومية والأهلية شديدة العداء لإسرائيل ، ودائما للقضية الفلسطينية نصيب كبير في مقالات كتابها ، ومن يقرأ مقالات جيهان فوزي يشعر أنه يقرأ لكاتبة فلسطينية . إنها مصر أم العرب حقًا لا مينًا . ويجب أن نفرق في الحكم عليها بين شعبها العربي الوفي وقيادتها السياسية الحالية . وبلد ظل شعبه وفيا لهويته العربية سيرزق قيادة سياسية تجسد هذه الهوية ، وتحرك قواه الكبيرة لانبعاث اقتصادي يغنيه عن الآخرين ، ويؤهله لقيادة أمته مثلما كان دائما في التاريخ الحديث . أما اليوم فلا وجود لدولة عربية قائدة للعرب .
***
***
*قبل استقلال المغرب ، ذهب وفد من بلدة إلى حاكمها الفرنسي ، وطلبوا تزويدها بالكهرباء ، فسألهم ممازحا عن سبب طلبهم لها ، فأجابوه :" لنسمع خطب جمال عبد الناصر. " ، فطردهم غاضبا .
وسوم: العدد 1018