عندما رأت الفنانة وسمعت أجدادنا الفراعنة وأطفالهم؟!
ارتبط الدجل بنمط معين من التدين، لكن الحاصل الآن، أنه تجاوز هذه الصيغة القديمة، ليحضر إلى ساحة الوطنية، على النحو الذي فرضه الاتجاه السياسي الذي يحكم مصر الآن!
فقد نسب للفنانة سوسن بدر أنها سمعت ورأت المغفور لهم – بإذن الله تعالى – أجدادنا الفراعنة البواسل، وذلك أثناء تصوير أحد المسلسلات الذي يحمل اسمه وصفاً متداولاً للمحروسة، لدرجة أنها خرجت على النص، وهي تقول: «إياكم أن تعتقدوا أن المكان صامت، فلو اقتربتوا منه سوف تسمعون أصوات الأطفال تضحك»!
وليس واضحاً على وجه التحديد من تخاطب؟ لأنه لا يعتقد أن يكون حديثها موجهاً للفنانين المشاركين في العمل، لأنهم بالفعل في نفس الموقع الذي تقف فيه، ولا معنى لتعليق شرط سماع أصوات الأطفال تضحك، لدى اقترابهم من المكان، ولا يعقل أن يكون حديثها موجهاً للمشاهدين، بعد عرض العمل، لأنها كانت في حال انفصال عن الواقع، وقد خرجت على النص المكتوب في «الاسكريبت»، ومن هنا اجتهدت في التوصل لمن خطابتهم؛ والأمور محصورة بين الكائنات الفضائية، أو القوى السفلية، «دستور يا أسيادنا»!
في الثقافة المصرية القديمة، فإن العوام من المصريين يهتفون عند ذكر العفاريت: «دستور يا أسيادنا»، وهو نداء يفيد حسن النية، حتى لا يتعرض القوم للإيذاء من هذه القوى، ومن هنا وجب علينا ترديده إزاء الوضع المخيف، وقد سمعت سوسن بدر، ورأت أجدادنا الفراعنة – قدس الله سرهم – بالشكل الذي لم تردده الفنانة القديرة في جلساتها الخاصة، ولكن نقل إلى برنامج تلفزيوني، هو «صاحبة السعادة»، الذي يذاع على محطة تلفزيونية مملوكة لأهل الحكم، ولم تر جهة الاختصاص، وهي المجلس الأعلى للإعلام في الأمر ما يمثل خروجاً على المنطق، ولهذا لم يتدخل المجلس، ولو بالتنبيه على إدارة القناة بالتوقف عن ترديد هذه الشعوذة!
أزمة البرامج التلفزيونية في مصر
لم أشاهد البرنامج وقت إذاعته على الشاشة، لكن اطلعت على هذه الخزعبلات، في واحد من «المواقع الإلكترونية السيارة»، المملوكة لأهل الحكم أيضاً، وكان هذا مناسبة لنعرف أن البرنامج كان قد توقف، ومن الواضح أن توقفه، بسبب وعكة صحية ألمت بمقدمته الفنانة إسعاد يونس، والدليل أنها رقصت بعكازها ابتهاجاً بعودتها، على النحو الذي شاهدته أيضاً عبر صفحة من صفحات فيسبوك الخاصة بأحد المواقع هذه!
لنكون أمام إشكاليتين: الأولى، فكرة أن معظم البرامج، التي تبث عبر القنوات المصرية، لا يشاهدها الناس، سوى عبر فقرات تبث على الـ»سوشيال ميديا»، محملة بما يلزم من إثارة، ولهذا لا ينتبه الناس لتوقف هذا البرنامج أو إحالة هذا المذيع للتقاعد، وبعضهم لا نعرف بأنه تم إيقافه إلا عندما نقرأ خبر عودته أو التفكير في ذلك، ومن هنا قد فوجئت مؤخراً بأن قنوات مثل «مكملين»، و»الشرق»، و»الشعوب» لا تزال تشاهد في مصر، وذلك بالحديث مع أصدقاء قد لا يؤيدوننا في الموقف من الانقلاب العسكري!
الإشكالية الثانية، مرتبطة بفكرة أن البرامج صارت خاصة بالمذيعين، وملكيتها ليست للقنوات التي تبثها، فيغيب المذيع ويأخذ البرنامج معه في إجازة، الأمر الذي لا تجده في أشهر برنامج سياسي في القنوات التلفزيونية العربية وهو «الاتجاه المعاكس»، فكثيراً ما يغيب فيصل القاسم إلا أن البرنامج يبث في موعده، مع أن بصمة مقدمه عليه واضحة، وأحيانا يديره غيره، فلا تميز بينه وبين «ما وراء الخبر»، أو «الحصاد»!
ما علينا، فالدجل أعلاه لم يُذكر على لسان سوسن بدر، ولو حدث منها هذا لقلنا إن العمر له أحكامه، وأنه لا تثريب عليها إن شطحت يميناً ويساراً، والفنانة الكبيرة نجمة منذ أن كنت أنا في المهد صبياً، وها أنا على وشك الستين، من عمري المديد، بإذن الله تعالى.
وكنت سألتمس لها العذر إن كانت هي ضيفة إسعاد يونس، وروت هذا الكلام، لكن الحاصل أن ناقل رواية «سمعت ورأت أجدادنا الفراعنة»، كان هو كاتب ومؤلف العمل، الذي كنت أعتقد أنه لا يزال في مرحلة التصوير، لكن بالبحث والتحري تبين أنهم انتهوا منه، وتقريباً تم عرضه، ولا نعرف جنسه على وجه التحديد، فقرأت أنه فيلم وثائقي، كما قرأت أنه مسلسل. والمتفق عليه أنه من (15) حلقة، ولا بأس فنحن أمام مخلوقات هجين، مخلقة وغير مخلقة، هذا على مستوى أجناس من دم ولحم، فلا مندوحة، إن وجدت أعمالاً فنية، تعرف تارة بأنها وثائقية وأخرى بأنها درامية، ومرة أنها فيلم؛ وأخرى أنها مسلسل!
المؤلف، والذي هو في الوقت ذاته المخرج للعمل غير المتفق على تصنيفه، ليس من القواعد من الرجال، ولكنه شاب، كانت بدايته كمؤلف ومخرج في 2016، من خلال فيلم وثائقي اسمه «النسور الصغيرة»، فهل صدق فعلاً أن (الخالدة) سوسن بدر، سمعت ورأت فعلاً أجدادنا الفراعنة؟!
البحث عن هوية مصر
اللافت، أن اسم العمل، الذي قامت بدر ببطولته هو «أم الدنيا»، وهو اسم يتماشى مع المرحلة، حيث صخب الوطنية الزائفة، وهو اسم يصلح شعاراً لا عملاً فنياً، ومحاولة البعض البحث عن هوية مصر، بعيداً عن الإسلام، وكأنهم يسلمون بأنه شأن إخواني خالص، وهو وضع يدفع للتعاطف مع هؤلاء التائهين بلا مناسبة، وكأن الفرعونية ستمثل مكايدة للإخوان، في حين أن معركة فرعون كانت مع سيدنا موسى، عليه السلام، ولم تكن مع المرشد العام للجماعة، وهذا من شأنه أن يضعهم في مشاكل مع حلفاء النظام في تل أبيب!
وهي حالة تذكرنا بمرحلة الارتباك، عندما اندفعوا يطلبون برأس العثماني سليم الأول، أخذاً بثأر طومان باي، وعلى أساس أن الأول من الغزاة، أما الثاني فهو ابن مصر البار، وعليه كان القرار، الذي تم التراجع فيه برفع اسم سليم الأول من أهم شارع يحمل اسمه في منطقة الزيتون في القاهرة، فكان تعليقنا، ولماذا يظل الشارع الموازي له يحمل اسم «طومان باي»، وبنفس المعيار الذي صنف به الأول بأنه غاز، سينطبق على الثاني أيضاً!
قديماً كنت أجلس في حضرة رهط من الأصدقاء الشيوعيين، ووجدتهم يؤكدون على ضرورة الدفاع عن التدين المصري، والتمكين له في الأرض، في مواجهة الغزو الوهابي، ووجدتني أسألهم عن هذا التدين المصري، فقالوا التصوف، فقلت لهم، وهذا جاء مع الغزو الفاطمي!
أنصار الهوية الفرعونية، حيث أجداد سوسن بدر، يجهلون أن أسراً فرعونية كاملة، امتدت لمئات السنين، كانت نتاج غزوات من الغرب والجنوب، احتلت مصر، فلم تكون الفرعونية هي السلالة النقية، التي تمثل الامتداد الطبيعي للمصريين، لكن لا بأس!
فالبأس هنا أنه عندما تتحول الوطنية إلى شعار، فإنها تكون على حساب الوطنية الحقة، فلا يهتز رمش للوطنيين الجدد، أمام التفريط في التراب الوطني، أو في مياه النيل، أو في اغراق الوطن في مستنقع الديون، ورهن البلد ومستقبله للدائنين، لكنهم يرددون هذه الشعوذة، التي يحتفي بها برنامج تلفزيوني، وليس حضرة في ضريح!
ففكرة حضور الأرواح على هذا النحو، مستقاة من بعض ألوان التصوف، عندما يغيب الشيخ عن الوعي، ثم يعود، ويقول إنه كان يصلي مع سيدي أحمد البدوي، ومنه جاء الخطاب السياسي للزعيم الضرورة، عن أنه قال لله سبحانه وتعالى، ورد عليه الله، أن قال له لن أعطيك أموالاً، ولكن سأعطيك البركة، وهو ضمن الاتجاه الديني، لكن غير مسبوق أن يذهب الأمر لأجدادنا الفراعنة، فتراهم سوسن بدر، وتسمعهم، وتسمع ضحكات أطفالهم، الذين هم في حكم أعمامها، ما دام الفراعنة هم أجدادها!
ما لم ينقله المؤلف والمخرج عن سوسن بدر، هو لغة الحديث الذي سمعته، هل كان بالهيروغليفية، أم بالطلياني؟!
وسوم: العدد 1020