ذهب القدس ودموع هرتزل
في تظاهرات الاحتجاج الإسرائيلية، ضدّ بنيامين نتنياهو وحكومته بصدد التشريعات الكفيلة بتقويض صلاحيات المحكمة العليا والتحكّم في تعيينات القضاة، ثمة ما هو طريف مضحك؛ رغم أنّ صانعي تلك الطرائف يريدون منها أن تخلّف إحساس النكتة السوداء، والنقد اللاذع، والرسائل السياسية والأخلاقية المبطنة.
صحيفة «هآرتز» الإسرائيلية استعرضت بعض تلك الطرائف كما تمثلت في الرسوم التي حملتها لافتات الاحتجاج، أو طُبعت بكميات كبيرة وجرى توزيعها على المشاركين في التظاهرات، وتضمنت سخرية مريرة من نتنياهو أوّلاً، ثمّ وزراء الأمن القومي إيتمار بن غفير، والمالية بتسلئيل سموترتش، والعدل ياريف ليفين، وسواهم.
لم يغب دافيد بن غوريون عن ميادين التهكم، فاقتُبست عبارته الشهيرة في إعلان تأسيس الكيان الصهيوني، 14 أيار (مايو) 1948؛ ولكن بعد تحريفها لتنقلب من «إننا هنا نعلن…»، إلى «إننا هنا ندمّر». وحضرت الأغنية الإسرائيلية الشهيرة «ذهب القدس»، التي تنافس النشيد الوطني الإسرائيلي، والتي كانت ناومي شيمر الملحنة وكاتبة الكلمات قد سرقتها من لحن شعبي شهير في منطقة الباسك الإسبانية؛ بعد تحوير مفردات «ذهب» و«نحاس» و«ضياء»، إلى «مال» و«فساد» و«ظلام».
ولعلّ الأشدّ طرافة والأعلى مغزى، في يقين هذه السطور على الأقلّ، كان البوستر الذي يلتقط صورة تيودور هرتزل (1860-1904)، على خلفية زرقاء، ودمعة بيضاء اللون تنهمر من عينه؛ في مَزْج أقرب إلى الكوميديا السوداء بين ألوان علم الاحتلال، وصاحب فكرة الدولة، والأوضاع الراهنة التي تستدعي ذرف الدموع على ما آل إليه الكيان…
وهذا البوستر قد يعيد المرء إلى النقاشات الصهيونية ـ الصهيونية التي صاحبت، سنة 1997، احتفالات صهاينة العالم بالذكرى المئوية الأولى لانعقاد المؤتمر الصهيوني الأول في مدينة بال السويسرية؛ حين دارت، آنذاك، سجالات نوستالجية حول حلم هرتزل الذي تحقّق (الدولة اليهودية)، ولكنها لم تخلُ من الشجار الحادّ حول الواقع اليهودي الفقهي للدولة/ الحلم، أو حول معنى ما قبل/ وما بعد الصهيونية. جرى كلّ ذلك الاحتقان داخل البيت الصهيوني، العريض يومذاك، والذي ساد الظنّ طويلاً بأنه واحد متراصّ؛ فاتضح أنه بيوت أمريكية وبولونية وروسية وفالاشية ويمنية، أشكنازية أو سفاردية، أصولية أو أرثوذكسية، يهودية أو نصف ـ يهودية…
واحدة من مفاجآت احتفالات صهاينة العالم تلك، كانت غياب صاحب الحلم نفسه عن مئوية تستعيده وتحتفي به، وكان يتوجب لها أن تستلهم أفكاره. وخارج المصنفات التاريخية ذات الصلة بوقائع انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول، لم يظهر هرتزل كشخصية إجماع تستمدّ مصداقيتها، ثمّ صلاحيتها الراهنة، من واقع الحال في الحاضر. وكان من غير المنتظَر، أو بالأحرى من غير الطبيعي، أن يدور النقاش حول فكرة الدولة اليهودية، بما يوحي أن المطلوب الآن هو ترقية كيان (على عتبة الاحتفال بالذكرى الـ50 لتأسيسه) إلى حلم جديد، لاح أنه العنصر الوحيد الكفيل بتجديد الوجدان اليهودي المنشطر.
واستعادة هرتزل اليوم، والدمعة تخضّل لحيته الكثة؛ مترادفاً مع استلهام ذهب القدس، ولكن في انقلاباته إلى مال وفساد؛ إنما تعيد، في الخلفية كما في الإعلان، التشديد على السؤال العتيق إياه: ما الذي يتبقى من قِيَم وراء هذا «الفردوس الموعود»، الذي لا يتحوّل إلا إلى دولة عسكرتارية، استيطانية، إرهابية، عنصرية، أبارتيدية، يمينية متشددة، فاشية…؟ وبالتالي أين يخمد، وأين يتواصل، الاحتقان بين مفهومها عند أمثال هرتزل، بن غوريون، مناحيم بيغن، إسحق رابين، أرييل شارون، بنيامين نتنياهو، شمعون بيريس، إيهود باراك؟ أو، في النظير المتلازم، عند فلاسفة وكتّاب ومؤرّخين من طراز مارتن بوبر، يشعياهو ليبوفيتش، توم سيغيف، إيلان بابيه، دافيد غروسمان، وعاموس عوز؟
وللشقاق الإسرائيلي – الإسرائيلي أن يكفكف ما شاء من دموع هرتزل، فيسخر أو يندب أو يرثي؛ وللتاريخ أن يواصل تلقين الدروس، غير بعيد عن ذهب القبّة، في القدس إياها، الفلسطينية أصلاً وفصلاً هذه المرّة.
وسوم: العدد 1026