الإسلام لم ينتشر بحدِّ السيف
الصادق المهدي
عمان - الدستور
قال رئيس الوزراء السوداني الأسبق، رئيس حزب الأمة السوداني الصادق المهدي انه يتوجب على جميع المسلمين الرجوع الى مفهوم الاسلام الإحيائي الذي يأتي من خلال الفهم الصحيح للنصوص الدينية وعدم اجتزائها وموافقتها مع الحاضر الذي نعيش فيه ونتواءم معه، مؤكدا أهمية الفهم الصحيح للإسلام الذي يعيدنا الى المواقع المتقدمة بين دول العالم. وأكد المهدي في محاضرة فكرية أدارها رئيس التحرير المسؤول الزميل محمد حسن التل، بعنوان « استنهاض الأمة ومكافحة التطرف» ألقاها في قاعة الشهيد «معاذ الكساسبة» في منتدى الدستور للفكر والحوار بالتعاون مع منتدى الوسطية، رفضه لرفع شعار (الإسلام انتشر بالسيف)، واعتبر الهدف منه في هذه المرحلة تشويه ديننا الحنيف.
رئيس التحرير المسؤول
وفي البداية رحب رئيس التحرير المسؤول الزميل «محمد حسن التل» بالضيف وقال: نلتقي اليوم من جديد في منتدى الدستور للفكر والحوار بأول نشاط بعد إطلاق اسم الشهيد الطيار «معاذ الكساسبة» على هذه القاعة، إذ تعتبر الجريمة التي ارتكبت بحقه من قبل تنظيم داعش الإرهابي منعطفا كبيرا في محاربة هذا التنظيم على المستويين المحلي والدولي، مشيرا الى ان هذا التنظيم يحمل أفكارا غريبة على الإسلام وبعيدة عن جذوره الفكرية والعقائدية، مبينا ان الاسلام لم يكن يوما منذ أن نزل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دين ذبح وقتل وتدمير وتكفير، بل هو رسالة رحمة ومحبة وقبول للآخر..رحمة بكل الناس ولكل الناس وقبول لهم جميعا، يجمع ولا يفرق، لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى وهذا حق الله وحده، يعتمد الحوار بالحكمة والموعظة الحسنة ويجادل بالتي هي أحسن، فهؤلاء الإرهابيون اليوم الذين يرفعون رايته ظلما وكذبا وزورا هم بالحقيقة أعداؤه الحقيقيون وهم عوامل الهدم لهذه الأمة وحضارتها وتراثها العظيم، وهم الذين يسيئون للإسلام في العالم وقد حولوه في أنظار الملايين إلى صورة مشوهة لا يعرف أصحابها إلا الدم والخراب وهو الذي نشر النور والعلم في كل بقاع الأرض، بالدعوة والحلم ولم ينتشر بالسيف كما يقول أعداؤه.
ومع كل هذا لا بد لنا أن نعترف من بين ركام الخراب وشلالات التشويه التي يمارسها هؤلاء الغلاة، خوارج هذا العصر، أننا في المقابل أيضا كمسلمين نتعرض لإرهاب الغير وظلمه وإلا ما معنى أن تقوم الصحافة الغربية بين الحين والآخر بالإساءة إلى رسول الله؟ واستفزاز مليار ونصف المليار مسلم بهم عقلاء وبهم غلاة، ألم يعلم القائمون على هذه الصحف أنهم عندما يسيئون إلى رسول الإسلام -صلى الله عليه وسلم- فهذا لا يعني حرية الرأي بل سقوطا في حرية التعبير وانفلاتا أخلاقيا ساقطا.. وما معنى أنه إذا وقع حادث قام به مجانين يدعون أنهم يدافعون عن الإسلام في أي عاصمة غربية تستباح حرمات ملايين المسلمين هناك كردة فعل مجنونة حاقدة تعبر عن أحقاد دفينة؟ وماذا نقول أيضا عن الإرهاب المزمن الذي يمارسه اليهود على أهلنا في فلسطين ومقدساتنا دون أن يحرك أحد في هذا الغرب ساكنا؟ بل ويقولون، إن هذا دفاع عن النفس.
ولكن كل هذا لا يبرر لداعش أو غيرها ما يفعلونه من تشويه لوجه الإسلام المشرق..
عن كل هذا وكيف نقاوم أو نحارب الإرهاب في داخل الأمة وكيف ننهض بها يحدثنا دولة الأستاذ الصادق المهدي رئيس وزراء السودان الأسبق ورئيس المنتدى العالمي للوسطية هذا المساء.
الإمام الصادق المهدي:
بسم الله الرحمن الرحيم.. والصلاة والسلام على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه ومن والاه..
أشكر أسرة «الدستور» على استضافتي للحديث إليكم في هذا الموضوع المهم، عن « استنهاض الأمة ومكافحة التطرف « .. والحقيقة أنني اعتدت كلما زرت عمان أن أجد منفذاً في هذه المكانة لأتحدث في موضوع مهم، وأعتقد أن «الدستور» تقوم برسالة الإعلام الحقيقية، ليس نقل الخبر والنقد، ولكن أيضاً إتاحة الفرصة للرأي والرأي الآخر، فهذه رسالة للإعلام هم يقومون بها، زادهم الله توفيقاً.
عندما نتحدث عن استنهاض الأمة نتأمل حقيقة وهي أن الإنسان يكون في أقوى حالاته وعطائه وقدراته عندما يكون مستمسكاً بهدف، وما لم يكن لأمة ما هدف فإنها تتآكل. اتخذت أمتنا أهدافاً قومية في مرحلة ماضية، ولدى تراجع الهدف القومي تطلعت لأهداف إسلامية، فما هي خريطة استنهاض الأمة الآن؟ في المقابل هنالك مشروع تفكيك للأمة، هدف مضاد، ففي اجتماع عقده الأستاذ بيرنارد ليويس، مع ليزلي كلارك القائد العسكري الأمريكي عام 1982 تحدث عن ضرورة سايكس بيكو جديد، وتحدث سياسيون عن نصر بلا حرب،فمثلا كتاب نكسون، الرئيس الأمريكي السابق عن نصر بلا حرب، وتحدث إستراتيجيون عما سموه الجيل الرابع للحروب، ومعناه، حرب من نوع كمصارعة الجودو، فيها يهزم الخصم خصمه بقدراته الذاتية، وعلى الصعيد الدولي معنى الحرب، حرب الجيل الرابع، هو التصعيد الذي يؤدي إلى تفكيك مؤسسات الدولة الوطنية وتمزيق نسيج المجتمع على أساس الولاءات الموروثة، وهذا يمكّن الخصم أن يملي على البلد المعني ما يريد، لأنك إذ تضعف مؤسسات الدولة وتفكك النسيج الاجتماعي تفتح المجال لإملاء الولاءات الموروثة الإثنية والثقافية والطائفية، ونحن الآن في غمرة حرب من هذه الحروب، الجيل الرابع من الحروب، وفيها ندرك :لا يبلغ الأعداء من جاهل ما يبلغ الجاهل من نفسه.
سأتناول مشهدنا تفصيلاً لأبين كيف وصلنا إلى هذه الحالة، ثم سأقترح مخرجاً بإذن الله.
أولاً ما هو التطرف؟ إنه قياس معنويات على حسيّات كما في الفيزياء أن أي جسم مستطيل له طرفان، وأخذ هذا الوصف لمسألة معنوية وهي تعبر عن الطرف الآخر، كل ظاهرة في الوجود الطبيعي أو الاجتماعي تخضع لقانون، ربنا أعطى كل شيء خلقه ثم هدى، كل شيء في الوجود، المادي والطبيعي والنفسي والاجتماعي يخضع لقانون. السلوكان السيكولوجي والاجتماعي كذلك يخضعان لقوانين، أذكر بعضها ، فعلى الصعيد الشخصي، إذا عاملت شخصاً بصورة مستفزة فإنه يرد عليك بمثلها، وكما يقال إن كلفتني ما لم أطق ساءك ما سرك مني من خلق.. وعلى مستوى الأسرة، فتربية الأطفال مثلاً بصورة متطرفة غالباً ما تدفعهم إلى النقيض، ففي إحدى المرات ذهبت لأعزي أسرة في شخص علماني في اتجاهاته كلها، وكانت عنده بنت واحدة، فجاءت هي للعزاء، ولكن لم تخاطبني لأنها تعتبر صوتها عورة، ولم أر منها شيئاً فهي كلها كانت منقبة، والدليل على أنها تحتج بما تفعل على سلوك والدها الذي كان كما قلت علماني الهوى والمزاج والاتجاه، فهي اتخذت موقفاً سلوكياً مضاداً.. وفي أوساطنا في السودان نشهد كثيراً ما إذا كانت الأسرة اتجاهها أصولي إسلامي واتجهت إلى أن تفرض ذلك على أطفالها ينشأ الأطفال بصورة مختلفة وكذلك بالنسبة للعلمانيين.. المهم ضرورة التوازن في التربية حتى لا يتجه الأولاد إلى اتجاه مضاد، وهذا ما جعلني أؤلف كتاباً بعنوان «أيها الجيل»، قلت في هذا الكتاب إن للإنسان عشر ضرورات، روحية ومادية وعاطفية وعقلية واجتماعية وخلقية وجمالية ورياضية وترفيهية وبيئية، ما لم يكون هناك توازن في التعامل مع هذه الضرورات يحدث الخلل، والعنوان الصغير للكتاب «التوازن سر الاستقامة»، والفكرة هنا هي أن التطرف عنده هذه النتائج. وعلى مستوى المعاملات فالقصص كثيرة، ولكن سوف أتحدث هنا عن مجزرة شارلي ايبدو، قال هنري روسيل، وهو أحد مؤسسي مجلة شارلي ايبدو، وكتب هذا المقال وقال فيه، إن مدير التحرير استيفان شارب بوتيه، والذي يلقبونه بشارب، هو المسؤول عن مقتل زملائه، لأنه يستخدم أسلوبا استفزازيا مبالغا فيه، إذ نشر كاريكاتيرا مسيئا للنبي صلى الله عليه وسلم في عام 2011 في غلاف المجلة، ثم أعاد الكرة في عام 2012.. قال إنه بمنهجه المبالغ فيه قد جر لنفسه ولزملائه القتل..
على المستوى الفكري، في تراثنا النقلية أدت إلى حركة عقلانية، حركة الفلاسفة والمعتزلة في علم الكلام، هذا التوجه بلغ أقصاه في عهد الخليفة المأمون، ما أدى إلى ردة فعل، في النهاية ردة الفعل حمل لواءها الغزالي في تجاه الشك فيما ينقل العقل والظاهريون في قيادة الحنابلة في تجاه الفقه.. وفي أوروبا الغلو الكاثوليكي بعصمة البابا وسلطان الكنيسة أدى إلى الاحتجاج، وإلى العلمانية كاحتجاج على هذه السطوة. وفي تاريخنا القبضة العثمانية أعقبتها علمانية أتاتورك، وعلمانية أتاتورك الصارمة أدت إلى إحياء إسلامي وهكذا.. في كل هذه المجالات التطرف في تجاه يولّد تجاهاً مضاداً، فإذا لم يجر تسوية في درجة أعلى من التوفيق فإن العنف يصبح حتماً محتوماً، التطرف يلد التعصب، والتعصب يلد العنف.
ومع أن أوروبا اليوم تعيش درجة من التوافق وقبول الآخر فإن الإنسانية لم تشهد في تاريخها أكثر تعصباً وأكثر دموية من التاريخ الغربي، عبر الحروب الدينية لمائة عام، ثم ثلاثين عاماً والحربان الأطلسيان الأولى والثانية، حروب دينية وحروب أيديولوجية، والقاعدة المستخلصة من هذه الحقائق، من لم يقف عند انتهاء قدره تقاصرت عنه طويلات الخطى، أو مقولة أبي العلاء: إذا كنت تبغي النجاح فابغ توسطاً فعند التناهي يقصر المتطوّل.. الدرس المستفاد حب التناهي خطأ، خير الأمور الوسط..
ثانياً .. أمتنا الإسلامية لها سبعة مكونات قومية رئيسة، ولكنها في الواقع أكثر من ذلك كثيراً، عربية، آسيوية، تركية، فارسية، افريقية، أوروبية، أمريكية ، ومع أنها الآن في أضعف حالاتها سياسياً، فإن مقوماتها الثقافية والبشرية والمادية جعلتها مرهوبة الجانب.. والإسلام يتمدد رغم ضعف المسلمين. لقد صدر مؤخراً أكثر من عشرة كتب، رددت بصورة أو أخرى ما جاء في كتاب السيدة بات مائير، بعنوان «يوريبيا»، أي أن هوية أوروبا ستختفي ليحل محلها فضاء يسمى بدل أوروبا اسم «يوريبيا»، وفي مقام آخر لخصت بعض تلك الكتب، عشرة كتب، تتحدث عن الخطر القادم من المسلمين ومن الأعراب ..الخ هذا التمدد،الآن في حالة انكماش، على مستواه الرسمي. ومنذ حين نشرت فورتريس بريس للكاتب روبرت شيدنجر، كتابا بعنوان Was Jesus A Muslim ؟ ورد على السؤال بالإيجاب، أنه يدور حول معنى أشار إليه الشاعر الألماني غوته الذي قال: إذا كان الإسلام يعني الامتثال لله فكلنا مسلمون. وطبعاً هذا المعنى القرآني: ( قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ( 84 ) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ( 85 ) ـ سورة آل عمران ).. فالتعبير هنا تعبير عن هؤلاء جميعاً، أسلموا نفسهم لله. وكتاب الأستاذ الألماني لاوت يواجه الأمر من زاوية توراتية بعنوان «إبراهيم وأبناء عهده مع الله». يتحدث في هذا ويقول في التوراة، إن الله قد وعد إبراهيم وابنيه إسماعيل وإسحاق، ولذلك يقول إذا لم يتنبأ محمد يكون هذا النص في التوراة كاذباً. ومع هذا كله، فواقعنا الآن بعيد من تلك المعاني يتقلب في حزمة أزمات تتطلب تشخيصاً موضوعياً، ومشروعاً نهضوياً لنسهم بما نستحق في مسيرة الإنسانية.. هذه المعاني الآن بعيدة جداً من حقيقة واقعنا، ولذلك يستنهضنا هذا كله لكي نفكر في كيفية تغيير هذا الواقع ليستحق هذه المعاني الروحية والمعنوية والمادية.
ثالثاً، فيروس التطرف والغلو والإرعاب، أقول كلمة إرهاب ليس معناها المفهوم الترعيب والترويع، لأن عبارة إرهاب كما هو معلوم في القرآن تعني الردع، ولكن المقصود حقيقة الترويع والإرهاب، والإرعاب المصاحب لهما التطرف والغلو، والإرعاب المصاحب لهما له أسباب معلومة، ولا يعالج بالتصدي للأعراض، لأننا الآن في كثير من الحالات نتصدى للأعراض، بوسائل أمنية ..الخ، لكن الحقيقة هناك في رأيي سبعة أسباب تكمن وراء هذه الظاهرة، ما لم نعالج الأسباب لن نستطيع التخلص من هذه الأعراض. أول هذه الأسباب فهمٌ خالٍ من التدبر للنصوص، «إن الحكم إلا لله» فُهم إن الإمر إلا لله، فهم أيضاً خاطئ في موضوع الإمامة، وفهم خاطئ في موضوع الخلافة، مفاهيم خاطئة جعلت النصوص قيدا يحبسنا في ماضينا أو في استنباطات الماضي، فهذه مشكلة خطيرة، ما دام هذا موجودا سيقول بعضنا الجهاد في الإسلام محصور في القتال، والقتال في الإسلام علته اختلاف الملة، وإذا اختلفت الملة فنحن نقوم ضد من تختلف ملتنا معه بجهاد أو قتال الطلب، وواجبنا أن نفعل ذلك، فهذا مفهوم فيه رأي خاطئ خال من التدبر في فهم القرآن، ولكن يوجد منا من ينطلق من هذه المفاهيم وأنا أذكر أن أحد الباحثين قال لي، من قال إن الإسلام لم ينتشر بحد السيف معناه أنه أنكر فضل الجهاد وهو كافر.. لكن في الحقيقة أقول بأن الإسلام لم ينتشر بالسيف، السيدة عائشة رضي الله عنها قالت، إن المدينة فتحت بالقرآن، والجزيرة العربية استميلت للإسلام في سنتي الحديبية .. وبروفيسور ارنولد وهو مستشرق، كتب كتاباً كاملاً وأكد فيه هذه المعاني بأن الإسلام لم ينتشر بحد السيف، ولكن بعضنا يرى إن الحديث عن أن الإسلام لم ينتشر بالسيف يعني أننا ننكر فضيلة الجهاد، وهكذا.. هذه الذهنية التكفيرية وما معها من معانٍ واحدة من أسباب الخلل الذي نعاني منه، والذي يحتضن الفكر الإقصائي.
التحريم والتكفير المعمم، ليشمل كل جديد، على أساس أن كل جديد بدعة في الدين، هكذا يرى الكثيرون، الوطنية بدعة، والقومية بدعة، والعلاقات الدولية بدعة، كل هذه الأمور بدعة ومنكرة ومرفوضة ومكفّرة، بل حتى التفكير، الله أعطانا العقل ولكننا نعطّله، لأن التفكير كالتكفير، اتفقت الحروف واتفقت المعاني.
الدولة الوطنية، في حالتيها، الدولة الوطنية من أسباب المشاكل المفضية لهذا الإرهاب، الدولة الوطنية في حالتيها، الفاشلة كما في الصومال وليبيا، والباطشة كما في تجارب الدول القومية، أو عندنا في السودان السوءتان، باطشة وفاشلة، أقول باطشة لأن قوانيننا تجعل حكم الفرد بالدستور، أما فاشلة فهناك الآن ست جبهات قتال في البلاد وتعتمد البلاد الآن على مليشيات قبلية وليس المؤسسة الرسمية الدفاعية، هذا هو عنوان الفشل، هناك من يتحدث عن انفصال الجنوب، ليس فقط انفصال الجنوب، فانفصال الجنوب مشكلة، لكن الذين خرجوا من السودان احتجاجاً حوالي 13 مليونا، 90% منهم خرجوا في هذا العهد، وهؤلاء يمثلون صفوة من السودانيين، فهذه كلها دلائل.. بعد ذلك الظروف التي أدت إلى أن هناك عددا من الجيوش التي تحمل السلاح ضد الحكومة كثيرة وهذا كله يساوي معنى الدولة الفاشلة، وهناك الآن تمدد في مجالات ما في السودان إرهابية.
السبب الآخر الاستغلال الدولي، القاعدة ولدت في حضن الحرب الباردة، داعش ولدت في حضن التظلم السني في العراق وسوريا، وهذا جاء ضمن النفوذ الأجنبي في المنطقة، ثم هناك غبائن مثل المآسي والبطش الذي يواجهه المسلمون الآن في مناطق كثيرة، في الشيشان وفي غرب الصين وفي فلسطين وفي مناطق كثيرة، فهذه جميعها غبائن تتراكم في نفوس المسلمين وتؤدي إلى التطلع للإنصاف.
ثم هنالك التطرف الملي، والقومي، والطائفي، وأثر ذلك في تفريخ الغلو والتعصب والعنف، هذه كلها موجودة الآن، تطرف ملي، خلاف الأديان، تطرف قومي، القومية الغالبة سواء عربية أو تركية أو فارسية، والمجموعات القومية الأخرى، والطائفي سنة وشيعة، وأثر ذلك في تفريخ الغلو والتعصب والعنف.
رابعاً المشروع النهضوي المنشود أختصره في خمس عشرة نقطة، ضرورة فض الاشتباك الديني العلماني، الالتزام الديني أصله والأساس عنده دعم اجتماعي قوي، وهناك لا شك تطلعات علمانية يمكن التوفيق في إطار مدني بما يسمح بالمرجعية الإسلامية والمساواة في المواطنة، ولكن هذا النوع من التوفيق ضروري.. وكذلك التوفيق في نفس الإطار لا بد من إيجاد معادلة، الإخوان المسلمون يجرون مراجعة لقبول حقوق الآخرين والتعايش معهم، والآخرون يعتبرون أن الحق للإخوان المسلمين وغيرهم من أصحاب المرجعية الإسلامية، حرية هذه الأمور ضرورة، وإلا لا يمكن أن يحدث استقرار، إذن النقطة الأولى ضرورة، وثمة مقترح كيف يكون ذلك، ما بين التوجه الذي يلتزم بالمرجعية الدينية، والآخر الذي يتطلع للعلمانية وضرورة أن يكون الاتفاق على أساس الحقوق المدنية وحرية الأديان. ثم هناك السني الشيعي، وهذا الآن بلغ درجة من الخطورة، لأن التمدد والخلاف والعداء السني الشيعي أصبح يجد حواضن دولية، إقليمية وعالمية، وهذا يعني ضرورة أن نتفق على معادلة، وأقترح معادلة معينة لكي يكون هناك تصالح ما بين أهل السنة والشيعة، لا سبيل لإلغاء أحد هذين الطرفين، لا بد من الاعتراف بحقهما، ولكن أيضاً ضرورة أن يعترف الاثنان ببعضهما بعضاً، وأن نتفق على معادلة، وأنا أقترح كيف تكون المعادلة، هنالك لا شك أيضاً من صور الخلاف هذا، الآن الاستقطاب المحتمل والقائم التركي- الإيراني، الذي يمكن أن يبعث التاريخ الصفوي- العثماني، وهذا يعني أن نعود للوراء ونرهن أنفسنا لهذا الماضي، لا بد من معالجة هذا الأمر في إطار يتعايش الجميع في الإطار الإسلامي وإلا سيتحول كل هذا إلى حروب دامية، نكرر ما حدث في الماضي ونكرر ما حدث في أوروبا أيضاً.. ثم هنالك القومي، لا شك أن هناك قوميات غالبة، عربية، تركية وفارسية ..الخ، ولكن بين هذه المجموعات الغالبة مجموعات قومية أخرى، لا بد من معادلة، أنا أيضاً اقترحت هذه المعادلة للتعايش بين القومية الغالبة والقوميات الأخرى، لأن ترك الأمر كما هو بدون علاج تظهر المشاكل الزنجية عندنا والكردية في العراق والأمازيغية في المغرب إلى غير هذه المشاكل، ثم هنالك التناقض الاجتماعي، وأنا في كل هذه الأمور أذكرها في النداء الذي قدمته في معادلات مقترحة، الاجتماعي داخل الوطن ما بين القلة الغنية والكثرة الفقيرة، وفيما بين الأوطان، هذه أيضاً معادلة لا بد من علاجها.
هنالك شعار تطبيق الشريعة، هذا موضوع مهم، لا يمكن أن نتجاوزه، كيف يمكن أن نعالج هذه المسألة ، في رأيي لا بد أن نتفق، وأنا مقترح هنا أيضاً، دليل مرشد لمفهوم تطبيق الشريعة على أساس أن يوفق بين الواجب الجهادي والواقع القائم .. ثم هناك ضرورة التعريف المانع للإرهاب، لأن ترك الموضوع فضفاضا يمكن أن يسمح لكل جهة أن تسمي معارضيها أو مخالفيها إرهابيين، فلا بد من ضبط، فأنا اقترحت تعريفا واضحا يتحدث عن الإرهاب الأهلي والإرهاب الرسمي، أما الإرهاب الأهلي الذي يستهدف المدنيين في أنفسهم وأموالهم وحراسهم فهو لتحقيق أهداف خاصة وسياسية. . الرسمي الذي يقمع الحريات العامة ويبطش بمعارضيه دون مراعاة لحقوق الإنسان، وهذا يدخلنا في ضرورة أن يكون هناك نظام يحترم حقوق الإنسان ويحكم بالشرعية القائمة على رضا المحكومين الذي نعرفه عن طريق الانتخاب الحر، فلا بد إذن من التعريف الجامع لمسألة الإرهاب حتى يكون مفهوم الإرهاب منضبطاً، وهنالك الحاجة أيضاً إلى صحوة تعليمية، مناهج التعليم عندنا محتاجة بالفعل إلى أن تكون مواكبة لهذه المعاني وإلا أصبح التعليم أيضاً يسير بنا إلى الوراء. ثم هناك قوى اجتماعية محتاجة إلى الاعتراف بدورها، المرأة والشباب، هؤلاء أيضاً الآن ينبغي أن ندرك هذا، لغياب مشروعات ناجحة في هذا الصدد نجد كثيراً منهم يتطلعون إلى الخروج من بلادهم،... الجامعة العربية قامت بعمل دراسة للشباب ووجدت كيف أن النسبة الكبيرة منهم تتطلع للهجرة والخروج، هذا احتجاج على أوضاعهم، وبالنسبة للمرأة لا شك أن بروز حقوق المرأة في الأوساط العالمية والتركيز عليه جعل كثيرا من نسائنا المتعلمات يتجهن لقيادة غربية.. هناك أيضاً قضية التعايش الحضاري، ضرورة أن نتفق على أن الكلام على أن الغرب كله باطل وظالم ..الخ، فهذا غير صحيح، الغرب لدينا معه علاقات كثيرة جداً، تكنولوجيا نستوردها منهم، كوكب واحد، حقوق الإنسان، والآن هناك معانٍ كثيرة مشتركة بيننا من حقوق الإنسان والمنظومة الخلقية والأخلاقية ومشاكل البيئة ومشاكل كثيرة جداً، فلا نستطيع التحدث عن العلاقة مع الغرب أو مع الأسرة الدولية جميعها كأنهم دار حرب ودار سلام، ثم الآن كثير جداً من أكثر رجالنا ونسائنا يهاجرون إلى الغرب، لا بد أن نصل إلى معادلة، نعم لا تبعية ولكن أيضاً لا بد أن نبحث عن وسائل للتعايش في نظام عادل، ثم هناك ضرورة لنظام اقتصادي عالمي أفضل، فالنظام الاقتصادي العالمي الحالي ظالم من النواحي التجارية وكل النواحي، ثم هناك مسألة العدالة المناخية، أكثرية البلدان الغنية لا شك أنها تقوم الآن بتلويث البيئة ونحن في عوالمنا ندفع الثمن، هذا لا بد من التطرق إليه.
ثم هنالك مسألة الخلافة والإمامة والدولة الوطنية، التطلع لإمامة واحدة وإلى خلافة واحدة بالمفهوم القديم غير ممكن، وليس ملزماً، هنالك أمور ملزمة مثل: التوحيد والنبوة والمعاد والأركان الخمسة ولكن ما عدا ذلك أمرهم شورى بينهم، نحدد نحن ما نريد في إدارة أمرنا طالما نحن نلتزم بهذه المعاني، المهم أن الدولة الوطنية لا تتناقض مع أن يكون لدينا دولة وطنية ولدينا انتماء قومي ولدينا انتماء إسلامي، هذه الدوائر ممكن أن تتعايش مع بعضها بعضاً، لكن لا بد أن يكون لدينا تفكير، العلاقة بين المسلمين يمكن أن تقوم على معاهدة إسلامية تنظم المشترك والمصلحة المشتركة.
أخيراً العلاقة بالآخر الدولي، نعم الإسلام أممي، ولكن على أساس أنه ينتشر بالدعوة ( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة)، الإسلام ينتشر الآن بالقوة الناعمة أكثر بكثير جداً من أي تفكير بالقوة الخشنة، وهذا المعنى الذي أتحدث عنه كرره كثيراً البروفيسور ارنولد عن كيف أن الإسلام انتشر بالقوة الناعمة وليس بالسيف، وللأسف أن بعضا من المسلمين يرون أن جزءاً من عقيدتنا أن نقول، إن الإسلام قد انتشر بحد السيف.
لا بد من اتفاق جامع يمنع التصفية النهائية للآخر بالقوة، وتوسيع ميثاق الأمم المتحدة الذي هو الآن ظالم وفيه فجوات كثيرة لكي يكون التعامل على أساس التعاون بلا تبعية وبلا عداء.. هذه جملة أمور يجب أن تدخل في المطلوب لاستنهاض الأمة، والذي يجب أن نناقشه بصورة واضحة، على أساس أن هذا يمثل مصلحة للضمير الجمعي للأمة وهي تتطلع لحاضرها ومستقبلها.
الإحياء الإسلامي ليس عودة لما وراء ما حدث، ما حدث فيه ما هو ملزم وقطعي، وفيه ما هو اجتهادي وليس ملزماً، المهم أنه يجب أن نتطلع إلى مفهوم أن الإسلام إحيائي، وهذا الإحياء يتطلب أمرين، فهما اجتهاديا للنصوص وليس تقليديا، وإحاطة بالواقع والتزاود بينهما.
ختاماً، التطلع أن تتولى جماعة منا هذه الأسس وتكوّن مجلساً لدعم الإعلام والنصح والمتابعة، فإن تخلينا عن هذا فلنستعد لسايكس بيكو جديد يفرضه علينا أعداؤنا بمنطق عداواتنا المحلية، وهذا حتمي، وهذه كلها من القوانين والسنن، (كنتم خير أمة أخرجت للناس) ليس حقوقا وراثية، الخيرية مرتبطة باستحقاقات معينة، ما لم ندفع هذه الاستحقاقات غادرتنا هذه الخيرية، هذا وهم بني إسرائيل الذين ظنوا أنهم شعب الله المختار وأنهم لذلك يفعلون ما يشاؤون، ورب العالمين منحاز لهم، رب العالمين منحاز للحق، وهذه الخيرية مرتبطة باستحقاقات معينة، فلا يوجد شك أننا ما لم نقم بهذه الاستحقاقات وهذه الواجبات، كمشروع نهضوي يمكننا من معالجة هذه القضايا بوعي وبمسؤولية، مهما كان رأي الحكام الذين يريدون صرف النظر عن هذه الأمور، هم أنفسهم سيكونون ضحايا لهذه التيارات، لأن كل واحد منهم يجلس الآن للأسف في موقع مستهدف بالاتجاهات المتعلقة بسايكس بيكو جديد، فيكون هو على مكان يتآكل من تحته.
لا بد إذن أن ندرك أن هناك مقومات كبيرة جداً عندنا، مقومات معنوية ومادية وبشرية، ولكننا ما لم نفعل برأيي الاستجابة لمشروع نهضوي، ليس بالضرورة الذي أذكره، ولكن يقنعنا جميعاً به فنحن إذن سنكون عرضة، كما قلت، لتدابير الآخرين، فهذه الإمكانات تستصرخنا للقيام بهذا الواجب برأيي، ولكن سيوف حداد يا لؤي بن غالب مواض ولكن أين بالسيف ضارب..
وفي نهاية المحاضرة شكر الزميل محمد حسن التل رئيس التحرير المسؤول الإمام الصادق المهدي على هذا الخطاب وهذه الروح في تحليل قضايا الأمة وترسيم الوجع ووضع الحلول لها. متمنيا أن يسود هذا الخطاب كل دعاة الأمة... وتم فتح باب الحوار.
عبد الحميد الصباغ:
كيف من الممكن أن ننظر إلى العلمانية من منظور إسلامي كما فعلت أوروبا حالياً وهي تنظر إلى العلمانية.. البابا يوحنا بولص الثاني في كتابه المعروف «توسيع فسحة الأمل» قال بالحرف الواحد، العلماني شيء من الكاثوليكية والكاثوليكي شيء من العلمانية.. وكما هو معروف مصطلح العلمانية هو مصطلح كنسي لتمييز العاملين في الكنيسة من غير الرهبان، هذا علماني وهذا ديني، لكن السياسة أخذت هذا المفهوم.. كيف يمكن أن ننظر إلى العلمانية أنها ليست معادية للإسلام وليست كافرة وليست ملحدة ؟ .
ميسون العرموطي/ محاضرة في المهارات الناعمة وعضو جمعية الشؤون الدولية:
بما أنك تمارس الدور التنويري، وبما أنك وسطي فكراً ومنهجاً، لماذا لم تكن لك سطوة بحكم أنك قامة سياسية دينية معروفة في السودان لمنع الوصول إلى السوءتين في السودان ومنع ما حصل للسودان من تشتت وتقسيم ؟
الإمام الصادق المهدي:
بالنسبة لموضوع العلمانية والإسلامية، العلمانية نوعان، هناك علمانية أصولية، ترى أن لا حقيقة إلا ما نشاهد، وما نلمس بالحواس، ولكن هناك علمانية مخففة، أشبه بأنها تفصل فقط ما بين الدين والدولة.. في رأيي الحل هو في الآتي، بيتر بيرقير وهو أحد مؤسسي الفكرة العلمانية قال: كنا نظن أن الصلة هي ما بين العلمانية والديمقراطية، ولكن بما أننا رأينا كيف أن العلمانية كانت أكثر الناس بطشاً بالديمقراطية، كستالين وهتلر ..الخ، وصلنا إلى مراجعة أن المطلوب ليس العلمانية ولكن التعددية، فأعتقد أن هذا هو المدخل، الاعتراف بالتعددية، أن التعددية هي المطلوب احترامها، وإيجاد معادلة فيها، أن تتوافر الحقوق المدنية، حقوق المواطنة، وحق أصحاب الدعوة الدينية أن يدعو لمطالبهم طالما التزموا بحقوق المواطنة وطالما التزموا بالأسلوب السلمي، هذه هي المعادلة الممكنة، لأن أوروبا بعد طول نزاع توصلت إلى شيء من هذا النوع .. أوروبا الآن مهما يكتبون، مثلاً أمريكا، في الدستور أنها دولة علمانية، ولكن الدين يلعب دورا أساسيا الآن فيها ، وبريطانيا الملكة هي رئيسة الكنيسة ورئيسة الدولة، وألمانيا الحزب الحاكم الآن اسمه الحزب الديمقراطي المسيحي، والأعلام الأوروبية كلها، مع أنها دول علمانية، أغلبها فيها الصليب، أغلبها تحترم رمزية الصليب، والولايات المتحدة أيضاً مع كل ما فيها من توجهات علمانية العملة التي تستخدمها وهي الدولار عليها جملة (In God We Trust)، المهم أنه لا بد من معادلة، حل يقوم بطرد الدين هذا مستحيل، حل يقوم على طرد العقل مستحيل، وأعتقد أن كلمة علمانية من حقنا أن نطردها من معجمنا ونتحدث عن العقلانية والديمقراطية، وفي رأيي في إطار العقلانية والديمقراطية يمكن التوفيق بين العقلانية والديمقراطية وفي الإسلام المسائل العقلية محترمة، الطبيعة وقوانينها، (وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق)، السماوات والأرض وما بينهما هذه الطبيعة، علينا أن نكتشف قوانين، وممكن أن يكتشفها أي إنسان ليسخرها، وأسس التسخير هي قوانين الطبيعة، إذن نحن محتاجون إلى ذهنية تنفي الفهم المغلق للنصوص، وتسمح بفهم عقلاني يوفق ما بين حقائق الوحي وهي غيبيات، وحقائق العقل وهي في عالم الشهادات، هذا الموضوع يحتاج إلى أن نتفق عليه، أوروبا تقاتلت ثم وصلت الآن إلى معادلة لم تطرد الدين، الثورة الفرنسية عندما قامت من أهم القرارات الأولى لها إلغاء الدين، وهو قرار طائش، وبعد حين قام نابليون بعمل (كونكوردات) مع البابا، إذن إلغاء الدين مستحيل، وطرد العقل مستحيل، يجب أن نرى كيف سنوفق ما بين الأمرين.. في رأيي هذه الضرورة المطلوبة، وفي رأيي هذا مهم لكي نرفع الحوار فيما بيننا من المواجهة والاستقطاب والنزاع إلى الاعتراف بالآخر والتعايش في ظله، أعتقد أن هناك كثيرا من الإسلاميين بدأوا عملياً يفكرون في كيف يقومون بعمل توفيق، وحصل هذا في تركيا وفي تونس، وممكن أن تكون المسألة منظّرة، أي نصل إلى قوالب نظرية في التوفيق، العلمانية التركية القديمة، علمانية أتاتورك، علمانية معادية للدين، ولكن إذا كان هناك قبول للآخر الديني يمكن أن نتفق على هذه المعادلة، وفي رأيي هذه ضرورة لأن هناك من يخافون من أي نوع من الإلزام الإسلامي عليهم، فأعتقد أن هناك مجالا للتوفيق بين المرجعية الإسلامية وحقوق المواطنة وحقوق الإنسان والعقلانية.
بالنسبة لسؤال السيدة العرموطي، فأنا لست مسؤولاً عن أخطاء الآخرين، فأنا حدث ضدي انقلاب، وانقلاب بمن ظنوا أو قالوا أنهم يريدون تطبيق الشريعة، وهذا في رأيي خطأهم، وهم يدركون الآن ذلك، وعدد كبير منهم الآن معنا في ضرورة تصحيح هذا الخطأ، والخطأ وارد في حق كثيرين ظنوا أنه يمكن أن تطبق الشريعة بالقوة، وفي رأيي الآن أكثر الدعاة الإسلاميين أصبحوا يدركون، الحرية أولاً قبل الكلام عن تطبيق الشريعة، وكثير من الدعاة المسلمين أصبحوا يؤكدون هذا المعنى، الحرية شرط، لأنه إذا تحدثنا عن الشريعة بالقوة ندخل في مفهوم الإكراه في الدين، وأعتقد أن ما حدث في السودان تجربة خاطئة، الذين قاموا بها يعترفون الآن بخطئها، ويدركون هذا. الشيخ يوسف القرضاوي على سبيل المثال، عندما قامت الحركة السودانية بالانقلاب سُئل: هل يجوز القيام بانقلاب لتطبيق الشريعة؟ قال نعم إذا كان الانقلاب أبيض مثلما في السودان. أعتقد أنه راجع نفسه فيما بعد، وكثيرون راجعوا أنفسهم فيما بعد حول هذه القضية، أذكر أن الشيخ راشد الغنوشي زارني في عام 1992 حيث دعوا لمؤتمر في الخرطوم، المؤتمر كان مؤتمرا شعبيا إسلاميا قوميا، وقد زارني في البيت، وكان معه شخص اسمه الهاشمي، وطلب مني أن أؤيد النظام القائم، وقال لي: الخطأ الوحيد لهذا النظام هو أنه لم يشركك معه.. فقلت له بأنه لم ير الانقلاب العسكري، وهو عملية خاطئة، ولم ير الحزب الواحد، ولم ير مصادرة الحريات، ولم ير أن كل هذا عقبات في سبيل أن نتفق؟!! فأنا لا يمكن أن أتفق مع جهة فعلت كل هذا.. وبعد ذلك قابلته ورأيته كيف أنه تغير من ذلك الفهم إلى فهم آخر كما تشهدون الآن هناك تحركات فيها سعة أفق، فأنا غير مسؤول مرة أخرى عن أخطاء الآخرين، ومنذ البداية أعارض هذا النهج، وحتى يومنا هذا، بهدف أننا نتفق على ضرورة السلام العادل الشامل والتحول الديمقراطي الكامل ومراعاة حقوق الإنسان ..الخ.
بالنسبة للعلاقة بيني وبين الدكتور حسن الترابي، وهو زوج شقيقتي، العلاقة الإنسانية والاجتماعية قائمة، ولكن هناك خلاف سياسي منذ البداية حتى يومنا هذا، خلاف سياسي، ولكن الحقيقة أن هذا لا يمنع أن تكون هناك علاقات إنسانية واجتماعية وعائلية بيننا، وإن وقع خلاف سياسي، وفي رأيي في السودان توجد هذه النزعة، أن الناس ممكن أن يكونوا مختلفين سياسياً ولكنهم متآخون اجتماعياً.
حمادة فراعنة:
على خلفية ما تفضلت به، الدكتور حسن الترابي كما تعرف، رغم الخلاف الشديد بينك وبينه، هو قامة فكرية كبيرة، وأعتقد أن إنحيازه لما يسمى ثورة الإنقاذ وانحيازه للجيش هو الذي أعطاه شرعية كبيرة جعلت منه قامة كبيرة مثل راشد الغنوشي وغيره من القيادات، حيث كنت في ذلك المؤتمر وزرتك عندما كان مفروضا عليك إقامة جبرية، حيث كنت ضمن وفد أردني سياسي برلماني، وقد اشترطنا على الدكتور حسن الترابي أن نزور الصادق المهدي في بيته والمرحوم إبراهيم نقد من الحزب الشيوعي السوداني، لذلك الصادق المهدي قامة كبيرة، وحسن الترابي قامة كبيرة، نلاحظ أن حسن الترابي أعطى شرعية للإنقاذ أكثر من 15 سنة.
القوة التي امتلكها حسن الترابي الذي قاد السودان أكثر من 15 سنة، وما يقوله وما يدعو له الإمام الصادق المهدي لا يجد الصدى إلا عند أشخاص يسمعون ويحترمون ويقدرون، ولكن كيف يمكن أن يكون ذلك له تأثير في الأمة من أجل الوصول إلى مؤسسات صنع القرار.. الصادق المهدي فقد القوة وبقي داعيا، وحسن الترابي امتلك القوة وأصبح حاكم السودان، ولذلك كيف يمكن الانتقال من الفكرة إلى التطبيق العملي لكي يكون هنالك إنحيازات لهذه الفكرة.
ثانياً، استمعت عن حلولك الواقعية والارتباط بين الوطني والقومي والأممي، نحن في الأمة العربية، في شمال أفريقيا العربي من ليبيا حتى موريتانيا لا يوجد مسيحيون، بل يوجد يهود، ولذلك يحترمون اليهود باعتبارهم جزءا من شعوبهم، في المشرق العربي هنالك مسيحيون شركاء معنا ولا يوجد يهود، ولذلك بسبب ارتباط اليهود بالمشروع الاستعماري التوسعي الإسرائيلي لدينا نزوع في العداء لليهود، بينما معمر القذافي كان يستغرب بأن جورج حبش ونايف حواتمة مسيحيان كيف يمكن أن يكونا مناضلين وأشداء وثوريين، لذلك أعتقد من المفيد أن يكون هناك رؤية إسلامية في التعامل مع المسيحي والتعامل مع اليهودي بمعزل عن الحرب الصليبية الإستعمارية التي جاءت إلى بلادنا وبمعزل عن المشروع الاستعماري التوسعي الإسرائيلي الذي يحتل جزءا من بلادنا.
الدكتور محمود دباس/ باحث في علم الاجتماع السياسي:
التشخيص دقيق وتشخيص عالم ومثقف ثقافة دينية وسياسية عالية، ولكن الحلول التي رصدت أرى في الإطار الشخصي أن حقيقة الاتجاه العام لمجريات الأحداث تسير بغير هذا الاتجاه، الصراع القادم المرسوم للأمة العربية والإسلامية هو ثنائية السني والشيعي، وقد تحدث الإمام الصادق المهدي في محاضرة له في عام 2009 وتحدث أن الشيعة يشكلون 10% من عدد المسلمين، وأفادوا المسلمين في تطوير فكرة الإمامة..
بالنسبة للغرب أو غيره يريد تفتيت الأمة العربية فأتوقع أقرب دراسة هي لشمعون بيريز في كتابه «الشرق الأوسط الجديد» المعرّب عام 1997، وهذا أخطر مفكر إسرائيلي، فالتحول من إسرائيل الكبرى في التوسع الجغرافي إلى إسرائيل العظمى بموجب ذلك يتفتت ما بين النهرين، وهذا الأمر الواقع الآن.
نحن يجب علينا كمسلمين أن نطور تراثنا الديني، ولكن مصطلح محاربة الإرهاب لا يكفي، فالله تعالى قال في كتابه العزيز (... ترهبون به عدو الله وعدوكم)، فإذا تحدثنا بقصة الإرهاب علنا نضيف مصطلحا آخر وهو الإرهاب الأعمى، لأنه في النصوص القرآنية في معارك الإسلام الحالية أو القادمة نحن نقر بقضية إرهاب العدو، فكيف سنحارب مصطلحا ويصبح لدينا تشويه في المصطلح.
الإمام الصادق المهدي:
بالنسبة للدكتور حسن الترابي، فالدكتور الترابي بقي مع السلطة عشر سنوات وليس خمسة عشر عاماً، ومنذئذ وهو في المعارضة، كانت معارضة شديدة والآن أصبحت أخف، وصحيح أن الذي حدث هو أن العسكرية هي التي أعطت شرعية للنظام، فلا يوجد شك أن كل الذين يلجأون للانقلاب معناه أنهم غير مطمئنين إلى أغلبيتنا الشرعية، ولو تذكرون في عام 1989 الحركات الإسلامية اجتمعت جميعها، ونشر عنها الدكتور عبدالله نفيسة كتاب «مستقبل الحركة الإسلامية.. نظرة ناقدة»، وقال فيها: ينبغي علينا أن نتجنب حسب تجاربنا اللجوء للعسكرية للوصول إلى الشرعية، لأن العسكريين لديهم منطقهم، وعندما يستلمون السلطة سوف يمارسون السلطة ويساعدوننا في القضاء على أعدائنا، ثم يقضون علينا، وهذا ما قاله منيف الرزاز في التجربة المرة، أننا أخطأنا لأن لدينا أفكار، حرية واشتراكية ووحدة، وذهبنا وسلمنا هذه الأمور للجيوش، وقاموا بعمل الانقلاب وتخلصوا من أعدائنا ثم تخلصوا منا.. وأنا التقيت المرحوم ميشيل عفلق في عام 1988، وقلت له بأنني أقدر أن له فكرا قوميا مستنيرا، قلتم بأن الأمة العربية واحدة ذات رسالة خالدة، فهل هناك رسالة غير الإسلام؟ ثانياً قلتم حرية ووحدة واشتراكية، فرطتم في الحرية فذهبت الوحدة وذهبت الاشتراكية.. ثالثاً الشعار القومي لديكم في المشرق يجمع ما بين العربي المسلم والعربي المسيحي، ولكن لدينا مفرّق، فلدينا خمس قوميات، زنوج ويوبا ويوباويين وعرب، فعندما نقول عرب فعلى الفور نقوم بعمل انقسامات، إذن لا بد من مراعاة خصوصية السودان، وقال انه يوافق على كل هذا الكلام، والتزم بأن يكتب، للأسف مات قبل أن يكتب، وذكرت هذا الكلام في نعيه، أقول ذلك حتى أقول أن كل الذين استعجلوا لتطبيق مفاهيم فكرية، إسلامية، اشتراكية، عربية عن طريق العسكرية ندموا، لأن العسكريين بعد أن يصلوا السلطة فيكون القرار عندهم هم، الكوادر العسكرية لا يدركون هذا الكلام، فهم يجمعهم معك السلطة ثم تفرقهم بينك السلطة، مثلما قال الدكتور حسن الترابي بأن السلطة هي التي فرقت بينهم، فأنا صغت هذا الكلام في بيت (من تمطى باسماً ظهر النمر.. حتماً سيأكله ويبتسم النمر)، ومثلما قال أيضاً المتنبي: (ومن يجعل الضرغام بازاً لصيده.. تصيده الضرغام فيما تصيّدا)، فهذه هي المشكلة، العسكرية سبيل في تطبيق برنامج أيديولوجي خطأ، وسيندم.
ما أريد قوله، إننا من البداية وحتى اليوم الشعب معنا، والشعب غير راضٍ، فكل ما يقوم به النظام الآن هي حيل لأجل نيل الحسن، حتى اليوم يجرون انتخابات عبثية ليس بها أي معنى، الشاهد في كل هذا الكلام أنه حصل في بلداننا انقلابات عسكرية فرضت وضعها بالقوة، وحاولوا أن يزيفوا القوة بوسائل أخرى، رأيي في هذا الأمر أنه لا بد أن نحمي مشاريع الحق، ونقول بأن هذا الانقلاب خطأ والحزب الواحد خطأ ومصادرة الحريات خطأ وأعتقد أن الشعب السوداني الآن بصورة واضحة أدرك هذه الحقيقة، الجماعات التي كانت مع هذا الانقلاب وأصبحت الآن ضده أكثر من الذين معه، وهذا دليل على أنه حصلت صحوة، وحتى الدكتور حسن الترابي ومعه في الحزب الذين يسموه المؤتمر الشعبي هؤلاء اتخذوا موقفاً حتى الآن معارضاً، فالتيارات التي خرجت من عباءة التنظيم الأول هذا أكثر من عشرة، فالموقف الصحيح أنه حصل الانقلاب وعاش بالقوة وبالبطش والآن أغلبية الشعب السوداني متطلع لتغييره.
بالنسبة للدكتور محمود دباس فلديه تعليق، ويقول ان ما سمعه هو كلام نظري، لكن أقول بأنه ليس بكلام نظري، فالآن في هذا الوقت هناك بعض الجهات التي سارت على هذا الخط، في تركيا وفي اندونيسيا وفي بعض الأحزاب السياسية وفي تونس، فالكلام الذي قلته هو الطريق إلى تصحيح المواقف، حيث قال، ان الواقع يتجه في تجاه مضاد، لكن بالنسبة لي فأنا لا أعتقد ذلك، لا أعتقد أن ثورات الربيع العربي انتهت، بل أعتقد أن ثورات الربيع العربي انتكست، ولكن الكرامة والحرية والعدالة والتنمية ..الخ، تيار تاريخي، سينتصر، ثم سيجد شرعية في مبادئ الإسلام، حصلت أخطاء لأن الثورات هذه عندما تحركت لم يكن لديها لا قيادة ولا برنامج ولا بدائل، ولذلك حصلت الانتكاسات حيث حصل هناك فوضى، لكن أعتقد أن مشروع نظام جديد ينطلق من كرامة الإنسان والحريات وحقوق الإنسان والعدالة وعلاقة سوية مع العالم في رأيي هذا المشروع سينجح، مهما واجه الآن من نكسات، وكل الثورات المضادة في رأيي التي تحاول إلغاء هذه التطلعات والاتجاه إلى نظم أو مفاهيم كما تسمى في مصر (الفلول) أو الأمور التي بها عودة أو نكسة في رأيي سوف تنهزم، الحقيقة أن الثورات أو هذه التطلعات ليس بالضرورة أن تنتهي في سنة أو سنتين، ولكن التطلع لنظم تحقق الحكم الذي يقوم على المساءلة والمشاركة والشفافية وسيادة حكم القانون والاقتصاد الذي يقوم على التنمية والتوزيع العادل للثورة واحترام حقوق الإنسان في رأيي سوف يحدث مهما واجهنا من نكسات.
ما أريد قوله، يلزمنا خريطة طريق إلى هذه المفاهيم بوسائل تأخذ بالحسبان الواقع الاجتماعي والثقافة التامة، لكن برأيي هذه المفاهيم حتمية، وقد حصلت في العالم كله، فموجة الديمقراطية عمّت أوروبا وأمريكا ولا يوجد بديل لها، والمطلوب القوى الواعية في هذه المناطق هي تلك التي يمكن أن تدرك هذا وتضع مشروع تصالح مع الشعوب والمستقبل.
أنا عضو في نادي مدريد، وهذا النادي يمثل 100 رئيس دولة سابق ورئيس حكومة سابق منتخبين، وسمح لنا بأن نزور ستة دول عربية عام 2008، وسمح لنا أن نلتقي مع أحزاب معارضة وحكومات وحاكمين ومنظمات مجتمع مدني، بعد ذلك قمت بعقد اجتماع في البحر الميت، في يناير 2008، وأصدرنا بيانا، قلنا فيه، إن التوتر بين الحكومات والشعوب في البلاد العربية سوف يؤدي إلى انفجار ما لم يحدث تصالح وتفاوض بين الحكومات والمعارضين واتفاق على مشروع إصلاح، بعد ذلك، بعد عام 2010، بدأت الحراكات.. في رأيي الآن أكرر، أن النكسات التي واجهتها ثورات الربيع العربي أو انتفاضات الربيع العربي أو هبات الربيع العربي، فهي ليست ثورات بالمفهوم الصحيح بل هي انتكاسات، ولكن حتماً سيأتي غد فيه النظام السياسي في بلداننا يقوم على المشاركة والمساءلة وحقوق الإنسان واستقلال القضاء ..أعتقد أن هذا الكلام ممكن أن يبدو نظريا، ولكن في رأيي هو يمثل تطلعات الغد لشعوبنا.
وفي نهاية الحوار قدَّم رئيس التحرير المسؤول الزميل «محمد حسن التل» الشكر لسماحة الإمام الصادق المهدي، وتم تكريم سماحته بدرع «الدستور» .