نحن جيل المخدوعين… يا الله كم خدعونا!
تعالوا نعترف دون وجل أو خجل أن جيلنا تعرض لوابل من الخدع منذ نعومة أظفارنا، وللأسف ظلت الخدع تلاحقنا حتى فهمنا متأخرين جداً أننا مخدوعون لكن بعد فوات الأوان وبعد أن وقع الفأس بالرأس كما يقول المثل الشعبي.
وكي لا نبدو وأننا نتحدث بالعموم، فلنبدأ من العقد الثاني من القرن العشرين وهو بداية ظهور ما يسمى بالعالم العربي، فكما تعلمون لم تكن هناك كيانات عربية قبل ذلك التاريخ، فكل ما يُعرف بالمنطقة العربية كان واقعاً تحت سيطرة الآخرين، سواء كانوا غربيين أو عثمانيين أو غيرهم، ولم تبدأ المشاعر القومية بالظهور إلا بعد عام 1916 إبان ما سُمي وقتها بالثورة العربية الكبرى، وهي بالطبع توصيف مضلل جداً، لأنها لم تكن ثورة أبداً، بل كانت مجرد لعبة استعمارية لإخراج ما يسمى بالعرب من تحت هيمنة العثماني ووضعهم تحت هيمنة البريطاني أو الفرنسي وسواه من المستعمرين، فبدل أن يحصل المخدوعون على دولة عربية، قسمهم سايكس البريطاني وبيكو الفرنسي إلى كيانات ودويلات بالورقة والقلم، لا بل في الوقت نفسه زرعوا لهم بين ظهرانيهم كياناً غريباً، وهو إسرائيل في فلسطين بموجب وعد بلفور.
وبما أن الأنظمة الصاعدة وقتها التي بدأت تتخذ أشكالاً قومية كانت تحتاج إلى شعارات وحجج وذرائع لبسط هيمنتها وتنفيذ مشاريعها المناطة بها من المستعمرين، فوجدت في الشماعة الفلسطينية أفضل مادة للمتاجرة بها لاحقاً. ولا ننسى هنا أن حتى التوجهات القومية التي بدأت تبرز في العالم العربي بعد خروج العرب من تحت الهيمنة العثمانية لم تكن توجهات وطنية بقدر ما كانت موجهة من المستعمر الغربي الذي استخدم المشاعر القومية العربية وغذّاها وقتها لتحريض العرب على العثمانيين قبيل الحرب العالمية الأولى. وأكبر دليل على أن التوجهات القومية لم تكن وطنية أن تلك الأنظمة التي رفعت الشعارات القومية تحولت فيما بعد إلى أكبر مصيبة حلت بالعرب بعد الاستعمار، ولو نظرتم إلى حال الدول العربية التي تاجرت بالقومية كالعراق ومصر وسوريا وليبيا واليمن والجزائر والسودان وغيره اليوم لعرفتم ماذا فعلت تلك الأنظمة ببلدانها وشعوبها. ونحن نرى اليوم أن كل الأنظمة القومجية التي كانت تسمي نفسها «تقدمية» دمرت نفسها وبلدانها وشعوبها، بينما التي كانت يسميها القومجيون بالأنظمة «الرجعية» على الأقل حافظت على كياناتها وشعوبها وأوطانها وتقدمت أكثر من الأنظمة التقدمية المزعومة بمراحل، حتى ولو بمباركة الصانع الغربي.
لا شك أن البعض هنا سيقول لنا إنها مؤامرة غربية استهدفت الأنظمة القومية التقدمية ودعمت الأنظمة الرجعية العربية النفطية، وهذه كذبة من العيار الثقيل لم تعد تنطلي حتى على تلاميذ المدارس، فما فعله الحكام القومجيون ببلدانهم وشعوبهم لا يستطيع أن يفعله أسوأ مستعمر عبر التاريخ. انظروا إلى النظام القومجي السوري الذي رفع شعار الوحدة والحرية والاشتراكية واحكموا بأنفسكم.
منذ أكثر من سبعين عاماً والنظام السوري وأمثاله يرفعون شعار «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة» ويتخذون من الشماعة الفلسطينية وسيلة لسحق أي صوت معارض. منذ ثلاثة أرباع القرن والقومجيون يتعللون بما يسمونه «العدو الصهيوني» ويتخذون منه ذريعة للبقاء في السلطة وفرض سطوتهم على شعوبهم. يا الله كم خدعونا بكذبة مواجهة العدو الصهيوني، فاكتشفنا متأخرين أن سبب بقائهم جاثمين على صدور شعوبهم هو العدو الصهيوني ولا شيء غيره، وقد انكشفت أكبر كذبة في القرن العشرين عندما ثار الشعب السوري على النظام الفاشي، فخرج رامي مخلوف فوراً ليحذر كفيله الإسرائيلي قائلاً: «لا تنس أن أمنكم من أمننا». فوراً لم يعد هناك عدو صهيوني مطلقاً، بل صار يتحدث رامي الناطق الرسمي باسم العائلة الحاكمة وقتها عن المصير المشترك للصهيوني والنظام الطائفي في سوريا. ولم ننس ما قالته روسيا وقتها حرفياً «إن الوجود الإيراني والميليشيات الإيرانية في سوريا ولبنان هو أكبر ضمان لأمن إسرائيل». فجأة لم يعد أحد يتحدث عن مقاومة. فجأة اختفت شعارات إيران التي تتحدى الشيطان الأكبر والإمبريالية والصهيونية، وصار الصفيوني والصهيوني في خندق واحد على الأرض السورية. لا بل إن صحيفة الوطن السورية خرجت علينا بعنوان صارخ يقول: «الجيش العربي السوري وإيران وأمريكا في خندق واحد». والمانشيت موجود على الإنترنت.
وإذا كان رب البيت للدف ضارباً فشيمة أهل البيت كلهم الرقص، فلا بد لتوابع الأنظمة القومجية وذيولها كحركات المقاومة المزعومة أن ترقص على أنغام ضارب الدف. يا الله كم كنا مغفلين عندما صفقنا لحزب الله وأمثاله ظناً منا أنهم حركات مقاومة حقيقية، فاكتشفنا متأخرين بأنهم مثلهم مثل بقية رافعي الشعارات مجرد حراس للعدو الصهيوني. ظنناها حركات مقاومة، فإذ بها حركات رخيصة فعلت بالسوريين والعراقيين واليمنيين أكثر مما فعله العدو الصهيوني بعشرات المرات. وقد قالها نصرالله بعظمة لسانه إنه يفتخر بتصديه للسعودية أكثر بعشرات المرات من تصديه لإسرائيل.
وقد جاءت الثورات الشعبية لتميط اللثام عما تبقى من خرافات وغشاوات تغطي أعين ملايين العرب من المحيط إلى الخليج. ظنت الشعوب المسحوقة منذ عقود أنها تستطيع أن تغير أوضاعها، وكان هناك ألف سبب وسبب لأن تثور، لكنها اكتشفت متأخرة أن الذين صفقوا لانتفاضاتها في البداية لم يريدوا لها مطلقاً أن تتحرر من ربقة الظلم والطغيان، بل استغلوا الوضع لتدمير بلادها وتهجيرها وتحقيق مشاريعهم المرسومة للمنطقة منذ عقود وعقود. كما خدعوا العرب فيما سُمي الثورة العربية الكبرى، عادوا وخدعوهم فيما سُمي الربيع العربي، وبشكل أفظع وأقسى بعشرات المرات. ثار العرب على وكلاء المستعمر في بلادنا الذين ظنناهم أنظمة قومية ووطنية، فتدخل المستعمر لإنقاذ أتباعه وليحول ثورات الشعوب إلى وبال عليها، وكأنه يقول لنا: نحن نغير حكامكم وأنظمتكم كما يحلو لنا، وليس أنتم.
نحن جيل المخدوعين، فهل تتعلم الأجيال القادمة من أخطائنا.
وسوم: العدد 1028