ضريحان لا يصنعان وطناً
منذ الوفاة المفاجئة لمترجم «الساق على الساق» همفري دايفيز، وأنا أشعر بفقدان كبير. فهمفري دايفيز الذي نجح في ترجمة أحمد فارس الشدياق إلى الإنكليزية، شكل علامة فارقة في فن الترجمة الأدبية. وقد جمعتني به صداقة مديدة امتدت من رواية «باب الشمس» إلى رواية «أولاد الغيتو». فالرجل كان مبدعاً على كافة المستويات، وكان العمل معه سياقاً لفهم جديد للأدب، الذي حين يدخل في أتون الترجمة يكشف معدنه الأصيل، فيتجوهر بنار العبور من لغة إلى أخرى.
فكرت أن وسيلتي الوحيدة المتاحة لتكريم ذكرى هذا الصديق هي زيارة ضريح الشدياق في الحازمية في ضاحية بيروت الشرقية. فمنذ خمس سنوات ذهبنا معاً، همفري وأنا، رفقة رنا عيسى ومجموعة من أساتذة الجامعة الأمريكية وطلابها، إلى ضريح الشدياق، ومسحنا الغبار عن بلاطه وغسلناه بالماء والكلمات.
قرأ همفري من ترجمته وقرأت من الأصل العربي، وشعرنا بأننا في حضرة الحياة. يومها فهمت أن الأدب هو الماء الذي يروي شجرة الحياة التي تجدد صورتها في مرايا الكلمات.
لم نلتفت يومها إلى القبور التي تحيط بالضريح، بل كان همنا تنظيف الضريح والوقوف أمام أحد كبار مؤسسي اللغة العربية الحديثة، ومخاطبة روح المعلم بكلماته التي كتبها منذ قرن. لكننا توقفنا طويلاً أمام واقع أن المعلم دُفن في مقبرة غير دينية. فهذا المسيحي- المسلم، جسّد في حياته وموته التوق إلى مكان خارج الاصطفاف الطائفي، يقف فيه الموتى أمام المنعطف الأخير من الحياة، لا يفرقهم دين أو لون أو عرق، بل يتساوون في أبدية التراب.
لكنني في الأمس، أردت تكريم ذكرى صديقي المترجم، فذهبت إلى ضريح الشدياق مستعيداً لحظة كانت، بالنسبة لي، مناسبة للتأمل في معنى الأدب، وفي دلالات حياة هذا الكاتب العظيم الذي صار قبره الفصل الإشكالي الأخير من حياته. فتنافست عليه الديانتان اللتان عبر بهما، وانتهى به المطاف في مقبرة المتصرفين التي تقع اليوم وسط تقاطع طرق في الحازمية.
لا شيء يجمع الشدياق بالمتصرفين الذين حكموا لبنان الصغير بعد الحرب الأهلية الأولى 1860، سوى أنهم غرباء. المتصرفون حكموا كغرباء وماتوا غرباء، أما الشدياق فقد أبعده الاستبداد عن أهله ووطنه، فعاش في الغربة، وعاد ميتاً ومتغرباً. المتصرفية كانت تسوية مؤقتة بين السلطنة العثمانية والدول الأوروبية الطامحة لوراثة الرجل المريض، عبر تعيين متصرف مسيحي عثماني، أي غير لبناني، حاكماً لبقعة صغيرة اسمها لبنان؟
أما الأدب فكان عصياً على التسوية، لأنه ينبع من الروح التي لا تعبأ بأنصاف الحلول.
الزمن المتصرفي الذي استمر نصف قرن لا يحتل سوى مكان هامشي في الذاكرة التاريخية اللبنانية، ولا نذكر منه سوى كيرخانات الحرير العابقة بالفقر، وأمواج الهجرة من جبل لبنان إلى «العالم الجديد»، ونهايته المأساوية في المجاعة الرهيبة خلال الحرب العالمية الأولى.
ذهبت لزيارة الشدياق فارتطمت بضريح مهمل محاط بمقابر بعض حكام لبنان في عهد المتصرفية. ودفعني الفضول للتأمل في قبورهم التي لم يعد يتذكرها أحد.
غير أن ما أثار اهتمامي هو أن الدول الأوروبية التي وضعت نظام المتصرفية بالاشتراك مع السلطنة العثمانية كانت تعلم أنها تصنع حلاً مؤقتاً في انتظار ما سيكون.
هذا المؤقت انهار في الحرب العالمية الأولى لتحل في مكانه مؤقتات لا تزال تتوالد إلى يومنا هذا، ولم يبق من المتصرفية سوى المقبرة التي تحولت إلى مكان شبه محايد، سمح لهذا الكاتب اللبناني الخارج عن التصنيف بأن يجد فيه مكانه الأخير.
ما أثار خوفي هو أن من يقيمون قرب المقبرة، ومطعم الوجبات الجاهزة الذي يحتل حيزاً منها، يتصرفون وكأن المقبرة إلى زوال، ويحلمون بالاستيلاء على أرضها ومحو أثرها.
لم أجد أحداً أسأله عن علاقة الشدياق بالمؤقت اللبناني الدائم. وأحسست بحنين لا مبرر له إلى الزمن المتصرفي، حيث كانت الأمور واضحة وكان السياسيون اللبنانيون الذين سيطروا على مجلس الإدارة يعرفون أنهم ليسوا سوى دمى تحركها الدول الأجنبية التي كانت تتعامل معهم بصفتهم أدوات لا أكثر.
لم يستطع المؤقت اللبناني طوال أكثر من قرن التحول إلى وطن، وقد اصطدمت جميع محاولات العبور من المؤقت إلى الوطن بطبقة التجار والمصرفيين، وبواقع جغرافي-سياسي جعل من لبنان مصيدة للدول الإقليمية والقوى الدولية.
وكانت انتفاضة تشرين 2019 آخر محاولة للخروج من المؤقت، لكن نظام الطوائف والمصارف نجح في وأدها بالعنف تارة وبتسعير الخطاب الطائفي تارة أخرى.
وقفت أمام ضريح الشدياق لأتأمل في علاقة هذا المؤقت اللبناني الدائم بمؤلف «الجاسوس على القاموس»، الذي أسس لغة الصحافة، وكتب الرواية العربية الحديثة الأولى، واستنبط كلمات جديدة، وهاجر ولم يعد إلى وطنه إلا ميتاً.
لم أسأل الشدياق عن رأيه في الحال الذي وصلنا إليه، خفت من سخريته، كيف أروي له عن هذه الهستيريا العنصرية التي تجتاح وسائل الإعلام ضد اللاجئين السوريين؟ كيف أروي عن دولة دالت وتحللت وتشظت فيها العدالة بعد انفجار المرفأ بالمدينة؟
خجلت من الضريح، فأنا لا أستطيع أن أطمئن الرجل إلى أن المؤقت لن يجرف ضريحه، كما جرف بلاده.
وتساءلت من جديد عن منطق وضع ضريح الشدياق إلى جانب أضرحة المتصرفين في مقبرة لا يزورها أحد؟
المتصرفية زالت وصارت مجرد مقبرة مهملة، فهي لم تكن سوى مؤقت عبر بلبنان إلى مؤقتات أكثر تعقيداً وعنفاً، أما الشدياق فلا يقيم في الضريح. روحه صارت جزءاً من لغة تطورت وبقي نتاجها الأدبي علامة على أن الأدب اللبناني والعربي يستطيع أن يتجاوز مؤقت هذا الليل الطويل، لأنه يخبئ الضوء في حبر الكلمات.
وسوم: العدد 1030