من الشاه إلى الخميني
يوميات نصراوي:
نبيل عودة
كاتب , ناقد وصحفي فلسطيني – الناصرة
مشروع عمل في ايران
وصلت ايران ايام الشاه، عام 1977 قبل سقوطه بسنتين تقريبا ( سقط عام 1979)، لبناء مصنع لمنتجات البلاستيك في مدينة شيراز، التي تعتبر المدينة السياحية الأهم في ايران، لجمال طبيعتها وكثرة حدائقها ، ابنيتها الفاخرة، شوارعها العريضة، فنادقها ومطاعمها الراقية، جمال نسائها وكثرة مواخيرها التي كان يملأها "رجال" الخليج العربي، لقربها ايضا من الأثار التاريخية للدولة الفارسية، للأجانب تبدو مدينة منفتحة ليبرالية، تقع في مركز تقاطع طرق هام يربط ايران بالخليج العربي ، عبر ميناء هام في مدينة بوشير ( او "بوشهر" كما تكتب بالفارسية). طبعا أحياء الفقر شبه معزولة، لا يراها الا من يتعرف على المدينة بكل تفاصيلها وكل اتساعها.
وصلنا شيراز لبناء مصنع ضخم جدا لحساب عائلة تحمل اسم "سعادات" التي تلفظ "سادات" وهي ضمن 100 عائلة تسيطر على كل مقدرات ايران الاقتصادية والسياسية وترتبط هذه العائلات بعلاقات نسب مع شاه ايران محمد رضى بهلوي ومع بعضها البعض، تشكل كارتيل سياسي اقتصادي عسكري، مدعوم من الغرب وطبعا من اسرائيل التي كانت لها علاقات تجارية وسياسية وعسكرية بالغة الأهمية مع دولة الشاه وهناك موضوع مثير للغاية بدأت افهم خيوطه العريضة في وقت متاخر.. سأتحدث عنه في وقته ضمن النص.
حطت بنا طائرة ال – عال في مطار طهران حيث استقبلنا ممثل الشركة صاحبة مشروع مصنع البلاستيك التي يملكها سعادات.
حدثنا ممثل الشركة ونحن في الطريق من المطار الى مكاتب الشركة، عن حادث مضحك وقع لسيده سعادات ( ليحفظه الله الشاه ويحفظ سعادات ويعطيهما الصحة وطول العمر، كما تعودنا ان نسمع كلما لفظ اسم احد "عظماء ايران"). بصعوبة ، بكلمات انكليزية متفرقة، فهمنا ان سيده سعادات وصل الى اسرائيل للتوقيع على اتفاق بناء المصنع، الايرانيون يلفظون اسم سعادات بدون حرف العين "سادات"، التوقيت كان عشية محادثات ترتيب زيارة الرئيس المصري السادات الى اسرائيل ، اي عام 1977، احدث وصول سعادت ارتباك كبير، بظن انه الرئيس المصري انور السادات، عوق ركاب الطائرة، بعد وقت ومداولات مع قبطان الطائرة والأمن الاسرائيلي وربما اوساط حكومية أخرى اتضحت الصورة ان الزائر رجل اعمال ايراني اسمه سعادات. جاء ليوقع تعاقد مع شركة اسرائيلية لبناء منشأة صناعية في ايران، اعتقد ان الشركة الاسرائيلية هي "دور خيميكاليم" الموجودة في خليج حيفا، التي خططت للمشروع وراقبت تنفيذه، وفاز بالمناقصة رجل الأعمال يوسف برودني الذي كان مقاولا يقيم منشئات جديدة في مصنع الشركة في حيفا ، وكنت ضمن مديري العمل في شركته.
بعد ان استرحنا في مكاتب الشركة، قدمت لنا وجبة طعام ثم نقلنا لمطار داخلي لنستقل طائرة الى مدينة شيراز التي يقام المصنع بالقرب منها.
استقبلنا في شيراز يوسف برودني وهو رجل الأعمال الاسرائيلي الذي فاز بالمناقصة في شيراز، يعرف اللغة الايرانية بشكل لا باس به، بسبب عمله سابقا في ايران، نقلنا الى فيلا في حي فيلات راق جدا اسمه "باغرام"عرفنا فيما بعد ان الأسم يعني "جنة عدن"!!
طبعا جنة عدن بالمقارنة مع احياء الفقر الرهيبة في شيراز والتي مجرد رؤيتها تجعل الشخص يرتعب من ولوجها.
من البداية رأيت بقناعة مطلقة، ان سياسة الشاه التي تميزت بالارتباط مع الغرب، علاقاته الوطيدة مع إسرائيل ،اعتماده على القوى الغربية، الولايات المتحدة ، بريطانيا، المانيا، ايطاليا، فرنسا واسرائيل (من اسرائيل مثلا كانت شركة سوليل بونية تنفذ مشاريع كبيرة، عدا العلاقات العسكرية التي سمعنا عنها ولا نعرف تفاصيلها)، إضافة الى ما لمسناه وسمعناه عن الإسراف ، الفساد والنخبوية في سياسات الشاه وديوانه الملكي، فشله في استقطاب المتعاطفين والأتباع من القيادات الدينية الشيعية لمقارعة الحملة الخمينية ضده.. مما اوصله الى طريق مسدود، رغم انه تنبه الى مأزق امبراطوريته والقى خطابا وعد فيه بالاصلاح الجذري والقضاء على الفساد ولكن الوعود لم تعد تفيد، لا اعتقد انه نفذ شيء منها.. رغم اننا لاحظنا حركة انشاء صناعية ضخمة في ايران تشارك فيها مختلف الدول الغربية المذكورة آنفا.
طبعا لم يشغلني الأمر كثيرا، انما مجرد مشاهدات لشخص يملك وجهة نظر سياسية، ويحاول ان يفهم المحيط الذي من المقرر ان يقيم فيه لفترة قد تزيد عن السنتين. وبات واضحا من الشهر الأول ان مشاريع العمل تتوارد على برودني من داخل ايران ايضا، اذ في نهاية السنة الأولى بدأنا بمشروع اقامة مصنع جديد في مدينة اصفهان.
بجانب بيتنا توجد حديقة رائعة هي حديقة الشاهبانو ( زوجة الشاه) وفيها قصر جميل، كنا نتردد على الحديقة الرائعة، وبقربها القنصلية الأمريكية ، التي سمحت لنا بكوننا نحمل جوازات سفر اسرائيلية ولسنا ايرانيين، بالدخول والتمتع بالسهرات وشرب البيرة وتناول اطعمة خفيفة باسعار بخسة ، عدا برامج فنية وافلام كانت تقدم لعاملي القنصلية ومن يسمح لهم بالدخول من الأجانب فقط!!
لن اتحدث عن العمل المهني فانا لمعرفة القراء فقط ، عملت في مجال الصناعات الثقيلة (المنشئات الحديدية) لعدم توفر فرصة عمل ذهني في ظروف اقصاء الوطنيين والشيوعيين عن الوظائف الرسمية خاصة في سلك التعليم ( كنت ارغب ان اكون معلما مهنيا). رغم اني اكاديمي في تحصيلي العلمي ، درست سنة في قسم هندسة الميكانيكيات في التخنيون – حيفا، قبل دراستي الفلسفة والعلوم السياسية في الاتحاد السوفييتي السابق، الا اني عملت لمعيشتي مدة تقارب ال 35 سنة في الصناعة المعدنية، قبل ان اتقاعد واتجه للعمل في الصحافة. بدأت حدادا ، ثم مديرا لفحص جودة الانتاج، فيما بعد مديرا للعمل وبعد ذلك مدير انتاج منذ عام 1990، في ايران كنت مديرا للعمل.
مشاهدات عديدة في ايران ظلت محفورة في ذاكرتي، خاصة ذكرى العاشوراء ومسيرات جلد الذات بالات حادة وسلاسل حديدية، الدم يتدفق من الجروح بعض المحتفلين يسقطون مغشا عليهمن من الجروح ونزيف الدم او الحزن الشديد الذي يتملكهم .. رفعت الة لتصوير لألتقط صورا ... فاذا بايراني يقترب مني محذرا ان لا احاول التصوير، وان انسحب بسرعة حتى لا اتعرض للإعتداء.
الأثار التاريخية لأباطرة الفرس جميلة وتشير الى حضارة عريقة، الفرس يفخرون بتاريخهم وآثارهم..طبعا هناك آثار اسلامية، البعض كان يسمي رجال الدين ب "شيوخ العرب"، بتلميح واضح للتمسك بالتراث الفارسي ضد الغزو الاسلامي.. لكنهم اقلية كما أظن، اذ لم يكن من السهل ان يجاهر الانسان برايه السياسي او الديني. التعصب الديني للشيعة يبدو شديدا ، والعالم بالنسبة للشعب الايراني البسيط، مقسوم بين شيعة وسنة لا غير.
السؤال الأول من العمال الذين قبلناهم للعمل كان عن كوننا سنة أو شيعة؟ بالنسبة لهم لا يوجد في عالمنا شيء آخر. أعلنت اني شيعي، كان يعمل لدينا سائق رافعة اسمه حسين حزدوز في عيد الميلاد سمعت انه توجد طائفة مسيحية في بلدة قريبة من شيراز ( ربما اسم البلدة بور- زرقان)،من منطلق حب المعرفة، وليس من دافع ديني سافرت لمشاهدة احتفالهم. بعد عودتي واجهني حسين حزدوز بتهمة "انت نصراني" واني كذبت عليهم بقولي اني شيعي. النفي هنا لا يساعد، قلت له انا نصراني شيعي. لم يفهم هذا الدمج. سألته: من النبي الذي كان في البداية؟ قال حسب تفكيره البسيط: النبي محمد. سالت: وفيما بعد؟ قال: عيسى. قلت له:اسلمنا مع محمد وتبعنا علي بن ابي طالب وانتمينا فيما بعد الى عيسى ، لذلك انا "مسلم شيعي نصراني". استصعب الفهم وانتهى النقاش.. لكنه ظل متشككا لأنه لم يسمع سابقا ب "نصراني شيعي"!!
من المضحك المبكي موضوع التحريم والتحليل في ايران، مثلا يوجد مصنعان للكولا ، الأول مصنع كوكا كولا، والثاني مصنع بيبسي كولا. هل من فرق بينهما؟ بالنسبة لي لا فرق. للكثير من الايرانيين الموضوع أشبه بالفرق بين الايمان والالحاد. هناك فتوى تقول: "كوكاكولا مكروه، بيبسي كولا حرام" لم افهم السبب الا بعد فترة طويلة من عامل يتمتع بمستوى عقلاني ومعرفة لغات اجنبية، وهو امر نادر في الوسط الذي عملنا معه في ايران، شرح موضوع الكولا وهو يضحك، بأن الكوكا كولا يملك المصنع ايراني شيعي، اما البيبسي كولا، فصاحب المصنع بهائي!!
الفجوة الاجتماعية الاقتصادية في ايران مذهلة وغير معقولة. قسم من المجتمع يعيش في احياء ومنازل لا تخجل اي دولة اوروبية، الأكثرية في احياء أشبه بمخيمات اللاجئين. انتبهت الى وجود احياء معزولة، شبه قرية داخل مدينة، مخصصة لضباط الجيش ورجال الأمن المميزين في ايران والدخول اليها مغلق الا لمن يملك تصريحا خاصا.
ايضا المطاعم تتفاوت في مستواها ، لا اتحدث عن نوع المأكولات، بل عن النظافة ونوع الزبائن. هذا لا يحتاج الى خبير وتحقيق، واضح للعيان. هناك مطاعم تحت أي مستوى انساني معقول وهناك مطاعم لا تخجل مطاعم باريس . يوجد في الوسط مطاعم اخرى، لكنها ليست لأبناء الشعب الفقراء، وما اكثرهم في امبراطورية نفطية مثل ايران، الذين يعيشون بمستوى فقر لم اشاهد أسوأ منه. . ويعتمد اكلهم على الخبز ونباتات مختلفة او "التشيلو" ( اي الأرز).
هناك مدارس خمسة نجوم لأولاد الأغنياء ورجال الجيش والأمن وكبار الموظفين واصحاب الدخل المرتفع ، الى جانب مدارس مهينة بابنيتها وقذارتها بل وشاهدت طلابا يتعلمون تحت الشجر في بعض المناطق البعيدة عن المدن. حسب صاحبنا العامل الايراني المتنور، مدارس الفقراء تخرج شبه اميين في العلوم والحساب واللغات ، مدارس اولاد الأغنياء مستواها اوروبي. ما لاحظته أيضا نسبة الأمية المرتفعة، وصعوبة ايجاد ايراني يتحدث لغة اجنبية، أجاب مهندس في الشركة على سؤال لنا لماذا لا يكتبون الفارسية بأحرف لاتينية لأن الفارسية كما لا حظت من نطقها اسهل ان تكتب بالحرف اللاتيني؟ قال ضاحكا: في ايران نسبة امية مرتفعة جدا، اذا استعملنا الحرف اللاتيني سيصبح في ايران 90% أميين!!
تفاجأنا ان التاكسي يحمل ركابا بدون تحديد عدد الركاب. السائق مستعد ان يحشر ست أشخاص او سبع أشخاص اذا امكن في المقعد الخلفي المعد لثلاث ركاب، بجانبه اثنان على المقعد ولا باس ان يجلس الثالث بجانبه أيضا من جهة اليسار ( جهة السائق) .. ويمكن ايضا أن يجلس اثنان بصندوق التاكسي الخلفي المفتوح. الشرطة لا تتدخل ولا يهمها الأمر والمخالفة تحل ببعض الريالات (العملة هي الريال وكل عشرة ريالات تسمى "تومان" وكانت قيمتها بالمقارنة مع الدولار لا تتجاوز 15% ). واذا ارتكبت مخالفة وانت أجنبي ("خارجية" بالايراني) فانت معفي من المخالفة، واذا كان معك بالسيارة ايراني ( "ايرانية")، فهو المذنب، حتى لو كان يجهل قوانين السير ولا يملك رخصة قيادة سيارة.
شيراز مدينة سياحية مليئة بالحداق الجميلة، شوارع عريضة ، وفيها شارع تجاري هام اسمة "زند الكبير" تجد فيه محلات الملابس الفاخرة، محلات الذهب والجواهر الثمينة، مطاعم من الدرجة الأولى، سوبرماركتات ضخمة وفيها من كل لذ وطاب من الماكولات المستوردة والمشروبات الروحية التي لا تجدها في مناطق اخرى لأنها للكفار فقط... بما في ذلك لحم الخنزير المستورد من الولايات المتحدة، كما تبين لنا. المستهجن اني وجدت سوبرماكت ضخم، مليئ ايضا بالمشروبات الروحية من كل ما يشتهيه القلب. لا حظت ان بوابة السوبرماركت، تحمل نجمة داوود اليهودية، وعلى حائط فوق صندوق الحساب علقت لافته بالعبرية، "ادوناي شومر يسرائيل" (أي الهي حامي اسرائيل) قصدت الحديث مع صاحب السوبرماركت بالعبرية، فاجابني بلغة عبرية لا باس بها، تبين انه يهودي متدين ايضا. لكن كيف تكون يهوديا متدينا وتبيع الخنزير ومعلبات ولحوم ليست "طاهرة" ("كشير" حسب الدين اليهودي)؟ ضحك وقال انه يبيع للأجانب والأمر ليس لاستعماله او لاستعمال اليهود. اوضح لنا ان من يقطع لحم الخنزير، يوزنه، يغلفه ويسلمه للزبون هو عامل ايراني. قلت: لكنك تقبض الثمن، ما الفرق؟ جوابه كان ان متطلبات الحياة والربح واعاشة العائلة ، لا تتيسر بدون ذلك لأن اكثرية الزبائن أجانب والايرانيون الفقراء لا يقصدون هذه المحلات وهو ليس المسؤول عن عقائد الناس وأطعمتها المفضلة.
اعجبني جوابه.. والأهم ان محله لا يفرغ من الأجانب ، لدرجة اننا ننتظر بالدور ربع ساعة على الأقل احيانا لنستطيع دفع الحساب . المضحك ان بعض العمال الايرانيين طلبوا ان نشتري لهم الجعة لأنها لا تباع في احيائهم ويخافون من دخول المحلات التي تبيع الخمر لأنها محرمة شرعا عليهم فلبينا طلباتهم.. وبذلك نحمل وزر خطيئتهم يوم الحساب!!
فيما بعد لاحظت ان معظم محلات شارع "زند الكبير" أصحابها من اليهود ونجمة داوود تزين مداخل محلاتهم. لم اشاهد ان الموضوع يغضب ابناء ايران المسلمين. هل هو خوف من نظام القمع والاستبداد؟ لا اعرف.. رغم ان اليهود يتظاهرون بدينهم علنا، بينما البهائيين وطوائف اخرى يخفون انتمائهم الديني.. ونحن أيضا لم نعترف بان فرقتنا من السنة والمسيحيين.. اتذكر جيدا اننا حذرنا قبل سفرنا الى ايران من هذه الاشكاليات وفي مكتب الشركة في طهران ايضا حذرنا مدير الشركة من كشف انتماءنا الديني.
اذن هل كانت ايران على فوهة انفجار بركاني ديني اجتماعي اقتصادي؟؟
الملاحظة التي اود تسجيلها ان صورة الشاه تكاد تكون على كل حائط او صورة العائلة المالكة، او صور عديدة، حب غير عادي يجري التعبير عنه بالصور المنتشرة في كل قرنة وشارع وحائط، فيما بعد لاحظت ان مساكين ايران يحملون ايضا صورة الشاه داخل بطاقاتهم الشخصية... حب عاصف غير عادي للشاه والشهبانو والعائلة المالكة. استنتجت تلقائيا ان الشاه يعيش على حساب زمن انتهى، وان نهايته مسالة وقت غير طويل. كومة قش بانتظار عود كبريت واحد. هذا ما قلته لمهندس الشركة وشريك في شركة يوسف برودني التي ننفذ العمل لحسابها، اسمه بيني براف وهو اليوم مقاول كبير مستقل في منطقة حيفا. عارضني بان الشاه بنى نظاما امنيا قويا، وانه عبر تجربة سياسية ليست سهلة، اذ في اواسط الستينات (1953) انتخبت حكومة وطنية برئاسة محمد مصدق. الذي شكل خطرا على استمرار نظام الشاه وبدأ حملة تأميم للنفط .. نظمت مؤامرة ضد مصدق وحكومته باشتراك الولايات المتحدة، نفذوا عام 1953 انقلابا على حكومة محمد مصدق وبعدها فرض الشاه سلطته المطلقة على ايران .
قال بيني براف ان الشاه والغرب تعلموا درسا هاما منذ عام 1953 ، لن يسمحوا لأي قوة ان تطيح بحكم الشاه، اضاف: بدا الشاه ببناء ايران صناعية متطورة، بنى جيشا ضخما مسلحا بافضل ترسانة اسلحة ، مما يجعل ايران دولة عظمي عسكريا واقتصاديا بما تملكه من نفط وقريبا من صناعات متطورة وان ايران بدات تبني مفاعلها النووي الأول في مدينة بشير بدعم المانيا الغربية.
قلت ان النقاش معقد، لي رؤيتي المبنية على معرفتي السياسة العامة وعلى مشاهداتي واحساسي مما يعانيه الشعب الايراني، ان ايران اليوم تفتقد لالاف الايرانيين المثقفين والعلماء الذي يهاجرون او يهربون من نظام دولتهم الاستبدادي. ما لاحظته هو الخوف والرعب وليس الحب. الشاه كان يبطش بقسوة بكل معارض. السجون ملأى، المحاكمات صورية.. هناك تسجيلات تباع بالتهريب لخطب رجال دين من الخارج يدعون للثورة ( لم اكن قد سمعت باسم الخميني) ، انما عن المعارضة الدينية المتحالفة مع الليبراليين واليساريين والوطنيين الايرانيين، كذلك اعرف ان حزب تودة الشيوعي هو حزب محظور ويعمل بالسر للإطاحة بنظام الشاه واثناء دراستي في موسكو( 1968 – 1970) التقينا مع قيادات من الحزب الشيوعي الايراني (تودة) الذين حدثونا عن التحضير لانتفاضة بمشاركة اوساط واسعة من المجتمع الايراني بما فيهم رجال الدين.
تحليلي أضحكه وقال تعال نتراهن على 200 دولار ان الشاه سيصمد على الأقل حتى ننهي مشروعنا.. ترددت.. ولكني قبلت الرهان . بعد سنة واشهر قليلة، اشتعلت الثورة، عدت للبلاد، بطريقة سأرويها في اطار هذا النص لما تحمله من غرابة ومغامرة اذ كانت المظاهرات قد سيطرت على الشوارع بدون توقف ليلا ونهارا واحاق الخطر بكل الأجانب..
اشتغلت سنة كاملة او اكثر قليلا في ايران ، بعدها قررت ان افتح مكتبة خاصة في الناصرة وان انهي عملي في مهنة الحدادة.
العودة الى ايران
افتتحت المكتبة مع شريك، في عام 1979 وصل للمكتبة يوسف برودني وهو صاحب العمل الذي اشتغلت معه في ايران، طلب مني ان اعود لايران لتنفيذ مشروع بناء صهاريج انتجت تحت اشرافي حين كنت في شيراز، ارسلت الى مدينة بوشير لجمعها، كما علمت ان الصهاريج هي للمياه المقطرة القادمة من اسرائيل لمصنع البلاستيك. قال لي ان العمال ومديرهم لا يتقدمون بالعمل وتواجههم مشاكل في التركيب. .. وانه مستعد ان يدفع لي الأجرة التي اراها مناسبة، وان العمل يتطلب مني شهرا واحدا لا غير. بعد ذلك يواصل العمال الأعمال السهلة المتبقية لانجاز المشروع.
بعد المشاروة مع شريكي قررت ان البي دعوة برودني.
وصلت طهران، اخذت طائرة الى مدينة بوشير وهي مدينة ساحلية تقع على الخليج العربي ( او الفارسي كما يصر الايرانيون) ويمكن من شاطئ بوشير ان نرى سواحل الكويت.
بقرب الموقع الذي اقيمت فيه الصهاريج انشأنا نقطة استقبال بعمق البحر لاستقبال السفن وتفريغ حمولتها في الصهاريج. ما لم افهمه ان شيراز حيث بني المصنع تبعد 5 ساعات سفر على الأقل عن شيراز ،قسم كبير من الطريق ترابي وجبلي ، كم سيارة شحن يحتاجون لنقل المياه المقطرة لشيراز؟ ما المشكلة في بناء محطة تقطير للمياه قرب المصنع في شيراز؟
لم افكر كثيرا في الموضوع، نفذت العمل المطلوب، كانت مظاهرات الاحتجاج الشعبية في ايران قد هبت، لم تكن بالقوة التي وصلتها حين كنت في بوشير، كنت اتابع الأخبار وارى ان المظاهرات لا تتوقف ، بل تتسع، تماما كما جرى في ميدان التحرير في القاهرة قبل الاطاحة بالرئيس الأسبق حسني مبارك. تلقيت اتصالا من الشركة ان انهي عملي واعود فورا للبلاد وان وزارة الخارجية الاسرائيلية حذرت الاسرائيليين في ايران بضرورة مغادرة ايران فورا.
تذكروا هذه الملاحظة: قبل الحديث عن مغامرة مغادرة ايران اود ان اشير الى انه بجانب الصهاريج العملاقة التي انجزناها بنسبة 80% في بوشير وعلى مسافة اقل من كيلومترين كان الألمان يبنون الفرن الذري الايراني الأول "مفاعل بوشير النووي"، وساعود للموضوع!!
اخذت اغراضي القليلة من المنزل ، اتجهت لأحجز مكانا في الطائرة الى طهران، قالوا لي ان المطار مغلق حتى اشعار آخر. هنا بدا القلق يساورني. السفر بالسيارة ليس سهلا.. سافرت مرتين خلال عملي من شيراز الى بوشير ( مسافة 185 كيلومتر لكل اتجاه) لتعبئة بالونات الأكسجين لانه لا يوجد مصنع في شيراز، يوجد مصنع في اصفهان التي تبعد ايضا 350 كيلومتر عن شيراز. كان املي ان اصل شيراز وآخذ طائرة من هناك الى طهران.
خوفا من ان اواجه نقصا بالوقود في الطريق، أخذت معي ثلاثة تنكات سعة 25 لتر كل تنكة، عباتها بالبنزين وانطلقت، كنت امر على محطات الوقود لملء خزان السيارة،وهذا ساعدني كثيرا، لأن الوقود كان شبه معدوم في الطريق من شيراز الى اصفهان.
في شيراز ايضا كان الطيران الداخلي معطلا.
واصلت الى اصفهان التي لم اكن فيها سابقا معتمدا على اشارات الطرق، في الخروج من شيراز شاهدت رجلا ايرانيا انيقا ينتظر واسطة نقل. سالته عن الطريق الأفضل الى أصفهان، سألته بسبب رغبتي ان يرافقني شخص من أهل البلاد. لحسن حظي سالني اذا كان باماكني ان اقله الى أصفهان وسيدفع لي ما اريد. قلت له ان يصعد لأن رفقته معي هي أفضل أجرة.
تبين انه موظف حكومي من اصفهان، علق في شيراز بدون مواصلات ، المظاهرات شلت حركة المواصلات تماما الا من معه سيارة خاصة.
تفاهمنا بالانكليزية والفارسية والاشارات... تبين ان اشارات الطريق لا تكفي ولا تساعد، ولولاه لضللت الطريق.
وصلنا اصفهان التي يمكن ان نقول انها وقود الثورة ضد الشاه، لم يتخلى عني ودعاني للطعام في منزله، كنت جائعا حقا اذ لم نجد مطعما مفتوحا في الطريق. رغم اني كنت قد استحضرت على فستق حلبي ولوز وجوز وبعض الموز وزجاجات مياه.
بعد ان تناولت الطعام سالته ان يرسم لي كيفية وصولي الى طهران، لأن المطار في اصفهان معطل ايضا كما قال قريب له. قال شيئا لم افهمه ، تحدثا طويلا بشبه همس مع بعضهما، ثم قال لي ان قريبه سيرافقني الى طهران.
شعرت براحة كبيرة وشكرته، قال ان لقريبه اقارب او عائلة تخصه في طهران وانه يريد الاطمئنان عليهم وسيقيم عندهم حتى تهدا الأحوال. قلت له اني سأعطيه السيارة عندما اصل المطار. شعرت انه سر جدا. بكل الأحول لن استطيع ان احمل السيارة معي الى اسرائيل.
المسافة لطهران من اصفهان هي 340 كيلومتر. المشكلة التي واجهناها قلة الوقود ، لحسن الحظ وجدنا محطة وقود تبيع بسعر مرتفع استغلالا للفوضى ولنقص الوقود في دولة النفط العظيمة، الأمر لم يعني لي شيئا، كنت مستعدا ان ادفع عشرة اضعاف السعر. المال للشركة ومعي مبلغ كبير حصلت عليه للصرف من الشركة صاحبة الورشة لدفع اجدور العمال والمصاريف المختلفة، حافظت على الأموال معي وكنت قد حولت معظم المبلغ الى الدولار الأمريكي عندما غادرت بوشير، متوقعا ان اواجه مصاعب لا حل لها الا بالمال.
وصلت طهران ، كانت طرقا كثيرة مغلقة بسبب المظاهرات، الشاب الذي معي ساعدني بشكل كبير داخل طهران الغارقة بالفوضى ..اوصلني للمطار الذي كان شبه خال، اخافني الوضع ، لم اكن املك اي بديل آخر الا الانتظار. اعطيته مفاتيح السيارة وكاد يقبل يدي لهذه الهدية الثمينة ، بشكل عام قطعت مسافة تقارب ال 900 كيلومتر،عدا التجول في الطرق داخل شيراز واصفهان وخاصة طهران التي استغرقني أكثر من ساعة ونصف للوصول الى مطارها الدولي بسبب الشوارع المغلقة بالمظاهرات. فهمت ان الشاه غادر ايران.. ولم اكن متأكدا من الخبر لأني لم افهم جيدا اللغة الفارسية.
المطار مخيف بسبب الفراغ الكبير .. عدد قليل من المسافرين، حاولت ان احصل على تذكرة الى اي اتجاه ممكن، كنت اريد مغادرة ايران، لم يكن الأمر ميسرا. القلق بدا يساورني بل وشيء من الخوف..مضت الساعات متوترة وانا انتظر امكانية الحصول على تذكرة لأخرج من ايران لأي دولة كانت. اعتقد اني قصيت أكثر من 30 ساعة من التوتر والقلق والابتعاد عن العمال الايرانيين في المطار.. فجأة وجدته امامي شاب قوي البنية، في الثلاثين من عمره أو أكثر قليلا .. سالني بالعبرية: اين حقيبتك؟ شعرت بالتثلج يسري في جسمي. هل هو الرعب... او المفاجأة غير المتوقعة ان أسمع العبرية في مطار شبه معطل؟ تلعثمت، ربما خوفا ، او عدم تصديق، "اسرع ورائي" أمرني عندنا رأى تلعثمي. حملت حقيبتي وسرت مسرعا وراءه، في الخارج كانت حافلة ملأى بيهود اسرائيليين وربما يهود ايرانيين أيضا، صعدت للحافلة وانا شبه غائب عن فهم ما يجري حولي. تحركت الحافلة ودخلت الى مدرج المطار من بوابة جانبية، ما اقصه الآن اشبه بحلم غريب، أحيانا انا لا اصدق نفسي. وقفت الحافة امام طائرة "اير فرانس"، صدر امر من شخص آخر : اصعدوا للطائرة. بحثت عن تذاكري، دفعني شخص بكتفي وقال : لا ضرورة، اصعد للطائرة. لأول مرة اصعد لطائرة بدون تفتيش. دخلنا مع حقائبنا، بعد ربع ساعة كانت الطائرة تحلق في سماء طهران.. بالطريق الى مطار اللد.
ما اشغلني كيف عرفني ذلك الشاب ، ومن اين له اني أحمل الجنسية الاسرائيلية؟
قبل أشهر قليلة قرأت تقريرا نشرته صحيفة "يسرائيل هيوم" عن كيفية اخراج الاسرائيليين من ايران مع يهود ايرانيين ، بعد خروج الشاه وعودة الخميني الى ايران ، كيف جرى تجميعهم في منازل معينة، ثم نقلهم للمطار ، اعترف اني وجدت نفسي في ذلك التقرير.
المفاعل النووي، وصهاريج المياه المقطرة
عندما نشات قضية تخصيب ايران لليورانيوم، او القنبلة النووية الايرانية، عدت بذاكرتي الى بوشير والصهاريج الكبيرة التي بنيناها. هل هي حقا لمصنع البلاستيك في شيراز؟ لماذا بنيت بلصق المفاعل النووي الذي كان يبنيه الألمان ، ثم واصل الروس بنائه بعد ان اوقف العمل به بعد الثورة الخمينية لمدة تزيد عن 20 سنة؟
ما هي ضرورة المياه المقطرة؟ ولماذا بلصق المفاعل النووي؟
يستخدم الماء المقطر في عدة مجالات علمية، هندسية، مخبرية، وصناعية. للماء المقطر استخدامات كثيرة ، يستخدم في الآلات والمشغلات الصناعية وذلك لعدم احتوائه على الشوائب مثل المعادن والأملاح ، إذ تسبب الأملاح ترسبات في الأدوات والأجهزة مما يؤدي إلى تلفها. هل لهذا علاقة باليورانيوم او المفعالات النووية؟
في خبر عن كوريا الشمالية قرأت ما يلي: يتوقع البعض أن تكون كوريا الشمالية قد طورت من قبل تكنولوجيا عالية لبناء مفاعل يعمل بالماء الخفيف ( الماء الخفيف هو الماء المقطر) وحاولت انتاج مواد نووية من خلال تخصيب اليورانيوم .
السؤال الذي لا اجد اجابة عليه، هل شاركت اسرائيل بالبرنامج النووي لشاه ايران؟
اذن هل الصهاريج في بوشير للمياه المقطرة القادمة من اسرائيل هي لمصنع شيراز، وهل لها علاقة بالمفاعل النووي في بوشير؟ وهل يستعمل الماء المقطر لتبريد اليورانيوم؟
اترك الاجابات للخبراء.