عبارة " الكتب الصفراء " يفوه بها سخرية سفهاء وهي شهادة على جهلهم الفظيع

بالأمس وأنا أستعرض بعض ما ينشره موقع رقمي عندنا، دأبه الدعاية لكل ما يمت بصلة لدرن العلمانية ، لفتت نظري عبارة " الكتب الصفراء " في مقال تجنّى فيه صاحبه على المشيخة العلمية ، وقد التبس عليه التمييز بين الشيخوخة  كمرحلة عمرية ، وبين المشيخة كلقب يطلق على الريادة في العلم ، وقد يطلق أيضا في بعض مجتمعاتنا العربية والإسلامية على الرياسة والسيادة . وقد ذكرني استعماله هذه العبارة في سياق ساخر من شيوخ العلم الشرعي تحديدا بغيره ممن يستهزؤون بتراثنا الإسلامي المكتوب ، ويصفون الكتب التي تحتويه بالصفراء لصفرة ورقها ، وهي صفرة تدل عندهم على قدم مضامينها التي يجب أن تتجاوز، وتنسى، وتقبر لأن العصر قد تجاوزها في نظرهم القاصر .

أما  موضوع السخرية من شيوخ العلم ، فسأقفز عليه ، وأصرف الحديث في هذا المقال إلى عبارة " الكتب الصفراء " التي يتلقفها جاهل عن جاهل بما في تلك الكتب من كنوز لا تقدر بثمن . وحسب المرء جهلا أن تصده صفرة أوراق الكتب عن تصفحها لمعرفة ما فيها .

ومعلوم أن أوراق الكتب قد تختلف ألوانها دون أن يكون لبعض الألوان فضل على غيرها ، لأن التفاضل بين الكتب  إنما يكون بحمولتها الفكرية . ولا بد من التذكير بأن ألوان أوراق الكتب قد تتحول من بياض إلى صفرة إذا ما تراخى بها الزمن نظرا لطبيعة مادتها  دون أن يؤثر تحولها من بياض إلى صفرة في مضامينها .

وعلى رأس الكتب التي تطبع على ورق أصفر،  أو يصفر بياض ورقها أعظم كتاب على الإطلاق، وهو الكتاب الذي لا ريب فيه ، ولا يأتيه باطل من بين يديه ، ولا من خلفه ، تنزيل من حكيم عليم ، وهو الكتاب الذي يقض مضاجع الذباب العلماني خصوصا في هذا الظرف بالذات الذي تطبخ فيه مؤامرة مكشوفة من أجل الإعداد لقلب المعادلة في بلادنا ، وفي غيرها من بلاد الإسلام، طمعا في طمس معالم هويتنا الإسلامية ، وتحويلنا إلى مضغة سائغة تلوكها العلمانية دون شعور منها بعسرهضم ، وكذا تحويلنا عن طريق التطبيع معها إلى أشكال من المسخ المجتث من هويته ، ومن تاريخه ، ومن  كرامته ، ومن دينه .

وتأتي كتب كثيرة صفراء أورقها بعد كتاب الله عز وجل ، وهي ذات صلة وثيقة  به ، وقد ضمّنها كتّابها، وهم من عباقرة العلم ،والمعرفة علوما، ومعارف كثيرة، كلها تنهل من وحي الله عز وجل ، ومن حكمة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وتصاحبها كتب كثيرة صفراء أوراقها أيضا، وهي ذات صلة أوثق بها، فيها كنوز من علوم، ومعارف اقتضاها التعامل مع كتاب الله عز وجل ، ومع المأثور من حديث رسوله صلى الله عليه وسلم ، والتي منها كتب علوم اللسان العربي، الذي أنزل به القرآن الكريم، والذي لا يمكن فهمه ، وتذوقه إلا بإتقان تلك العلوم ، فضلا عن عديد العلوم ذات الصلة بالكتاب الكريم، الذي لا تنقضي عجائبه ، ولا يخلق على كثرة الرد ، ولا يشبع منه العلماء ، ولا تلتبس به الألسنة ، ولا تزيغ به الأهواء ، وهو الذي انتهت الجن عند سماعه بالقول : (( إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به )) ، وأين قول الجن هذا من قول من لم يتجاوز علمهم بهذا الكتاب حد النظر العابر إلى صفرة ورقه ، وقد صدتهم هذه الصفرة عن معرفة ما جاء فيه ،لأن الله تعالى ختم على قلوبهم، فهم لا يفقهون .

ويكفي أن نتحدى من يسخرون من صفرة كتب تراثنا أن يأتوا بمثل الكتيبات الصفراء التي تضمنت  قواعد منظومة لعلوم في اللغة، وفي الفقه ، وفي غيرهما  كألفية ابن مالك في النحو ، وألفية ابن عاصم في الفقه ، وقد سودت في شرحهما كتب ضخمة صفراء أوراقها أيضا .

ولو اطلع من يسخرون من صفرة كتب تراثنا على الخزانات في بلادنا وغيرها من بلاد الإسلام  وعلى المسروق منها وهو كثير ومودع في خزانات الدول الغربية ، لوجدوا فيها أنفس المخطوطات ذات الورق الأصفر ، والتي كان كثير من فطاحل العلماء عالة عليها ، ولولاها لما خطت أيديهم ما خطت من كتب ومؤلفات ، ولما كانت لهم بحوث ناهلة منها ، وكل من يشتغل بالبحث بعدهم لا مناص له من أن يكون عالة عليهم هو الآخر.

وخلاصة القول ،أن صفرة ورق الكتب ليست قاصرة على كتب تراثنا الإسلامي، بل كل الأمم لها كتب صفراء أوراقها بما فيها كتب زبالة العبث العلماني ،ولكن غباء، وجهل من يعيّرون كتب تراثنا لصفرة أوراقها من العلمانيين، لم ينتبهوا إلى جهلهم  ، وهم بذلك موضوع سخرية، واستهزاء، وهم لا يشعرون إذ حاقت بهم معرة سخريتهم، وحالهم كحال من قال فيه الشاعر :

ومن يجعل الضرغام للصيد بازه    تصيّده الضرغام فيما تصيّدا

وأخيرا، على كل من يقلد التقليد الأعمى الساخرين من صفرة كتب تراثنا أن يربأ بنفسه من جعلها موضوع سخرية، واستهزاء من جهله المحاكي لجهلهم ، وإنه لمن العيب، والمعرة أن يردد الإنسان مقولة جاهل دون علم بجهله ، وعليه ينطبق قول المثل الساخر من التقليد الأعمي ،القائل : " بال حمار فاستبال أحمرة " .

وسوم: العدد 1038