الكوادر السورية في العمال الكردستاني والامتحان المفصلي

يوماً بعد يوم تتأكد صحة المحاذير التي نبهنا إليها مع سيطرة حزب العمال الكردستاني «ب. ك. ك» على الساحة الكردية السورية عبر واجهاته السورية المختلفة مثل «ب. ي. د» و «ي. ب. ك» وذلك بناء على اتفاق أمني مع السلطة الأسدية منذ بدايات الثورة السورية آذار (مارس) 2011. وما سهّل ذلك الاتفاق هو ضعف، بل ترّهل، الأحزاب الكردية السورية سواء تلك التي شكّلت لاحقاّ المجلس الوطني الكردي أم تلك التي ظلت خارجه؛ وانشغال الأحزاب المعنية بخلافاتها وصراعاتها على مواقع وهمية؛ ومحاولاتها المستمرة للتغطية على مثالبها وهشاشة أوضاعها الداخلية بشعارات شعبوية رثة، ورفع سقف المطالبات بمعزل عن أي واقعية أو مصداقية.

وكل ذلك كان نتيجة قراءة العقلية السحرية الخاطئة للمعادلات الإقليمية والدولية؛ فقد اعتقدت هذه العقلية بأن اللحظات التاريخية الحاسمة تكون أشبه بمعجزة أو ضربة حظ، وليست وليدة عمل تراكمي وإعداد شاق، واتصالات مثمرة، ولقاءات جادة، وفهم الحسابات والمعادلات الإقليمية والدولية بدقة.

وكان من اللافت أن غالبية القيادات الكردية السورية الهرمة كانت تعيش خارج التاريخ والعصر. وكل ما كانت تحلم به هو استنساخ تجربة كردستان العراق، التي تختلف تمام الاختلاف عن الواقع الكردي السوري على مستوى التاريخ، والجغرافيا، والنضال الشاق، والعمل الدبلوماسي؛ هذا إلى جانب وجود شخصيات كاريزماتية تمكّنت من فرض احترامها على القوى السياسية العراقية الداخلية والقوى الإقليمية والدولية.

وقد بلغ الأمر بتلك الأحزاب إلى حدّ عقد تفاهمات مع واجهات «ب. ك. ك»، رغم معرفتها بطبيعة دورها، والمهام الوظيفية الموكلة إليها من جانب السلطة الأسدية. وكان ذلك لقطع الطريق على الشباب الكردي في مختلف المناطق الذين كانوا قد أعلنوا عن انضمامهم إلى الثورة السورية منذ اليوم الأول.

كنا نطالب باستمرار بأهمية الحفاظ على أفضل العلاقات مع المكونات السورية المجتمعية، لا سيما المكوّن العربي بتوجهاته السياسية وانتماءاته المذهبية المختلفة. ولكن الحزب المذكور قام، وبالتنسيق مع السلطة بافتعال المعارك في مناطق عدة بعيدة عن نطاق التأثير في مجريات الثورة لضرب تلك العلاقات. ويُشار هنا على سبيل المثال إلى تل براك، وتل معروف، وتل حميس، وعفرين. ومن ثم كان تحرك قوى أخرى باسم المصالح العربية، تبين لاحقاً ارتباطها مع السلطة الأسدية، بافتعال المعارك في رأس العين/ سري كاني عام 2013، الأمر الذي ساهم هو الآخر من جانبه في إحداث شرخ بين العرب والكرد في منطقة الجزيرة. وكانت الشعارات المتناقضة التي رفعها «ب. ي. د» لتسويق نفسه كردياً وسورياً، إذ كان يؤكد في اتصالاته وأضاليله التي اعتمدها مع القوى السياسية السورية بأنه قد تجاوز مرحلة القومية، ويدعو إلى «الأمة الديمقراطية» التي كان، وما زال يعتبرها النموذج الصالح لكل العالم؛ وفي الوقت ذاته سوّق نفسه بين الكرد بمزاعم مفادها ضرورة المحافظة على الخصوصية الكردية، والسعي لتأمين الحقوق الكردية، وغير ذلك من الادعاءات التي لا تتطابق مع الوقائع.

ولجأ الحزب المذكور عبر كوادره القنديلية، الذين كانوا وما زالوا يتحكمون بالإدارة الذاتية المعلنة وأتباعه بين كرد سوريا، وسائر الواجهات الخادعة، ومنها «قسد» إلى تعبئة كرد سوريا ضد تركيا، وكأن مهمتهم هي النضال من أجل تأمين حقوق كرد تركيا الذين يبلغ تعدادهم أكثر من عشرة أضعاف كرد سوريا. ولم يكتف الحزب المعني هنا بذلك فحسب، بل اتبع سياسة تخوين كل الأطراف الكردية، سواء في سوريا أم في كردستان العراق، التي تقيم الاتصالات مع الدولة التركية التي تعد القوة الإقليمية الأهم بالنسبة إلى الكرد عموما، وبالنسبة إلى كرد سوريا على وجه التخصيص الذين يرتبطون معها بحدود يبلغ طولها نحو 400 كم من أصل ما يزيد على 900 كم هي طول الحدود السورية التركية ككل ـ وهناك تداخل سكاني، ومصالح اقتصادية مشتركة.

والطريف في الأمر، أن الحزب المذكور ارتبط بعلاقات وثيقة، وما زال يرتبط عبر قنوات خاصة، مع المخابرات السورية، وهي العلاقات التي بناها منذ نحو أربعة عقود، وحصل بموجبها على قواعد للتدريب، والسلاح والمال والإعلام، وعلى حساب الكرد السوريين وعبر التدخل في شؤونهم، وممارسة مختلف أساليب الإرهاب والاغتيالات بحقهم؛ بل كان يعتبر كل ذلك نوعا من السياسة والحكمة. كما أن الحزب عينه أقام الاتصالات مع الحكومة التركية خلال الثورة السورية واعتبر ذلك شطارة. هذا في حين أنه يخوّن الكرد السوريين إذا ما أقاموا أي علاقات سياسية لمصلحتهم، بل يحرص على زجهم في معارك دونكيشوتية الغاية منها شد عصب جماعته بين كرد تركيا، ويُشار هنا إلى المظاهرات الهزيلة، ورفع صور أوجلان في مناطق سيطرته مثل عفرين سابقاً وكوباني وقامشلي وغيرها.

وقد بلغت الديماغوجيا بهذا الحزب حداً أنه بدأ يروج نفسه بين الكرد وكأنه مركز العالم، ويتبجح بدوره في محاربة الإرهاب الداعشي، متجاهلاً أن من حسم المعركة هم الأمريكان، وأنهم هم الذين أمدوه بالمال والسلاح والمعلومات الاستخباراتية اللازمة من أجل تجاوز عقدة وضع جنودهم على الأرض. ويتناسى الحزب المعني أنه مجرد «برغي» صغير في ماكينة ضخمة تمثل حسابات ومصالح القوى الإقليمية والدولية الكبرى. وقد ساعدت الظروف المرحلية هذا «البرغي» ليكتسب أهمية خاصة في مرحلة محددة، سرعان ما ستنتهي مع زوال الحاجة، أو اتفاق القوى المعنية. فالقوى الكبرى المؤثرة لا تشعر بأي حرج أو توجّس تجاه إعادة النظر في حساباتها وتحالفاتها النفعية بمجرد حصولها على المطلوب، أو رغبة منها في الحصول على ما هو أكبر وأقل كلفة. وهذا ما تبين بكل وضوح في الاتفاق الذي توصلت إليه السويد مؤخراً عبر رئيس وزرائها أولف كريسترسون وتركيا ممثلة في رئيس جمهوريتها رجب طيب أردوغان، وبرعاية الأمين العام لحلف الناتو ينس ستولتنبرغ، وهو الاتفاق الذي ثبّت صفة الإرهاب بالنسبة لـ «ب. ك. ك»، ووسّع نطاقه ليشمل «ي. ب. ك» و»ب. ي. د»، وتعهد الناتو بتشكيل آلية لمكافحة الإرهاب.

ومن الواضح للجميع أنه ما كان لهذا الاتفاق أن يتم لولا الجهود الأمريكية المضنية التي بُذلت منذ بداية تقدّم السويد بطلب عضوية الناتو قبل نحو عام، وذلك لأهمية السويد بالنسبة إلى الحلف، لا سيما من جهة كونها العمق الاستراتيجي المطلوب لتأمين الدفاع عن دول البلطيق، وتأمين خطوط الإمداد لها، هذا إلى جانب إمكانيات السويد التقنية وتقدمها في ميدان صناعة الأسلحة. هذا فضلاً عن كونها أكبر الدول من ناحية عدد السكان والمساحة بين الدول الاسكندنافية والشمال الأعضاء في الناتو.

فبموجب البند الثاني من الاتفاق الجديد الذي وقع عليه كل من الرئيس التركي ورئيس الوزراء السويدي في فيلينوس، وهو الاتفاق الذي يعد تتويجاً لسلسلة من التوافقات والوثائق والاتصالات، تلتزم السويد بمتابعة الاتصالات مع الجانب التركي على المستوى الوزاري، حتى بعد انضمامها إلى الحلف؛ كما تتعهد بعدم تقديم الدعم لمنظمات «ي. ب. ك» و «ب. ي. د» و «ف. ي. ف. و» بعد أن عدّلت في قانونها الأساسي، وسنّت قوانين جديدة حول مكافحة الإرهاب، وكل ذلك يشكّل قوام المادة الأولى في الاتفاق المعني. كما تلتزم السويد بدعم الجهود الخاصة بانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، وتحسين شروط تعامل الاتحاد الجمركي الأوروبي مع تركيا. هذا إلى جانب زيادة حجم التبادل التجاري والاستثمارات بين البلدين؛ وكل ذلك بموجب الاتفاق المشار إليه.

فقد تمكّن الحزب المذكور من استنزاف طاقات الكرد السوريين المحدودة أصلاً، وتسبب في تهجيرهم بوسائل عدة، منها التهديد والتضييق؛ ولكن الطامة الكبرى كانت عبر فرض مناهج التجهيل على الطلبة بذريعة «تكريد» التعليم، وهي مناهج تفتقر إلى أبسط المقومات العلمية، ولا تحظى باي اعتراف بها على أي مستوى من المستويات (الوطني والإقليمي والدولي). هذا إلى جانب فرض الحزب المذكور التجنيد الإجباري، وكأن الحزب المقحم الوافد يمتلك الشرعية الوطنية أو الدولية لفرض ما يريد.

مأساة الكرد بصورة عامة، ومأساة الكرد السوريين على وجه التحديد، مستمرة ما دام هذا الحزب ماض في مواقفه ونهجه الحاليين؛ خاصة من جهة ارتباطه العضوي الشمولي مع حزب العمال الكردستاني.

وبناء على ما تقدم، وقبل أن تصل الأمور إلى نتائجها الكارثية، إذا ما ظلت في مساراتها الحالية، يقتضي الوضع الراهن إنجاز خطوتين مترابطتين. الأولى تخص كرد سوريا، وتتشخص في ضرورة فك الارتباط بصورة واضحة ونهائية بين حزب الاتحاد الديمقراطي «ب. ي. د» ومنظماته من جهة وحزب العمال «ب. ك. ك» من جهة ثانية، وذلك حفاظا على من تبقى من الكرد السوريين، وضماناً لمصلحة السوريين بصورة عامة. ولتحاشي تصنيف الحزب المذكور بصورة نهائية ضمن خانة المنظمات الإرهابية.

أما الخطوة الثانية، فتتجسد في ضرورة عودة حزب العمال إلى مائدة المفاوضات لإنعاش العملية السلمية مع الحكومة التركية، بل مع الدولة التركية، بغية التوافق على حل عادل للمسألة الكردية في تركيا على أساس الحفاظ على وحدة البلد والشعب. وحتى تنجح هذه المفاوضات لا بد من توسيع دائرتها لتشمل المزيد من القوى السياسية والمجتمعية والنخب الكردية والتركية لأن القضية الكردية في تركيا هي في نهاية المطاف قضية وطنية عامة، لا تهم هذا الحزب أو ذاك، وإنما تعني جميع المواطنين في الدولة التركية.

هل ستتمكن الحكمة من أخذ طريقها، وتفلح في عملية وضع حد لسياسات أثبتت تجربة نحو أربعة عقود عقمها، بل كارثيتها؟ الإجابة منتظرة من قيادة قنديل ومن الكوادر السورية في حزب «العمال الكردستاني» بواجهاته المختلفة.

وسوم: العدد 1042