تفكك القاعدة الاجتماعية لنظام الأسد
تجاوزت الإعلامية الموالية للنظام لمى عباس، في الرسالة المصورة التي أطلقتها الأسبوع الماضي، «انشقاقات» مشابهة سبقتها أو تبعتها في الحاضنة الاجتماعية للنظام، في نقاط عدة: فهي أولاً لم توفر «القيادة» من انتقاداتها الغاضبة، بخلاف صرخات الاحتجاج الأخرى التي كانت تستهدف مستويات أدنى في السلطة. فالقيادة في لغة النظام الرسمية، كما في الرأي العام السوري، تعني الرئيس بلا أي لبس. وقد لاحظنا في المقطع المصور الثاني الذي بثته، بعد هجوم وسيم الأسد عليها ورداً عليه، أنها تجنبت هذه المرة أي ذكر لـ«القيادة» ما قد يعني أنها تلقت تهديدات جدية أو تحذيرات من محيطها القريب، أو ارتأت بنفسها أن عليها أن «تتعقل» فلا تلعب بالنار.
كذلك فقد هاجمت «الحلفاء» الذين لم يمدوا يد العون لسوريا في محنتها الاقتصادية الكبيرة، وهذه أول مرة يظهر فيها هذا النقد العلني للمحتلين الروسي والإيراني من غير أن تسميهما بالاسم. واعتبرت أن هؤلاء الحلفاء يعملون لمصالحهم ليحولوا سوريا إلى «مستعمرة».
وثالث الأهداف في نقد عباس، وأقساه، كان بحق الشعب الذي سكت عن حقوقه، وتلقى الصفعة بعد الصفعة ولم يصرخ، ثم تم تقطيع أوصاله ذراعاً بعد ذراع وساقاً بعد ساق فواصل الصمت والخنوع، داعيةً الشعب للجهر بأوجاعه والمظالم التي يتعرض لها. «إذا كنت ترى نفسك حشرة فلا تلم من يدوسك». وقالت إن الحكومة، أو السلطة، أو القيادة، كانت سابقاً تحسب حساباً للشعب حين تريد الإقدام على خطوة قد تثير ردود الفعل، أما الآن «فهم لم يعودوا يروننا أصلاً، يعتبروننا موتى، والمشكلة أننا لسنا موتى». ألحقت عباس مجاز قطع الأوصال مباشرةً بالحديث عن ضرورة وحدة الشعب بكل مكوناته، وأن لا قيامة لسوريا إذا لم يتوحد «أهل الساحل وأهل دوما، ودرعا والقامشلي وجبلة.. إلخ» بل أتبعت ذكر هذه المناطق ذات الدلالات الواضحة بالتصريح عن المكونات «العلوي والسني والدرزي والمسيحي..». كأنها أرادت الإشارة إلى أن القضاء على المكونات الأخرى كقطع أوصال الشعب السوري، في نوع من الندم على ما «حدث» في السنوات السابقة.
كل النقاط السابقة هي مما يمكن اعتباره خروجاً على النص الرسمي الأسدي، بل انقلاباً عليه، من غير أن يصل بها الأمر إلى إعلان إعادة تموضعها من موالية متحمسة إلى معارضة جذرية للنظام. بل إنها لجأت إلى المراوغة حين كتب لها أحد متابعي كلامها عن وجوب تنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 2254 كحل وحيد للمشكلة، فقالت إنها «تحترم جميع الآراء» وأنها ترى الحل في «المحبة التي فقدناها» فـ»ثلاثة أشخاص يستطيعون أن يشعلوا فتنة طائفية، في حين أنك لا تستطيع أن تجمع عشرة أشخاص على مظاهرة مطلبية أو احتجاجية»! في إشارة مواربة جداً إلى محافظتها على موقفها العدائي من ثورة 2011 بدعوى أنها كانت فتنة طائفية (هذا استنتاج وليس تصريحاً من عباس، فقد كانت حريصة على عدم توجيه أي انتقاد إلى الثورة أو المعارضة).
في الثانية فجر اليوم التالي على رسالة عباس الغاضبة يقرع عنصر أمن باب بيتها ليقدم لها استدعاءً شفهياً إلى الفرع لمقابلة ضابط باسم لؤي. فطالبت بمذكرة قضائية رسمية، أو أن يحضر الضابط لؤي بنفسه إذا أراد رؤيتها، في حين قالت ابنتها إن لمى عباس ليست واحدة، بل هناك الآلاف منها، أما ابنها فقد صرخ على العنصر المسكين مهدداً بالتصعيد: «ما زلتُ إلى الآن مسيطراً على أعصابي!»
كان هذا الحادث موضوعاً لسخرية مرة من سوريي المعارضة من «دولة القانون» التي تحتاج أجهزة المخابرات فيها إلى مذكرة توقيف «مواطن». الواقع أن لمى عباس ليست «أي مواطن» إذا جاز الحديث عن مواطنة في سوريا الأسد. فقد كشف هذا الفيديو القصير عن أنها «مالية يدها» أو مسنودة جيداً في الدولة الأسدية، وهذا هو مصدر جرأتها فيما طرحت في خطابها الأول وتجاوزت فيه عدداً من «الخطوط الحمراء».
إن المراهنة على أن هذا الخطاب يعبر عن شرائح واسعة من القاعدة الاجتماعية للنظام التي تشعر بأنها تعرضت لخديعة وفقدت امتيازاتها السابقة، ليست في محلها، ليس لأن الواقع ليس كذلك، بل لأن المراهنة على استجابة جماهيرية واسعة لهذا الخطاب التحريضي الجديد تتجاهل واقع أن ليس كل المتضررين من الوضع الحالي مسنودين مثل لمى عباس أو بشار برهوم أو غيرهما ممن رفعوا الصوت من داخل البيئة الموالية. قد يسكت النظام عما فعلته عباس لكنه لن يكون باللطف ذاته مع الآخرين.
أعطتنا حادثة لمى عباس فكرة أكثر شفافية عن الدرك الأسفل الذي وصلت إليه البلاد في ظل نظام الأسد، بعدما كانت الصورة أكثر عمومية وقائمة أساساً على الوضع الاقتصادي المتردي وغياب الخدمات الأساسية وأساسيات الحياة، وعلى أرقام المحتاجين إلى المساعدات والقيمة المتدهورة لليرة السورية وغيرها من المؤشرات، إضافة إلى تهجير نصف السكان وتقطع أوصال سوريا بين عدة احتلالات أجنبية وتجارة الكبتاغون التي أصبحت المورد الوحيد للطغمة الحاكمة…
فهذه الحادثة تشير أيضاً إلى التفكك الاجتماعي في الحاضنة نفسها بعدما انتهى خطر الثورة بالنسبة لها فاستيقظت من نومها على واقع فظيع لا يحتمل. ولا بد من الإشارة إلى أن فيديو لمى عباس بمحتواه الأقسى على النظام لم يظهر إلا بعد انطفاء الآمال بثمار الانفتاح العربي عليه، وكذا بعد اشتداد الضغوط الإيرانية على النظام للوفاء بما يتوجب عليه من دفع ثمن الإبقاء عليه في السلطة.
وسوم: العدد 1044