زهد الثعالب عند المتصوفة والصفويين
زهد الثعالب عند المتصوفة والصفويين
علي الكاش
كاتب ومفكر عراقي
ذكر الإمام الشافعي" للصوفي أربع خصال، كسول، أكول، نؤوم، وكثير الفضول".(مناقب الشافعي2/207).
نود في البداية أن نوضح الفرق بين الزهد والفقر، فالزهد حالة طوعية وذاتية يختارها الإنسان بنفسه. أما الفقر فهو حالة موضوعية وإضطرارية خارج خيارات الإنسان غالبا. والزهد يعكس رغبة الإنسان في عدم تملك الأشياء، في حين الفقر يعكس الرغبة في تملك الأشياء مع عدم توفر السبل اللازمة لإمتلاكها. الزهد هو تخلي النفس عن الكماليات وتقليص حلقة الضروريات إلى أدنى حد ممكن. والفقر هو تمني النفس بتوسيع حلقة الضروريات وتجاوزها لتشمل الكماليات ايضا. مع إن كلاهما يمثلان عبئا على النفس البشرية وإرهاقها وقهرها وكبت الرغبات الطبيعية. الزهد غالبا ما يتجسد بالجانب الروحي، والفقر يتجسد بالجانب المادي. الزهد حالة مقبولة إذا كان خارج إطار المفهومين الصوفي والصفوي. فقد ذكرت العديد من الروايات عن زهد الصحابة رضوان الله عليهم وعدد كبير من المؤمنين، ولكن حالهم ليس حال المتصوفة والصفويين كما سيتبين من النصوص القادمة.
يذكر إبن الجوزي(تلبيس إبليس/204) بأن" التصوف مذهب معروف يزيد عن الزهد. فالزهد لم يذمه أحد، وقد ذموا التصوف". ويلاحظ ان الزهد لم يرد في القرآن الكريم إلا مرة واحدة في سورة يوسف/20 حيث جاء(( وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين)). ومعنى الزهد في الآية الكريمة لا علاقة له بمعنى الزهد الذي يدعيه غلاة المتصوفة، كالعزلة والجوع وهجر الزوجة والأولاد. فهو يعني في الآية الكريمة عازفين وغير راغبين فيه. وحتى زهد النبي(ص) والصحابة الأجلاء كان زهدا إيجابيا وليس سلبيا كزهد المتصوفة الذي فيه ضرر للنفس والأهل والأحبة. فللنفس حق على الإنسان وقد جاء في الذكر الحكيم(( وأبتغ فيما أتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا)) سورة القصص/77.
إتفق المستشرقان نيكلسون واوليري بإن الزهد الصوفي مستقى من دين النصرانية ولم يكن من الخصائص التي تحدث عنها القرآن والنبي محمد(ص) بل إنه يتعارض معهما.( الفكر العربي ومكانه في التأريخ/ اوليري). ويلاحظ ان البعض خلط بين الزهد الإسلامي الذي كتب عنه ابن حنبل وعبد الله بن المبارك وغيرهم، والزهد الصوفي الذي تحدث عنه المتصوفة كالقشيري والكلاباذي وغيرهم لغاية ما في قلوبهم.
رغم أختلاف الآراء حول إشتقاق مفهوم التصوف حتى بين المتصوفة أنفسهم، لكن الأغلبية منهم يشيرون إلى إنه مشتق من لباسهم الصوفي بإعتباره نوع من الزهد، وكان هذا رأي الشيخ السراج وابن الجوزي وأبي نعيم وإبن خلدون. لكن المتصوفة يحاولون التهرب من هذا الإشتقاق رابطين المصطلح بالصفاء الروحي كما يذكر الكلاباذي. والإدعاء بأن مفهوم الصوفية مشتق من كلمة سوفيا اليونانية التي تعني معرفة الغيب، هي محاولة فاشلة لتبرأتهم من تقليدهم لرهبان النصارى. لكن أقدامهم تزل أحيانا فيعترفوا بتلك الحقيقة. ذكر كارل بروكلمان إن" الصوفية إستعاروا من النصارى ردائهم الصوفي، وبسبب ذلك عُرفوا بالصوفية".(تأريخ الشعوب الإسلامية2/83). ويشاطره بهذا الرأي نيكلسون في كتابه(الصوفية في الإسلام/4) بقوله" إن لباس الصوفية أتخذه الزهاد متشبهين برهبان النصارى". ويتفق د. زكي مبارك معهما على هذا الرأي " إن لبس الصوف كان من تقاليد النصرانية".( كتاب التصوف الإسلامي1/49).
إن الزهد بمفهومه الصوفي وطرقه الشاذة مأخوذ من الكهانة، فالقساوسة والكهنة ينذرون أنفسهم للرب فلا يتزوجون، ويعتكفون في الكنائس والمعابد متفرغين للعبادة وقيام الليل ومواصلة الصوم، زاهدين عن متاع الدنيا ولذائذها. والكهانة غير جائزة في الإسلام حيث جاء في سورة الطور/29 (( فذكر فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون)). وفي سورة الحديد/ 27 (( ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها)). والحقيقة ان الفرق بين الزهد الإسلامي وزهد المتصوفة كالفرق بين التشيع العلوي والتشيع الصفوي، فالأول منهما كان ضحية للثاني، نحروه على عتبة التطرف والمغالاة. يحدثنا الإمام الذهبي عن أحد مشايخ الصوفية بقوله" لا يبلغ الرجل منزل الصديقين، حتى يترك زوجته كإنها أرملة، ويأوي مزابل الكلاب".(سير اعلام النبلاء8/156). إذن لماذا يتزوج ويجعل من زوجته ضحية لمعتقده الواهن؟ أما أن يأوى مزابل الكلاب فهو أدرى بالمجتمع الذي يتوالف معه! لكن هل يتوافق هذا الرأي مع حديث النبي(ص) "حُبب إلي من دنياكم النساء والطيب".(اخرجه أحمد في مسنده). ألم يصدق ابن كثير بقوله" الزهد لا يدل على صلاح".(البداية والنهاية10/80)؟
يلاحظ ان المتصوفة لم يتظاهروا بالزهد أول مرة إلا في بلاد فارس، ثم نشره الخراسانيون في البصرة والكوفة وبقية الأمصار. منطلقين في نظريتهم( الزهد هو ان لا تمتلك شيئا ولايملكك شيء). وكان أول من صاغ نظرية(كيمياء الجوع) الفارسي شقيق البلخي من خراسان، وهو صاحب العبارة المشهورة" أربعون يوما من الجوع يمكن ان تجعل ظلمة القلب نورا". وكان يطلق على المتصوفة لقب( الجوعية) والأصل في ذلك" إن المعدة أساس البلاء، والجوع مخ العبادة". لكن الذي جاء في سورة البقرة/68 (( يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا ولا تتبعوا خطوات الشيطان)). كما وضعوا قواعد للزهد منها" لا يزور ولا يُزار، ولا يكلم أحدا في خير وشر".( الأمر المحكم المربوط/272). وأضافوا" الصحبة أشرٌ شيء على المريد، فالطريق مبني على قطع المألوفات وترك المستحسنات".( التدبيرات الإلهية/234) ويذكر ابن عجيبة الحسيني" لا يزال الصوفية بخير ما تنافروا، فإن إصطلحوا أهلكوا". (الفتوحات الإلهية/61). وينصح الشيخ داود الطائي مريديه" فرٌ من الناس مثل فرارك من السبع".(طبقات الشعراني1/27). ووصل بهم الحد من نبذ التعارف والاخاء بين المسلمين، إلى تحريم السلام والسؤال عن الحال" لا يقل المريد لأحد: كيف حالك؟".( التدبيرات الإلهية/237). ولا نفهم كيف يوفقوا بين تخاريفهم هذه وقول النبي(ص)"لا تحقرنٌ من المعروف شيئا، ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق".( أخرجه مسلم). و" المؤمن يألف ويؤلف، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف".( أخرجه مسلم)؟
كما أضاف الامام الغزالي قاعدة زهدية أخرى بقوله" لا يجوز دخول المغارة الا بشرطين اولهما: ان يكون راض عن نفسه ويصبر على الزاد اسبوعا ونحوه. ثانيهما: ان يمكنه التقوت بالحشيش". أي كأنهم خراف يأكلون الحشيش! ويرون قصصا إعجازية عن شيوخهم مثلا أحد الشيوخ بقى في خلوته(40) عاما لاماء ولا أكل، حيث توجد فتحة صغير في غرفته ليدخل منها الهواء!(كتاب قلائد الجوهر). واعتبروا الإمتناع عن الزواج من مظاهر الزهد. يقول الطوسي" إذا تزوج الفقير مثله مثل رجل ركب سفينة، فإذا وِلد له ولد قد غرق"(اللمع/265). ويذكر السهروردي" من تعود أفخاذ النساء لا يفلح" (عوارف المعارف/)166). ويضيف أبو سلمان الدارني" إذا سافر الرجل في طلب المعاش أو تزوج، فقد ركن إلى الدنيا". (الفتوحات المكية1/37). ومن طريف ما يذكر بهذا الصدد أن أحدهم عاب على البسطامي بقوله" إنك تُذكر بالزهد والعبادة، ولا أعرف لك كثير عبادة؟ فهاج عليه وأجاب: إن الزهد والعبادة والمعرفة مني إشتقت! (شطحات الصوفية لعبد الرحمن بدوي/91).
وبالنسبة للفقر فإنهم يستندون على حديث نبوي إنفرد بأخراجه الترمذي" فقراء المهاجرين يدخلون الجنة قبل أغنيائهم بخمس مائة سنة".(سنن الترمذي/ باب الزهد). واعتبروا الفقر من صفات الصوفي، حيث يصف (أحمد بن يحي بن الجلاء) الصوفي بأنه من كان" فقيرا مجردا من الأسباب". (الرسالة القشيرية2/556). واعتبر الغزالي الفقر حالة ملازمة للزهد الذي يرتبط بدوره بالكمال على إعتباره إنه فقر في الدنيا وغنى في الآخرة، ويذكر عن الشيخ ابي علي الدقاق قوله" الزهد أن تترك الدنيا كما هي".
وبقدر تعلق الأمر بالصفوية فقد نسب الكليني للامام علي(رض) القول" حرام على قلوبكم أن تعرف حلاوة الإيمان حتى تزهد في الدنيا". وكذلك"إن من أعون الأخلاق على الدين الزهد في الدنيا".(الكافي2/128). والزهد عند الصفويين ليس الزهد المعروف عن الأئمة الذين عرفوا بلباسهم الخشنة، وأكلهم أجشب العيش، ولم يحفلوا بالغنائم، فقد زهد جميع الأئمة رغم كثرة الموارد التي كانت تأتيهم من الخلفاء بالإضافة الى أنصارهم، حيث كانوا يوزعونها على الفقراء والمحتاجين، ولكن بعد وفاة الأمام العسكري تغيرت الأحوال فغرب زهد الأئمة، وأشرق طمع السفراء الذين إدعوا نيابة المهدي جشعا بأموال الخمس. وإستمر الحال من سفراء المهدي لحد السيستاني في العيش والإغتناء من قوت الآخرين وعرق جبينهم.
ويلاحظ ان حياة الزهد عند المراجع كاذبة خادعة فالغرض منها التمويه والضحك على الذقون. فقد كان الخوئي ومن بعده السيستاني يعيشون حياة زاهدة عاكفين عن متاع الدنيا كما يصوروا لأتباعهم. لكن الحقيقة هي خلاف ذلك فكلاهما له مؤسسة مالية ضخمة في لندن إضافة الى القصور والفلل، وبلا شك ان مصدرهم هو الخمس وبقية الموارد، منها سهم الإمام أو ما يسمى(سهم جدي) ويساوي نصف خمس الوارد للشيعي من التجارة والأمال. 2ـ رد المظالم وهو مبلغ بلا حدود يودعه الشيعة الى علمائهم تكفيرا عن خطاياهم وذنوبهم ( كان يضم جزءا من راتب الشيعي الموظف في الحكومة على اعتبار ان وظيفة الحكومة لا شرعية من وجهة نظر المجتهدين). 3ـ حق الوصاية ويعادل 1/3 قيمة الورث للشيعة المتوفين بما فيها الأملاك 4ـ حق الصوم والصلاة وهي مبالغ يتفق ليها حيث يقوم بعض المراجع بتوكيل اتباعهمم لإداء فريضة الصوم والصلاة للمتوفيين. 5 ـ النذور وهي مبالغ يقدمها الناس للعلماء لقاء شفائهم من أمراض أو رزقهم بمولود أو تجارة رابحة او نجاة من موت او تحقيق أمل ما. المبلغ الكلي يقسم الى حصتين اولها (حصة المرجع الأعلى). وثانيهما (حصة السادة) للحفاظ على مكانتهم! وتقدر وارادات الحوزة بعشرات المليارات سنويا، ولا توجد حسابات دقيقة حولها حيث تحاط بسرية تامة وتقتصر على المرجع الأعلى وبطانته. وهذه الأموال تعتبر صافية حيث لا تخضع الى الضرائب، كما ان أوجه إنفاقها منوطة بالمرجع فقط.
لذلك مظاهر الزهد والفقر قد تكون احيانا كاذبة ولا تعكس واقع الحال، حيث يذكر التليلي العجيلي بأن العطايا والنذور الناجمة عن الزيارات" مكنت العديد من المشايخ من جمع أموال طائلة زادت من نفوذهم على أتباعهم، مما دفع بالسلطات الاستعمارية إلى تحجيرها".(الطرق الصوفية والاستعمار الفرنسي/ 59). ويلاحظ أن نفس الأمر حدث مع المرجعية في العراق حيث" بائت بالفشل جميع المحاولات التي قام بها الوكلاء البريطانيون في بغداد لحث المجتهدين على تنظيم الحسابات في قوائم تتضمن كيفية التصرف بأموال خيرية أوذة أو تشكيل لجان لمراقبة الصرف" / المصدر (Lorimer Gazeteer 1.1B:160 1-8.1611-12).
الزهد والفقر كلاهما مفهوم مرن مطاوع يشكله المراجع والمتصوفة حسب أهوائهم، فهو ذو قيمة عند البعض وبلا قيمة عند البعض الآخر. يصف الهجويري الجوع بإعتباره أهم مظهر من مظاهر الزهد بأنه" شرف كبير، محمود عند الأمم والملل".( كشف المحجوب للهجويري 2/570). ويذكر سهل بن عبد الله" المعدة المملؤة بالخمر أحب إلي من المعدة الممتلئة بالطعام". (كشف المحجوب للهجويري 2/593). في حين ذكر أبو يزيد البسطامي" الزهد لا قيمة له، زهدت ثلاثة أيام، أنهيتها في اليوم الرابع" (تذكرة الأولياء1/167). وذكر جلال الدين الرومي" الجوع هو طعام الله الذي يحي به أجساد الصالحين". (المثنوي5/1765). في حين يراه الشعراني" الجوع طعام الزاهدين". وآخر" الجوع طعام الزهاد، والتفكير طعام العارفين".(نفحات الأنس/157). أحاديث متناقضة لا تخرج منها بطائل.
وفي الوقت الذي يتبجحون فيه بزهدهم، تسمع منهم روايات عجيبة تتناقض مع ما سبق. فالشيخ (حسن سكر الدمشقي) يأكل فضة ويتغوط ذهبا! وقد طالبه مريدوه بأن يظهر لهم كرامة! فسألهم أن يجلبوا له(100) قطعة من الفضة، فلما أحضروها بلعها كلها، ثم جلس ليقضي حاجته فتغوطها ذهبا فأخذوها واغتنوا. (جامع النبهاني2/42). دبر الشيخ يمثل اختراعا مهما لم يصله العلماء لحد الآن وهو تحويل الفضة الى ذهب. هكذا الأدبار وإلا فلا. دبر الشيخ يمثل ثروة وطنية يمكن أن توصل الأمة الى أرقى مراتب الحضارة والتقدم. فطز في البنوك واحتياطاتها من الذهب الذي لا يعادل مخرجات دبر الشيخ.
ونُسب للشيخ الرفاعي القول" قال ليٌ الشيخ يعقوب: رأيت الشيطان واقفا على باب داري، فهممت بضربه. فقال ليٌ: أي يعقوب أنتم أهل الإنصاف، إن في بيتكم الأحمر والأصفر وهما لي. فكيف لا أجيء إلى بيتكم؟". (قلادة الجوهر لمحمد أبي الهدى الرفاعي/135). ويقول إبراهيم الهروي" لو أقسمت على الله أن يجعل هذا الشجر ذهبا لجعله". وذكر أبو الحسن البصري" كان بعبادان رجل أسود فقير، يأوى إلى الخرابات، فحملت شيئا وطلبته. فلما وقعت عيني عليه تبسم وأشار إلى الأرض، فرأيت الأرض كلها ذهبا يلمع". ويذكر عن الشيخ يوسف العجمي الكوراني بإنه أمر مملوكا عنده أن يقول للإسطوانة: كوني ذهبا! فصارت ذهبا! (الطبقات الكبرى للشعراني2/66). شاطرة الإسطوانه فهي تسمع الكلام!
إذا كانت عندهم حقا تلك الإمكانات فلماذا يستجدوا الناس ويمدوا أيدهم للشحاذة؟ فقد جاء في الحديث النبوي الشريف" لأن يحتزم أحدكم حزمة من حطب على ظهره فيبيعها خير من أن يسأل رجلا فيعطيه أو يمنعه"(سنن النسائي3/93). كما إن المتصوفة الأوائل كانوا يأكلون من تعب أيديهم مثل الشيخ عبد القادر الكيلاني. لكن معظم المتصوفة والمراجع الآن لايعملون ولا يأكلون من تعبهم إلا ما ندر، فهم يتخذون من التصوف والكهانة مهنة للإرتزاق والتكسب، يقول ابن الجوزي عن المتصوفة" منهم من يقدر على الكسب لكنه لا يعمل، يجلس في الرباط او المسجد معتمدا على صدقات الناس". كما قال الامام الشافعي"أسٌس التصوف على الكسل"( حلية الاولياء9/137). ومن عجائب تبريراتهم للبطالة والكدية ما ذكره أحد شيوخهم بأنه أحتار في سؤال الناس لشدة كراهية نفسه للسؤال! عجبا لماذا تعمل ما تكره طوعا منك وليس فرضا عليك؟ وبرره الفارسي شقيق البلخي بأنه رأى طائرا مكسور الجناح فتساءل مع نفسه: من أين يأكل هذا الطير؟ وأثناء ذلك جاء طير يحمل جرادة وضعها في منقار الطير المكسور الجناح وذهب! فإعتبر من هذا الدرس البليغ وقرر" ترك الكسب والإقبال على العبادة"! كإنما العمل ليس عبادة؟ المثير في هذه الحكاية إن البلخي أخذ العبرة من الطير المهيض الجناح. ولم يعتبر من الطير الذي يسد رمقه بنفسه ورمق الآخرين من المحتاجين! الا يعرف بأن النبي(ص) دخل يوما المسجد فرأى شخصا عاكفا على الصلاة صباحا ومساءا. فسأل النبي عمن يكفيه حاجته؟ فقيل له: إخوته. فقال النبي(ص)" هم أفضل منه".
نتساءل بدورنا: لماذا يعذبون أنفسهم بالخلوة والكسل ولا يعذبون أنفسهم بالعمل الشاق ليحلوا لقمتهم بدلا من إستجدائها من الناس؟ وأين هم من كلام الله عز وجل(( هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فأمشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور)) سورة الملك/15. أليس المراجع والمتصوفة يأكلون من رزقه ويمشوا في مناكبها! وأين هم من كلام رسوله المصطفى" إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه"؟ وعن رافع بن خديج سئل النبي(ص): أي الكسب أطيب؟ قال: عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور". لنقرأ حججهم الواهية: يقول أبو بكر الدمياطي"اترك الكسب حال كونك متجردا عن الأهل والأولاد". (كفاية الأتقياء ومنهاج الأصفياء). ذلك لأنهم لا يخجلون من إستجداء لقمتهم من الغير. وفبركة الحجج لنيل إستعطاف الناس عليهم.
وكذك حال الصفويين، وقد ورد عن إسماعيل بن عباس الهاشمي" جئت إلى أبي جعفر(ع) يوم عيد ، فشكوت إليه ضيق المعاش، فرفع المصلى فأخذ من التراب سبيكة من ذهب فأعطانيها. فخرجت بها إلى السوق فكان فيها ستة عشر مثقالاً من الذهب".( الثاقب في المناقب/526). كما روى جرير بن رستم الطبري" قال إبراهيم بن سعد: رأيت محمد بن علي(ع) يضرب بيده إلى ورق الزيتون فيصير في كفه ورقاً (دراهم) فأخذت منه كثيراً وأنفقته في الأسواق فلم يتغير". (دلائل الإمامة/398). وبالنقيض من ذلك فقد نسبوا لأبي عبد الله " درهم يوصل ود الإمام أفضل من ألف ألف درهم فيما سواه من وجوه البر".( الكافي ج1/538) أي عيب هذا عندما يستجدي الإمام الدرهم كالشحاذين!
هذه باقة من اشواك المتصوفة المدمية. ورد عن الشيخ أبو سعيد الخراز بأنه" كان يمد يده ويقول: ثمٌ شيء لله. ( غيث المواهب العلية/ النفري الرندي2/65) يقول المحتال لله تعالى ولا يقول لنفسه الكسولة! ويذكر الشعراني عن الشيخ يوسف العجمي" كان يخرج كل يوم من الزاوية فقيرا يسأل الناس إلى آخر النهار". ويضيف الطوسي في(اللمع/255) بأن" الأكل بالسؤال أجمل من الأكل بالتقوى". وعاتب البعض ابو يزيد البسطامي لإمتناعه عن العمل! فأجاب" مولاي يرزق الكلب والخنزير، ألا تراه يرزق أبا زيد".(عوارف المعارف للسهروردي/159). ويذكر السهروردي عن أحد مؤسسي التصوف" كان إبراهيم بن أدهم يفطر كل ثلاثة ليالي ليلة ليلة أفطاره يطلب من الأبواب" (عوارف المعارف/150). وعن ابو جعفر الحداد" كان يخرج بين العشائين ويسأل من باب أو بابين"(عوارف المعارف/157). وعن أبي سعيد الخراز" كان يمد يده ويقول: ثم شيء لله" ( غيث المواهب العلية2/65). وعن يوسف العجمي" كان إذا دًقت الباب يقول للنقيب: أنظر من شقوق الباب، فإن كان معه شيء من الفتوح للفقراء فأفتح له، وإلا هي زيارة فشارات". ومن الطريف أن يصف أبو يزيد البسطامي جماعته من الشحاذين بقوله" ينبغي أن يكون الصوفي سخيا كالمحيط متواضعا كالأرض"(تذكرة الأولياء1/164).! لكن من أين يأتي السخاء البديع، وهذا هو حالكم الوضيع؟