زمن الصَّعاليك الفقراء
إذا كان الصعلوك هو الفقير ، المحتاج إلى المساعدة ، فهذا يقودنا لنتعرف على هؤلاء الصعاليك الفقراء ، فبهذا التعريف يكون لكل زمان أناس معنيون بالفقر والحاجة ، وربما لسبب أو لأسباب أخرى ! وربما يكونون ــ أحيانا ــ من أناس لهم مكانتهم الاجتماعية أو غير من المكانات المرموقة وغير المرموقة .ولكنهم أناس بارزون ، وصفاتهم طاغية وربما شاذة ، ومزايا يتقبلها المجتمع أو لايرضى عنها .
وما دام لهؤلاء الصعاليك زمن ، فلنا أن نحدد مزايا تلك الأزمنة حسب تصرفات أصحابها ، وحسب أثرهم في حياة المجتمعات التي عاشوا فيها ، ومدى تأثير مناهجهم على أبناء تلك المجتمعات . قصدت أن زمن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يختلف بلا ريب عن زمن الفرسان وعن زمن الشعراء وهكذا فللفنانين زمن ولأهل الهوى زمن ولا نريد أن نعدد الكثير من الأزمنة التي طغت فيها حالات أهل هذه السمة وغيرها من السمات . ثم إنني أشعر بأن زماننا هذا هو زمن الصعاليك... أو هو كذلك .. هكذا أظن ! ويقولون إنَّ
الصعلوك هو الشخص الزاهد واللامبالي ، لا تغرّه المكاسب ولا يلتفت إلى المناصب ولا يهتم بها .. و بالوقت نفسه هو ساخر وشهواني ، لكنه متصالح أو متكيف مع شهوانيته الشاذة في كثير من المواقف والتصرفات . ولعل هذه الأصناف ــ ونستثني منها زمن النبوّات بلا شك ـــ يوهمون أنفسهم بأنهم يعيشون أمرا عظيما ، ويطغى على وجدانهم حبُّ الحياة ، وإن داهمت أذهانهم ساعاتُ الحرج الشديد ، حين يصدمهم الواقع المر الذي حـتاق بهم من كل جانب . أم أن حكاية ( اللاشيء ) هو الأصل في مضمار الضياع النفسي لحياة أهـل هذه التصنيفات ! ولعلهم يعجزون عن مجاراة زخم الحياة مالم يصنعوا وهما يعجزون عن العيش بدونه . ربما وحده الصعلوك يقف شاهدا على كل هؤلاء لينقلهم من نعيم العظائم _ما يُوهم به الكثير نفسه _ إلى جحيم اللاشيء !
ولست أقصد بالصعلوك الذي يأخذ من الأغنياء الأشحاء ليعطي الفقراء المحتاجين ، فالصعلوك يتهرّب من حالة الفقر المزرية بنظره وحده والذي فرضته عليه ظروفه الاجتماعية والاقتصادية ، فتمرّد على مجتمعه ليسلب وينهب داخل إطار مسميات مختلفة ليساعد المحتاج والمضطر وإن كان تصرفه فوضويا بائسا إلاّ أنه لا سبيل له سوى الصدام والصراع مع المجتمع فأولئك الذين احترفوا الصعلكة بشكل إيجابي . على عكس الذين نهبوا وسلبوا وانتهكوا الأعراض لذات الأسباب المجتمعية ولكن جرائمهم غذّوا بها نفوسهم المريضة الخبيثة المتعطشة لسفك الدماء ، ونهب الأموال والممتلكات ، والاستيلاء على مراكز القوة والسلطة مهما كانت الأثمان .
يقول ابن منظور في قاموسه الجامع لسان العرب: ( الصُّعلوك: الفقير الذي لا مال له. ولا اعتماد .... تدور معظم المعاجــــــــــــــم العربية على هذا النحــو في تعريفها للصعاليك أو الصعلوك، فهو الفقير الذي لا مال له يستعين به على أعبـــــــــــــاء الحياة، ولا اعتمــــــــاد له على شيء أو أحــــــــد يتكئ عليه أو يتـــــــكل ليشـــــــق طريقه فيها، ويعينه عليهــــــــا، حتى يسلك سبيله كما يسلكه سائر البشر الذين يتعاونون في الحياة، ويواجهون مشكلاتها يدا واحدة ) .
وهنا تتجلى مكانة الفطرة السليمة في صفاء الحياة الاجتماعية ، فالفقر رغم مايعانيه أهلُه من أهل الفطرة السالمة الصافية ، وأريد منهم المسلمين الفقراء المحتاجين الذين أغناهم زمن النبوة المشرق بأنوار الهداية ، بكل أسباب الطمأنية والرضا بما قسم الله لهم ، لأنهم يدخلون الجنة قبل غيرهم ، ولأن الدرهم الواحد الذي يتصدقون به يسبق ألف درهم لغني لو أعطى هذا المبلغ كزكاة أو صدقة ، بقي في جيبه الملايين . فالقضية هنا قضية إنسانية عقائدية ، تبنتها شريعة الله سبحانه وتعالى ، ووضعت لهـا أسباب الفلاح لمَن أمسى آمنا في سربه ، عنده قـوت يومه ، فقد حاز السعادة والخير والرضوان في ظلال رحمة الله سبحانه وتعالى .
وثيقة تاريخية :
( وقد ميز الباحثون في تاريخ العرب قبل الإسلام بين ثلاث مجموعات منهم: مجموعة من الخلعاء الشذاذ الذين خلعتهم قبائلهم لكثرة جرائرهم مثل حاجز الأزدي وقيس بن الحدادية وأبي الطحان القيني. ومجموعة من أبناء الحبشيات السود، ممن نبذهم آباؤهم ولم يلحقوهم بهم لعار ولادتهم مثل السليك بن السلكة وتأبط شرًّا والشَّنْفَرى. ومجموعة ثالثة احترفت الصعلكة احترافًا، وحينئذ قد تكون أفرادًا مثل عروة بن الورد العبسي، وقد تكون قبيلة برمتها مثل قبيلتي هذيل وفهم اللتين كانتا تنزلان بالقرب من مكة والطائف على التوالي ) .
وسوم: العدد 1053