محظور التعاطف مع سكان غزة.. إنه زمن فقدان الضمير في إسرائيل

يُوجَد ظلامٌ على وجه الهاوية. بدلاً من هاوية المذبحة في الجنوب يسيطر الظلام على إسرائيل. الآن ما زالت الغيوم تتلّبد، لكنها ستتحول إلى ظلام: إسرائيل أصبحت هستيريّة. اليسار “يستيقظ”، واليمين يزداد تطرّفاً، والمكارثية والفاشية تحتفل.

 زمن الحرب هو دائماً زمن كمّ الأفواه. وحدة المواقف، العنصرية، التحريض والكراهية؛ التجنّد الكامل في خدمة الدعاية، نهاية التسامح، واضطهاد كل من يتجرّأ على الانحراف عن الصف.

إن فظائع أفعال “حماس” في الجنوب أدّت بكل هذه الظواهر إلى مستويات متطرفة؛ وكأن الفظائع تشكّل المبرر لفقدان كل كابح. هذا الانفعال يمكن بالطبع تفهمه. أما الشمولية التي جاءت في أعقابها، لا. إذا لم يتم وقف ذلك فإن الخطر الذي يتربّص بالديمقراطية أخطر الآن بألف مرة من الخطر الذي كان يتربّص بها بسبب الانقلاب النظامي، الذي تسبّبَ بالهستيريا هنا لجميع المنظومات.

أول مَن فَقدوا عقولهم كانوا، كالعادة، اليساريين. لقد “استيقظوا”. مَن وقفوا مِن بينهم بحزم حتى الحرب من أجل النضال على الديمقراطية، يقفون الآن لتدميرها. ومَن رأى مِن بينهم أنفسهم ليبراليين ورجال سلام وحقوق إنسان، الآن يتبنّون موقفاً محدثاً: قلوبهم انغلقت إزاء الفظائع التي تحدث في غزة، ومعظمهم حتى يؤيدون زيادة قوتها.

 لماذا؟ لأنهم ارتكبوا ضدنا فظائع. إلى أي درجة؟ حتى النهاية. بأي ثمن؟ بكل ثمن. هذا اليسار يفكر الآن بغزة بالضبط مثل اليمين: ضربها وضربها. لا يوجد أي خيار. وحتى من بداية الحرب قلّلوا من أهمية الانشغال بالأبرتهايد، ومصير الشعب الفلسطيني. يفكرون الآن بأنه ليذهبوا جميعاً إلى الجحيم، وليُخْنَقوا وليموتوا وليُهجّروا. مَن اعتقدوا، حتى بداية الحرب، بأنهم متنوّرون الآن يتبنّون موقفاً واحداً. “حماس” قَلَبَت اليسار في إسرائيل رأساً على عقب. مِن الآن مسموحٌ ارتكاب كل شيء في غزة. أيضاً بمباركتهم. مِن الآن فصاعداً محظور التعاطف مع سكان غزة.

 ياريف أوبنهايمر، الذي شاهَدَ عميره هاس وهي تذرف الدموع وتبعث الإلهام حول مصير سكان غزة، سارع لكتابة: “أنا أعترف بأنني انغلقت”. حتى إزاء 2360 جثة طفل، حسب وزارة الصحة الفلسطينية حتى أول أمس.

انغلق قلب اليسار. ومثلما في بداية كل حرب، فإن هذا اليسار كان معها. اليسار “يستيقظ”، وبعد ذلك يعود إلى نفسه. هذه المرة مشكوك فيه أن يحدث ذلك. ما يحدث في القطاعات الأخرى أكثر فظاعة. الفاشية تحوّلت إلى الموقف الصحيح الوحيد. قنوات التلفاز تساوقت مع القناة 14، فيما يتعلق بغزة لا يوجد أي فرق. المراسلون والمذيعون يسمّون “حماس” بالنازيين، في مشهد مثير للاشمئزاز يضائل من أهمية الكارثة وينفيها، والجمهور يصفق. “حماس” فعلت أموراً مقرفة، النازيون لا.

أيّ رأي آخر محكوم عليه الآن بالقمع. سكرتير عام الأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، قال أموراً صحيحة وشجاعة عن السياق الذي نمت فيه هذه الفظائع، وسارعَ إلى التحفّظ، والقول بأن الأمر لا يبرّر هجوم “حماس”. وإسرائيل في مقاربة “عليهم” أصيبت بالجنون، وبدأت بالتحريض في وسائل الإعلام. أيّ مراسل سياسي لم يعبّر في أي يوم عن رأيه بأي شيء يعرف أن أقوال السكرتير العام “مثيرة للغضب”. بالنسبة لي مثلاً، هذه لم تثِر غضبي، هذه كانت أقوالاً صحيحة.

الممثلة ميساء عبد الهادي اعتُقلت بسبب منشور لا يوجد فيه أي مخالفة للقانون. وأفلامها تم حذفها من هيئة البث. المكارثية خجلت من هذه الأعمال. المحررة من الأسر، يوخباد ليفشيتس، في عرض مدهش، ومراسلو الوسط تذمروا من قولها للحقيقة.

راني راهف شاهد فيلماً عن تدمير غزة، وكتبَ: هذا ما أحبه!!! “جميع علامات التعجب التي تُسيل اللعابَ هي في الأصل”.

في يحزقيلي يحرّض، في كل مساء، على تدمير غزة، كلها. وزميلته في القناة، نتالي شيمطوف، ترى أن “الكثير من المباني ما زال قائماً في غزة”. هذا هو الشر الخالص في مواجهة كارثة غزة، التي لا يكشفون المشاهد الفظيعة فيها للإسرائيليين.

هذا هو الزمن الأسود. زمن الهجوم البربري لـ “حماس”، وزمن فقدان السيطرة، وفقدان الضمير في إسرائيل.

وسوم: ألعدد 1056