خصائص ومصادر التشريع الإسلامي

د.أحمد سعيد حوى

دورة أمية الخامسة بتاريخ 25/9/2013م

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وأصحابه أجمعين

هذه المحاضرة بمثابة مقدمة للحديث في الفقه السياسي الاسلامي باعتباره جزءا من التشريع الاسلامي ، و لذلك كان من الضرورة بمكان أن نتعرف خصائص هذا التشريع عموما وأهم مصادره وأن نأخذ فكرة عن نشأة علم الأصول واختلاف الفقهاء وخصوصا فيما يتصل أو يخدم ما يسمى السياسة الشرعية.

خصائص التشريع الاسلامي :

ذكر العلماء كثيرا من خصائص التشريع الاسلامي أو الشريعة الاسلامية و فيما يلي أهمها:

أولاً : الربانية :

ومعنى ذلك أنها من عند الله تعالى , فهي في أساسها من عند الله وحتى الاجتهاد هو عائد إلى القرآن والسنة , فهي ربانية المصدر .

- ولو كانت  الشريعة بشرية لترتب على ذلك أنه سيعتريها النقص – الخلل – التغيير – العبث – الميل مع الأهواء والمصالح - , فالتشريعات الوضعية تتغير من زمان إلى زمان وربما تتغير إلى النقص لتعلقها بأهواء البشر .

- وطالما أن الشريعة ربانية فهذا يعني : - الثبات والاستقرار في أصولها – ويعني أنها عادلة – ويعني الكمال المطلق لأنها من صفات الرب ولكن كمال هذه الشريعة وبهاءها لا يظهر إلا عندما تطبق كاملة , فلا تقبل الشريعة الترقيع , فالنبي(ص) جاءه المشركون ليفاوضوه فقال لهم لكم دينكم ولي دين , ولما توفي النبي (ص) حاول بعض العرب ان يفاوضوا أبا بكر في  دفع الزكاة ومنعوها فقاتلهم أبو بكر رضي الله عنه  لأن ذلك انتقاص في الدين , وحتى يظهر كمال الدين وعظمته يجب أن يطبق كاملاً , فنحن للأسف ابتلينا في المرحلة الحالية والماضية أنه يوجد تطبيق جزئي لهذا الدين .

ثانياً :  الإنصاف :

 فهي تنصف حتى غير المسلمين من المواطنين الذين يعيشون ضمن هذه الدولة , فالإنصاف يتجلى عندما تنصف الغير من نفسك , الآن الدول الغربية ترعى شعوبها أما مصالح غير شعوبها فتدوسها بأقدامها , لكن عندنا تجد أن عمر (ر) كان يعلم الناس حقوقهم حتى قال : إني لا ابعث عمالي ليضربوا ابشاركم ولا ليأخذوا أموالكم فمن فعل به بذلك فليوافني في الموسم  , كما أنه كان يدفع تكاليف من كان يأتي ليشتكي .

ثالثاً : فيها جزاء دنيوي وجزاء أخروي :

لو قارنا بين القوانين الوضعي التي صنعها البشر وبين القانون الذي وضعه رب البشر سنجد أن  القوانين الوضعية يمكن للإنسان أن يفلت من رقابتها وبسهولة , أي أنه يوجد تهرب من القوانين , في حين يوجد في الشريعة رقابة ربانية, فالصائم يمكنه بسهولة أن يشرب الماء ويفطر , ولكن الذي يمنعه عن ذلك رقابة الله والتقوى , وأيضاً عندما نزل تحريم الخمر ( قالوا انتهينا يا رب ) ولم يترددوا , في حين حاولت بعض الدول أن تمنع الخمور فأصدرت قوانين لذلك وعملت محاضرات وندوات واعلانات فازداد إقبال الناس على الخمور , وذلك لأن هؤلاء الأشخاص ليس لهم دين يمنعهم من داخلهم .

والله تعالى كثيراً ما يربط بين الإيمان بالله والإيمان باليوم الآخر , والسر في ذلك أن الإيمان باليوم الآخر هو الذي يوجه السلوك , فإذا وجد هذا الإيمان صح السلوك .

مثال على ذلك قصة بائعة الحليب : فعمر (ر) نهى عن خلط اللبن بالماء وهو تأكيد لحكم شرعي , وقد خرج عمر (ر) في دورية راجلة فردية ليلاً في شوارع المدينة ليتفقد أحوال الرعية فسمع صوت الأم تقول لبنتها أضيفي الماء إلى الحليب فقالت البنت : أما علمت أن أمير المؤمنين نهى عن ذلك فقالت لها : أمير المؤمنين لا يرانا , فقالت لها : إن كان أمير المؤمنين لا يرانا فالله يرانا، فجاء عمر في اليوم الثاني خاطباً لهذه الفتاة لابنه فجاء من نسلهما عمر بن عبد العزيز .

رابعاً : الصلة بالأخلاق :   

لا تنفك التشريعات الاسلامية عن الصلة  بالاخلاق  حتى في العمل السياسي حيث يوجد جوانب أخلاقية قِيمية أساسية  قال (ص) في الحديث : (لا تغدروا ولا تغلوا ولا تمثلوا) , لأننا إذا أعطينا الأمان يجب أن نلتزم به حتى ولو كان من أعطيته الأمان قاتلاً , وقد ذُكر أن أم هانئ  قالت يا رسول الله ( ص) هذا عليٌّ يزعم أنه قاتلٌ رجلاً قد أجرته - أعطيته الأمان – ويريد علي أن يقتله, فقال رسول الله ( ص) يا أم هانئ قد أجرنا من أجرت .

إذاً يوجد أخلاقيات عندنا حتى في المعركة وفي العمل السياسي وحتى في البيع والشراء في الدرهم و الدينار, فالمسار الاخلاقي يسير جنباً إلى جنب مع المسار التشريعي .

وقد نجد عند الآخرين شيئاً ما من الاخلاق لكنهم يحافظون منه على القدر الذي يخدم مصلحتهم ليس أكثر بدليل أنه إذا غابت الرقابة كانت الخيانة.

خامساً : الصلاحية لكل زمان ومكان :

فهي صالحة ومصلحة لكل زمان ومكان أي أنها قابلة لإصلاح الزمان والمكان , والذي ساعد على هذه الصلاحية أن هذه الشريعة جاءت على أكثر من نمط , جاء فيها إجمال وجاء فيها تفصيل , جاء فيها قواعد كلية , وكان فيها أشياء ثابتة , وكان فيها أشياء متروكة للاجتهاد .

فهناك أحكام تفصيلية ولكنها قليلة وهذه الأحكام التفصيلية أراد الله تعالى أن تكون ثابتة ( آيات الطلاق – مصارف الزكاة – المواريث ... ) لكن عندما نقرأ ( وأمرهم شورى بينهم ) فإنها لا تحدد آلية الشورى وكيفيتها ولا زمانها , وهذا جزء من خصائص الشريعة حتى تكون صالحة لكل القضايا زماناً ومكاناً , فهناك بعض القضايا ذكر فيها المبادئ والأسس وتركت الآليات للناس يجتهدون فيها بما يحقق مقاصد الشريعة.

سادساً : السماحة والتيسير :

وهي سمة عامة في هذه الشريعة ( بشرا ولا تنفرا ، يسرا ولا تعسرا ) (لن يشاد الدين أحد إلا غلبه) وهناك أحاديث كثيرة لكن بعض الناس وهو يزعم أنه ينصر هذا الدين يسيء إلى هذا الدين بتشدده ونسبة هذا التشدد إلى الدين (إن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهراً ابقى) (ما خير رسول الله (ص) بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً ) .

سابعاً :الواقعية :

أي أنها شريعة ممكنة التطبيق ويمكن العمل بها فكل أحكام الشريعة قابلة للتطبيق وليست خيالية , والدليل على ذلك أن الشريعة طبقت في قرون إلى أواخر الدولة العثمانية وكان شيخ الاسلام يصدر فتاوى في قضايا جديدة باستمرار.

ثامناً :  العالمية :

أي أنها ليست خاصة بأمة بعينها , فالرسل السابقون أُرسل كل منهم إلى قومه , وكانت شرائعهم تراعي خصوصيات كل قوم , أما الشريعة الإسلامية فقد جاءت للناس كافة , أي في كل العصور من عصر محمد (ص) إلى يوم القيامة , فالعالمية تستغرق الزمان والمكان من بعد رسول الله (ص) , وبالتالي لا يستطيع أحدٌ أن يقول إنها خاصة به أو أنها ليست له.

تاسعاً :  التوازن :

توازن بين الجسد والروح , وبين الحقوق والواجبات , وبين المصلحة العامة والمصلحة الخاصة ما أمكن , فإذا استحكم التعارض قدمت المصلحة العامة على المصلحة الخاصة , وهذا التوازن موجود في كل باب من أبواب التشريع , مثال : في باب الميراث , فالإسلام عندما جعل للمرأة نصف نصيب الذكر لم يظلمها , لأن الإسلام حمَّل الرجل أعباء كثيرة في الحياة ولم يُحمل المرأة شيئا من ذلك فناسب أن يعطيه أكثر مما أعطاها .

مصادر التشريع الاسلامي :

سنعطي أولاً نبذة عن العلم الذي يتكلم عن هذه المصادر وهو علم أصول الفقه :

- تعريف علم أصول الفقه :   هو معرفة دلائل الفقه إجمالاً وكيفية الاستفادة منها وحال المستفيد.

فمعرفة دلائل الفقه إجمالاً أي الأدلة الإجمالية , وكيفية الاستفادة منها , هي ما سميت فيما بعد قواعد الاستنباط والدلالات ( الأمر والنهي ودلالة كل منهما – العام والخاص – المطلق والمقيد – المجمل والمبين – الناسخ والمنسوخ - .... ), أما حال المستفيد فهو المجتهد ولا بد للفقيه أن يدرك هذه الأدوات .

سؤال : كيف تشكلت هذه القواعد وكيف انتهينا إلى هذه المصادر ؟؟

في زمان النبي (ص) لما بعث معاذا إلى اليمن , قال له كيف تقضي إن عرض عليك قضاء , قال: أقضي بكتاب الله , قال (ص) فإن لم تجد – لاحظوا الترتيب – قال أقضي بسنة رسول الله , قال (ص) فإن لم تجد , قال اجتهد رأيي ولا آلو  .... إذاً قرآن ثم سنة ثم اجتهاد .

إذاً طالما أن النبي (ص) أذن بالاجتهاد الفردي فمن باب أولى اجتهاد الجماعة , ومن باب أولى إذا أجمعوا على شيء , وقد برز هذا في فقه الراشدين أبي بكر وعمر , فإذا عرضت لهم مسألة جمعوا أهل العلم أهل الشورى ليروا ما عندهم فيها .

إخواننا إن النبي (ص) كأنه كان يعلمنا في حياته , ففي حال وجود النبي (ص) لا يوجد اجتهاد ولا إجماع , ولا يوجد سوى الوحي ( قرآن وسنة ) لكنه كان يعلمنا بشكل غير مباشر , فالصحابة (ر) كانوا يراقبون نزول التشريع وتنزل الآيات و ورود الأحاديث وكيف يتعامل معها النبي (ص)  ..... فيجدون أن هناك تخصيصا دون أن يسميه تخصيص , ويجدون أن هناك نسخا ,  ويجدون أن هناك قياسا وإن لم يسمه قياساً , ويجدون أن هناك ترتيبا للأدلة وإن لم يعبر أن هذا ترتيب أدلة ..... إلخ .

وطبعاً الخلفاء الراشدون بمجرد ما توفي النبي (ص) أصبحوا أمام مسائل جديدة يجب أن يتعاملوا معها , فبدأت تتكون قواعد الأصول وقواعد الاستنباط وترتيب الأدلة شيئاً فشيئاً .

وكذلك نلاحظ أنه حتى مع وجود النبي (ص) كان هناك نوعان من التعامل مع النص :  ـ تعامل ظاهري ( حرفي ) ـ وتعامل مقاصدي .

مثال معروف : لا يصلينَّ أحدٌ العصر إلا في بني قريظة , فبعضهم صلى وبعضهم لم يصل , مع أن العبارة كانت واضحة , وعرف النبي (ص) أن بعض الناس صلوا في الطريق , فلما وصل لم يعنف هؤلاء ولم يعنف هؤلاء , مع أن بعضهم خالف ظاهر النص , ومع ذلك فالنبي (ص) لم يعنفهم لأنهم فهموا المقصود , حيث كان مقصد النبي (ص) ألا يتأخروا , فهو يريد أن يستغل كل لحظة ليصل إلى بني قريظة ليباغتهم قبل أن يستعدوا , والفريق الذي خالف في الظاهر كان قصدهم أنهم سيُصَلُّون ويدركون وأنهم سيسرعون بالمشي, وقد عرفوا المقصد النهائي من خلال الاستنتاج فأقره النبي (ص ) , وكان هذا مقدمة لما عرف فيما بعد بالاجتهاد المقاصدي.

مثال آخر: صلح الحديبية ,هذا الاتفاق كان مجحفاً بحق المسلمين لدرجة أنه عمل ردة فعل عند الصحابة , لكن النبي (ص) وضع هدفاً استراتيجياً ولم يعد يبالي بالأهداف الصغيرة كثيراً , فإذا كانت الأهداف الصغيرة ستعطل الأهداف الكبيرة فنضحي بالأهداف الصغيرة , الدليل أن النبي (ص) قال – من اليوم الأول الذي صدته قريش – والله لا يسألونني خطة يعظمون فيها بيت الله إلا أعطيتهم إياها , فقريش حاولت أن تصور المسلمين على أنهم هم المعتدون , لكن النبي (ص) أراد أن يقلب الصورة ويعطي الانطباع للآخرين بأن المسلمين هم الذين يعظمون البيت ويحترمون هذه الحرمات ولم يأتوا لقتال أو اعتداء ..... إذاً وضع النبي (ص) هدفاً استراتيجياً وهو تعظيم البيت .

مثال : قبل أن يتوفى عبد الرحمن ابن عوف طلق امرأته طلاقاً بائناً , وبالتالي إن مات لن ترث , فيُظن أنه أراد أن يحرمها من الميراث , والقرينة هي وجود مرض الموت ..... وقد جاءت هذه المسألة لعثمان (ر) فورثها , مع أن البائن لم تعد زوجة , لكن عثمان ورثها وذلك سداً للذريعة حتى لا يُتخذ هذا طريقاً لحرمان الزوجة من الميراث .

مثال : قضية الأسرى , ففي بدر حصل خلاف بين الصحابة , وعندما ننظر في سبب الخلاف نجد أن هناك مقصدا يوجه الخلاف , فوجهة نظر عمر (ر) كانت أن يُقتلوا , أما أبو بكر  فقال بالمفاداة, لكن الله تعالى كانت له إرادة أخرى في هذه المسألة , حيث أراد أن يربيهم على عدم التعلق بطمع وكان ذلك الدرس , ومع ذلك أباح لهم فيما بعد وتم الفداء , وأباح لهم الغنائم , ولكن كان ذلك درساً وتنبيهاً .

مثال : عمر رضي الله عنه وابنه عبدالله(ر) : فعمر صاحب رأي واجتهاد , ابن عمر بمصطلح اليوم هو سلفي وقَّاف عند ظاهر النصوص لدرجة أنه كان يفتي الفتوى تأتي على خلاف فتوى والده عمر , فيقولون له قال عمر كذا وكذا , فيغضب ويقول : أقول لكم قال الله وقال رسول الله وتقولون قال عمر !! لكن لننتبه : ابن عمر ليس بحاجة إلى فقه الرأي الذي احتاج إليه عمر (ر) , فهو عابدٌ ناسكٌ زاهدٌ صوامٌ قوامٌ , لكن عمر أمير المؤمنين الذي قال : لو أن بغلة عثرت على شط الفرات لسئلت عنها لم لم تسوِّ لها الطريق , فعمر مسؤول عن الرعية كلها ..... إذاً الفارق واضح فابن عمر يتورع ويحتاط لنفسه أما عمر فهو يحمل هم الأمة ويجتهد ويسدد ويقارب , فمن كان يجتهد لنفسه يسعه أن يقف عند ظواهر النصوص ويتورع وأن يحتاط وأن يشدد على نفسه ما شاء, لكن من يتعامل مع قضايا الأمة كلها لا يسعه هذا التشدد فيحتاج إلى النظر والاجتهاد, ولذلك عمر اجتهد في : سهم المؤلفة قلوبهم , في إيقاف الحد في عام المجاعة , في عدم توزيع الأراضي وفرض الخراج عليها .

 إذاً بدأ الصحابة (ر) يواجهون المسائل , وأول مسألة واجهها أصحاب النبي (ص) بعد وفاته هي مسألة قياس , وهي مسألة الخلافة , طبعاً لم يكن هناك نص صريح في أن يكون أبو بكر (ر) هو الخليفة , لكن يوجد نصوص أشارت إلى فضل أبي بكر , ولكن الإشارة إلى الفضل لا تكفي لنبني عليها ونجعله خليفة , ومع ذلك فإن الصحابة استأنسوا بأحد الأدلة واعتبروه أساساً يبنى عليه , وهو أن النبي (ص) في آخر أيامه قال : (مُروا أبا بكرٍ فليصل بالناس) , فقد يكون النبي (ص) أراد أن يعطي إشارة غير مباشرة , لكنه أيضاً لا يريد أن يقرر في الأمة مبدأ الوصاية أو الولاية ولاية العهد, لذلك لما بدأها معاوية سمي ذلك ملكاً عضوضاً , المهم الصحابة قالوا : رضيه لنا لديننا أفلا نرضاه لدنيانا , وهذا يسمى قياس الأولى , ثم بدأت بعد ذلك تأتي القضايا فيستشير كل من أبي بكر وعمر ويجتهدون وإذا اتفقوا على أمرٍ أمضاه الخليفة وبالتالي أصبح إجماعاً , وإذا اختلفوا اجتهد .

مثال : جيء لعمر بامرأة ولدت لستة أشهر , ففي عرف الناس الحمل تسعة أشهر , فكيف تزوجت وولدت في ستة أشهر !! فهي في عرف الناس متهمة أي أنها حملت قبل الزواج , كاد أن يقيم عليها الحد , لكن علياً فطن لأمرٍ , فقال إن الله قال : ( وحمله وفصاله ثلاثون شهراً ) وقال : (وفصاله في عامين) فإذا جمعنا الآيتين مع بعض يظهر أن أقل مدة الحمل ممكن أن تكون ستة أشهر , فوقف عمر .

مثال آخر: امرأة توفي عنها زوجها وهي حامل, فكم تكون عدتها؟؟                                           الصحابة اختلفوا , فهذه المرأة اجتمع فيها صفتان : فهي تدخل تحت الآية : ( والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا ) , كما أن فيها صفة أخرى وهي أنها ذات حمل , قال تعالى : ( وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن ) ...... برز في المرحلة الأولى ما يسمى فقه الاحتياط والتوفيق , فقال بعض الصحابة (ر) تعتد بأبعد الأجلين , احتياطاً , وبهذا يكونون قد عملوا بالنصين , أي إن ولدت قبل أربعة أشهر وعشرة أيام فيجب أن تكمل الأربعة أشهر وعشرة أيام , وإن مرت أربعة أشهر وعشرة أيام ولم تلد فيجب عليها أن تكمل العدة حتى تلد, , وهذا ما يسمى أبعد الأجلين ....  فتدخَّل ابن مسعود وقال : أشهد أن سورة النساء الصغرى نزلت بعد سورة النساء الكبرى , و بالتالي تعتد بوضع الحمل ، لأنه اعتبر أن الآية المتأخرة ناسخة جزئيا أو مخصصة للأولى .

إذن الصحابة (ر) أو الراشدون تحديداً عملوا بالقرآن والسنة وبالإجماع والقياس , لكن كان هناك مسائل أخرى لم تندرج تحت واحد من هذه المصادر , لكن فهمهم للشريعة واستقراءهم لها أرشدهم إلى أن هناك مصادر أخرى أو مناهج أخرى يمكن أن يبنى عليها الحكم والتي سميت فيما بعد استحساناً وسداً للذريعة ... إلخ .

المسالة الواحدة قد يتعدد فيها الاجتهاد وكل اجتهاد صحيح , أمثلة :

مثال : ذكر الله تعالى في القرآن في قصة سليمان و داوود عليهما السلام : (وداوود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ) , ثم قال تعالى : ( ففهمناها سليمان وكلاً آتينا حكماً وعلما ) :

علماً أن القاضي الأول هو داوود عليه السلام , فجاء الخصمان وقال الأول أن غنم فلان دخلت في أرضه وأتلفت وأكلت , الحكم المنطقي هو التعويض عن الضرر, فقضى داوود عليه السلام لصاحب الزرع بالتعويض على صاحب الغنم .....

 بينما كان لدى سليمان وجهة نظر أخرى , حيث قدر أنه إذا فرض التعويض على صاحب الغنم سيذهب جزء من رأس المال , بينما رأس مال الطرف الآخر وهو الأرض باقية ولم تتأثر , فاجتهد ورأى بأن يكون التعويض من الغلة ليحفظ للأول رأس ماله , أي أن يكون التعويض من الصوف والمواليد واللبن , فقضاؤه يعني أن يكون التعويض من الغلة مثلما أن الضرر كان في الغلة ( المحصول ) , وأثنى ربنا على هذا الحكم مزيد ثناء.

مثال :  تزوج أخوان من أختين فأخطأوا في الزفاف , فزفت هذه لغير زوجها وزفت الثانية لغير زوجها , ولم يعرفوا الأمر حتى طلع الصباح , فلما أصبحوا خرجوا إلى فقهاء الكوفة طلباً للفتوى, أول فتوى تتبادر إلى الذهن أنه دخول بشبهة, ولكن هنا صار دخول والحديث قال : ( لا يسقي أحدكم ماءه زرع غيره ) أي أنها تحتاج إلى استبراء رحم فقالوا تعتد كل منهما العدة الشرعية الكاملة ( ثلاث حيضات ) قياسا على عدة الطلاق, فقيه ثان قال تعتد بحيضة واحدة للاستبراء قياسا على استبراء الأمة, ثم جاء أبو حنيفة فقال للأول : أترضى بالتي دخلت بها زوجة؟ قال : نعم , وقال للثاني : أترضى بالتي دخلت بها زوجة , قال : نعم , قال للأول : طلق التي عقدت عليها فطلقها وهي لا تحتاج إلى عدة لأنه لم يدخل بها , وقال للثاني طلق التي عقدت عليها ، فطلق امرأة عقد عليها ولم يدخل بها فلا تحتاج إلى عدة , ثم عقد لكل منهما على التي دخل بها , إذاً نلاحظ ثلاث اجتهادات في المسالة الواحدة والثلاثة صحيحة .

نحن وجدنا نماذج حتى مع وجود النبي ( ص) , حيث وجد خلاف في الفهم أحياناً وخلاف في طريقة التعامل مع النص , فهناك من يقف مع ظاهر النص , وهناك من يفتش عن المقصود وغاية النص , ومن حيث المبدأ وجدنا أن النبي (ص) يقر هذه الطريقة ويقر هذه الطريقة.

ــ وهذه بعض الأمثلة توضح كيف تعامل الفقهاء وكيف تعددت نظراتهم وكيف كان يحترم بعضهم بعضاً , وكيف يتدافعون الفتوى :

مثال 1: صلى الشافعي الفجر يوماً إماماً في مسجد أبي حنيفة ولم يقنت , مع أنه في المذهب الشافعي يوجد قنوت في الفجر , فقالوا : يا إمام خالفت مذهبك , فقال احتراماً لصاحب هذا القبر .

مثال 2: مما نقل عن أبي حنيفة قوله : هذا قولنا وهو أحسن ما قدرنا عليه , وهو صواب يحتمل الخطأ , وقول غيرنا خطأ يحتمل الصواب .

ملاحظة في فقه التيسير : - الإمام الشاطبي – وهو حريص على اتباع الكتاب والسنة أعاد عرض أصول الفقه بطريقة جديدة حيث قرن بين علم الأصول والمقاصد وصاغ المصالح ضمن قواعد , من هذه القواعد قوله:  النظر في مآلات الأفعال معتبرٌ مقصودٌ شرعاً , أي لا يكفي الاجتهاد في فهم النص بل يجب الاجتهاد في مآل التطبيق أو في نتيجة التطبيق .

ـــ يقول الإمام مالك : الاستحسان  تسعة أعشار العلم , حيث أراد أن يبين لنا أن الاستحسان هو ذلك الفقه الدقيق لأن المسائل الدقيقة لا يعرفها إلا العلماء , أي أن الإمام مالك يقصد بقوله الفقه الدقيق , أما المسائل العامة والمشهورة فيعرفها الصغير والكبير والعالم وغير العالم .

ــ ويقول الإمام الثوري : ( العلم رخصة من ثقة , أما التشدد فيحسنه كل الناس ) , ومن هنا نجد أن الفقيه الذي أكرمه الله تعالى بالفقه والعلم ودقة النظر هو الذي يوفق إلى مخرج شرعي معتبر .

ـــ وقد ذكر النبي (ص) مخرجاً في مسألة عرضت عليه :

حيث أوتي بتمر من تمر خيبر ( تمر ممتاز ) فقال : أكلُّ تمر خيبر هكذا ؟ قالو لا يا رسول الله (ص) إنا نبيع الصاع بالصاعين , فقال لا تفعلوا , هذا ربا لأنه من جنس واحد , لكن النبي (ص) أعطاهم مخرجاً فقال : بع الجمع بالدراهم واشتر بالدراهم جنيباً .

- إذاً يجب أن يكون عندنا سعة صدر وأن نتقبل الخلاف في المسائل الاجتهادية , لأننا لا نتكلم عن مسائل قطعية أجمعت عليها الأمة .

ـــ إذاً الخلاف وارد في القضايا الاجتهادية , فيجب أن نحترم الاختلاف المنقول عن الأئمة الثقات , وأن تتسع صدورنا , لأنه المطلوب منا الآن هو التقريب والتجميع والتوفيق وليس التفريق , ونتقبل اختلاف الرأي واختلاف المنهج ضمن أصول أهل السنة والجماعة , قال تعالى : ( شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذين أوحينا إليك وما وصينا به ابراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه ) .... إذاً دائماً يجب أن نلاحظ أمرين : إقامة الدين وعدم التفرق , فإذا أدت إقامة الدين في نظري إلى التفرق , فهذا يعني أنني على خطأ , فقد يكون السبب هو التعصب أو عدم مراعاة الأولويات وقد يكون الخلط بين مقاصد ووسائل .

خاتمة في  أسباب اختلاف الفقهاء في المسألة الواحدة

قد تعرض المسألة الواحد على المجتهدين , فتختلف فيها أقوالهم ..... فما هو السبب في ذلك ؟  وأحياناً نفس الفقيه أو المجتهد قد يكون له أكثر من قول في المسألة , وبتحديد أكثر قد يكون له قول قديم في المسألة وقول جديد فيها كما حصل مع الشافعي .

نحن وجدنا نماذج حتى مع وجود النبي ( ص) , حيث وجد خلاف في الفهم أحياناً وخلاف في طريقة التعامل مع النص , فهناك من يقف مع ظاهر النص , وهناك من يفتش عن المقصود وغاية النص , ومن حيث المبدأ وجدنا أن النبي (ص) يقر هذه الطريقة ويقر هذه الطريقة , وظهر فيما بعد وفاة النبي (ص) وانقطاع الوحي مدرستان : الأولى عرفت بمدرسة أهل الحديث , الثانية عرفت بمدرسة أهل الرأي , وظهر فيما بعد مدرسة أهل الظاهر الذين يقفون عند ظاهر النصوص ......

إخواننا هذا يمكن أن نعتبره سبباً أساسياً من أسباب الخلاف , لكن ليس هو كل شيء , فمن أسباب الخلاف الدليل نفسه من عدة نواح :

1ـ أحياناً عدم وصول الدليل : أي أنه وصل إلى بعض المجتهدين ولم يصل إلى البعض الآخر, وبالتالي من لم يصله الحديث سيرجع إلى أدلة أخرى , ومن وصله الحديث عمل به .

2ـ نفس الدليل قد يكون وصل إلى كلا المجتهدين , فصححه أحدهما وضعفه المجتهد الآخر , وبعض المجتهدين يعلق الحكم على صحة الدليل كالإمام الشافعي .

3ـ تعارض الأدلة : العلماء يقولون ليس هناك تعارض حقيقي , لكنه تعارض بحسب الظاهر فيما يبدو للمجتهد أو للناظر , وإلا فإما أن يكون هناك تخصيص أو تقييد أو نسخ أو تنوع ...  وطبعاً سيختلف الفقهاء هنا في توجيه هذا التعارض أو إزالته أو دفعه , ولكل منهم فهمه .

إذاً فالفقيه معذور ولكن بعد أن يبحث ويفتش , فأبو بكر وعمر عندما كانت ترد المسائل المستجدة كانوا يجمعون أهل العلم ويسألونهم : هل عندكم من علم فيها في كتاب أو في سنة رسول الله (ص) , وبعد أن يتأكدوا أنه لم يرد شيء يجتهدون .

ملاحظة : الفتوى تقدر مكاناً وزماناً وشخصاً .

مثال  :جاء سائل لابن عباس وقال له : هل للقاتل توبة ؟ قال له : نعم , ثم جاء شخص آخر وقال : هل للقاتل توبة ؟ قال له : لا ...... فقال أما الأول فرأيت في عينيه الإشفاق والندم , فهو قتل وانتهى ويريد أن يتوب وله التوبة , أما الثاني فرأيت في عينيه الشرر والرغبة في القتل , لذلك حاولت أن أردعه .

مثال : أفطر أعرابي في رمضان , فقال يا رسول الله (ص) هلكت وأهلكت , سأله فقال : وقعت على أهلي في نهار رمضان , قال : هل تجد أن تعتق رقبة , قال : لا , هل تستطيع أن تصوم شهرين , قال : لا , هل تستطيع أن تطعم ستين مسكيناً , قال : لا , فأعطاه الرسول (ص) تمراً وقال له خذ هذا وتصدق به , قال : أعلى أفقر مني , أي لا يوجد أفقر مني , فقال له أطعمه لأهلك ..... إذاً أدرك النبي (ص) أن هذا الرجل جاء تائباً نادماً فتساهل معه، ولذلك قال العلماء إن هذا الحكم خاص به ، و أما غيره فعليه كفارة يطعمها لغيره وتبقى في ذمته إلى أن يؤديها ...