الاعتدال والتطرف في المجتمعات التعددية
علي حسين/مؤسسة النبأ للثقافة والاعلام
يكاد يشكل التطرف سمة جوهرية من سمات العصر الراهن، على الرغم من انه رافق حياة الانسان منذ زمن بعيد، ولكن يرى الباحثون في هذا الشأن، أن بؤر العنف التي أخذت تتكاثر على نحو خطير في مناطق عديدة من العالم، يقف وراءها غياب الاعتدال، وتسيَّد حالات التطرف للفكر والسلوك الانساني، وغالبا ما تنمو هذه الظاهرة في المجتمعات المتأخرة التي تفتقر للوعي والثقافة، وتحكمها قيم وعادات نافذة وموروثة، تجعل من سلوكهم اليومي واهداف القريبة والبعيدة، خاضعة للرأي المتطرف، مع غياب شبه تام لثقافة الاعتدال واحترام الرأي المقابل، والانفتاح على الفكر الآخر، والتعاطي معه ضمن حدود التحاور الانساني.
وهذا لا يعني تطبيق الفكر المضاد وحتمية الايمان به، بل معرفة الجديد كي تتداخل التجارب والافكار، ليتم تصحيح الاخطاء وفقا للخبرة التي يتم تحصيلها من حوار الآراء، أو حوار الحضارات وليس تصادمها، وقد جاء في تعريف التطرّف، انه تعبير يستعمل لوصف أفكار أو أعمال ينظر إليها من قبل مطلقي هذا التعبير بأنها غير مبرّرة. من ناحية الأفكار، ويستعمل هذا التعبير لوصم الأيديولوجية السياسية التي تعتبر بعيدة عن التوجه السياسي للمجتمع. وقد يعني التعبير استعمال وسائل غير مقبولة من المجتمع مثل التخريب أو العنف للترويج لجدول أعمال معين، إنّ مصطلحي التطرف أو متطرّف يطلقان بشكل دائم تقريبا من قبل الآخرين، بدلا من مجموعة معينة يمكن أن تعتبر نفسها كذلك، على سبيل المثال، ليس هناك طائفة إسلامية أو مسيحية تدعو نفسها بالمتطرفة، وليس هناك حزب سياسي يدعو نفسه بمتطرّف يميني أو متطرّف يساري.
ويزداد التطرف خطرا، وتزداد الحاجة للاعتدال أضعاف المرات، اذا كان المجتمع ينطوي على التنوع، ويحتوي في نسيجه المجتمعي على أديان ومذاهب وأعراق وأقليات مختلفة، بمعنى كلما كان المجتمع موزّع على مكونات متنوعة، كلما كانت الحاجة الى التعايش أكثر اهمية، لآن المجتمع التعددي يستدعي توافقا وتعايشا وانسجاما بين مكوناته، فكل مكوّن يبقى محافظا على خصوصياته الدينية والثقافية وعاداته وما شابه، مع امكانية التعايش مع المكونات الاخرى، في ظل تفاهم مشترك وتوحّد مجتمعي تذوب فيه الفوارق بين تلك المكونات مع الاحتفاظ بالخصوصية، وهذا الامر يمثل تحديا كبيرا للمجتمعات التعددية ذات الوعي المتدني، كما هو الحال في معظم الدول الاسلامية والعربية!.
لماذا ينمو التطرف؟
من الأسئلة الجوهرية التي تواجه انسان العصر الراهن، انه كيف يواجه موجات التطرف المتنامية في عالم اليوم، لاسيما أن المجتمعات الاسمية والعربية تتعرض اكثر من سواها الى هذه الظاهرة، ان غياب الاعتدال سيقود الى التطرف بطبيعة الحال، وهذه ظاهرة قديمة متجددة في مجتمعاتنا، فطبيعة المجتمع المحافظ، وتمسكه بجذوره التقليدية، وقلة انفتاحه وتلاقحه مع الثقافات الاخرى، يجعله منكفئا على ذاته، فضلا عن الاسباب الذاتية حيث الانظمة السياسية الدكتاتورية تسيطر على مقدرات الشعوب كلها، فيتم التعامل من لدن السلطة والحكام الطغاة، مع الشعوب، وفق آليات القهر والقمع والتكميم ومصادرة الرأي، الامر الذي يزيد الطين بلّة، ويجعل التطرف حاضرا ومستعدا على الدوام كي يؤدي دوره في اشعال نار الفتن، وتدمير البنى المجتمعية، وقتل روح التعايش بين مكونات الامة او المجتمع الواحد، من خلال بث الفرقة بين الشرائح والاقليات المجتمعية المختلفة.
فالدكتاتورية لا تسمح مطلقا بالاعتدال، وغالبا ما يجد التطرف ارضا خصبة في الاستبداد، حيث ينتج عن القمع والتكميم السياسي انواع وبؤر كثيرة من التطرف.
يقول سماحة المرجع الديني، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، كما ورد في كتاب (من عبق المرجعية)، حول اسباب التطرف او العنف والعنف المقابل: (تكمن جذور العنف، في الجهل والعصبية، والفهم الخاطئ للدين، والاستبداد والحرمان الاجتماعي، والظلم من قبل الحكومات والافراد، حيث يتولد العنف المضاد، وتغلق قنوات الحوار البناء او تضيق) بسبب غياب او ضعف الاعتدال.
ومع أن الناس معادن واشكال، ولديهم افكار مختلفة، إلا أن المحيط العائلي الذي يترعرع في الطفل، سيكون نافذته الاولى التي يطل من خلالها على العالم، وفي ضوئها تتشكل لدية الذاتية التي تستمر معه الى نهايات العمر، لذلك للتربية أثرها الفعال في قمع التطرف وتحجيمه ومنعه عن النمو في شخصية الطفل، او العكس عندما يكون المحيط العائلي موبوءً بالتطرف والعنف، عند ذاك تكون حالة الاعتدال بعيدة المنال إن لم تكن مستحيلة بالنسبة للإنسان الذي يولد ويترعرع وينمو في وسط متطرف، ولا ننسى الاماكن الاخرى التي ينشط ويتحرك فيها الانسان، وطبيعة الفكرة لمن يتأثر بهم فكريا، ومدى درجة الاعتدال التي يتحلون بها، كل هذه الاسباب يمكن ان تخلق انسانا متطرفا ينحو الى العنف في التعامل مع الآخرـ او تصنع انسانا معتدلا لا يرى مبررا للعنف، ولا يذهب إليه في معالجة التناقضات مع الاخر، مهما تعددت وتنوعت هذه الاختلافات، فالإنسان المعتدل يؤمن بحرية الفكر، ويحترم ما يؤمن به الآخرون، لكنه في الوقت نفسه غير ملزم بتطبيق الفكر الآخر، او الالتزام به تحت اي ظرف كان، طالما انه لا يدخل ضمن قناعته ومنظومته الفكرية والاخلاقية التي يؤمن بها ويعمل في ضوئها.
من هنا يؤكد سماحة المرجع الشيرازي هذا الاختلاف عندما يقول في هذا المجال: (لا شك في اختلاف ذاتيات الافراد، فإن الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، إلا أن التربية العائلية، والمحيط الاجتماعي، والنظام الحاكم، لها اكبر الاثر في إذكاء حالة العنف في النفوس، و – غياب الاعتدال- واشعال جذوة العنف في المجتمع).
خطوات لترويض العنف
كثيرة هي الاسباب التي تقف وراء التطرف والعنف، لاسيما في المجتمعات التي لم تنل الفرصة الكافية كي تتجاوز حواجز الجهل والتخلف والحرمان، فضلا عن الارث الفكري والعرفي وربما الخرافي ايضا، حيث يثقل هذا الارث كاهل المجتمعات المتخلفة، ويدفعها بقوة الى رفض التجديد والركون الى ما هو ساكن و قارّ في الذاكرة الجمعية التي تتعاقب عليها افكار واعراف الاجيال السابقة ومخلفاتها في التعصب، بسبب الانغلاق والتخلف والخوف من التلاقي مع الاخر والتحاور معه، بحجة التأثر به والذوبان فيه ومسخ الخصوصية او الهوية التي تميز هذا الشعب عن ذاك.
إذاً هناك أسباب تقف وراء ضعف او اندثار حالة الاعتدال لدى الفرد والمجتمع ايضا، وهناك عوامل مباشرة وغير مباشرة تغذي العنف، وتضاعف من التعصّب، وتدفع الفرد والجماعة نحو انتهاج السلوك التصادمي مع الاخرين، في حين تستدعي حالة الوسطية والاعتدال درجة من التعايش، تسمح للجميع أن يقبلوا بعضهم البعض، بما هم عليه من افكار يؤمنون بها، لكن لا يحق لهم فرضها على الآخرين، نعم انت حر بأفكارك، وانا احترمها، لكن من غير الممكن أن تفرضها على الاخرين في مجال التطبيق الملزم!.
من المتفق عليه بين المعنيين من المصلحين والمفكرين وغيرهم، أن التطرف غالبا ما يكون وليدا للكبت، وأن التعصب يتولد عن الجهل، وأن الاستبداد والدكتاتورية لهما دور مباشر وكبير في تنمية نزعات العنف لدى الافراد، لذلك حتى نتمكن من ترويض العنف والتعصب ومؤشرات التطرف كافة، علينا أن نكافح العوامل التي تساعد على تنمية العنف، بمعنى أوضح لابد من العمل بقوة لرفض كل انواع الكبت التي تدمر وتمسخ شخصية الانسان، وتحد من طاقاته الفكرية الخلاقة، وهذا يستدعي معالجات جوهرية لأسباب الاستبداد والقمع وكل مظاهر التكميم ومصادرة الرأي، وما شابه من اجراءات تعسفية تلجأ اليها الحكومات الفاشلة، أملا في اطالة عمرها مع فسادها، في حين ان التجارب كلها اثبتت خطأ وفشل هذا النوع من الحماية، فكم تساقطت عروش، وتهشمت كراسي حكم بسبب القمع والاستبداد، وكم طاولت عروش في ظل الحكم الحر الذي يؤمن بالإنسان وكرامته وحريته، ويساعد على خلق الشخصية المعتدلة، ويتم بناء مجتمع الوسطية ونبذ العنف، وتتم اتاحة فرص التطور للجميع بصورة عادلة ومتساوية.
لذلك يرى سماحة المرجع الشيرازي، كما جاء في كتاب - من عبق المرجعية- أن (أجواء الكبت والارهاب، والاستبداد والدكتاتورية، تساعد على نمو الاتجاهات المتطرفة، والحركات التدميرية، لذلك لابد من ارساء دعائم العدالة الاجتماعية، وتوفير الفرص للجميع، واعطاء حقوق الفقراء والمحرومين).
الخلاصة إذاً، أن العمل على تجفيف بؤر التطرف، والقضاء على مظاهر العنف، ونشر الاعتدال والوسطية كمنهج حياة للمجتمع، لا يمكن أن يتحقق بصورة ارتجالية، او بدعوات كلامية غير مقرونة بالعمل المنظم والجاد لتحقيق هذا الهداف، فلكي ينعم المجتمع بالسلام ويمضي الى التقدم، لابد من تأسيس وتنمية المركزات القوية لدعم الوسطية والاعتدال وتنمية روح التعايش بين الجميع، وتوظيف التنوع ومزاياه لصالح المجتمع وليس بالضد منه.