مصائبٌ تهون ومصائرٌ تُهين
د.مصطفى يوسف اللداوي
هناك ما هو أكثر فاجعةً من الموت، وأشد ألماً من الفقد، وأوجع على النفس من الرحيل، فالموت ليس أكبر المصائب وإن بدا كذلك، ولا هو أشدها وأقساها وإن ناءت النفوس عن حمله، وانحنت الجباه أمامه، وبكت العيون بسببه، وشقت النساءُ ثيابها لهوله، وفجعت الأمهات لخطبه، وانعقدت ألسن الرجال لعظمته، وجزعت الأرواح لفجأته، ذلك أن رزيئته تبدأ كبيرة، ومصيبته تظهر عظيمة، لكنها سرعان ما تصغر، وتبدأ في التضاؤل والاضمحلال، حتى تنتهي أو تقارب على الانتهاء، ويزول أثرها، وتنمحي ظلالها، فما من شئٍ يولد صغيراً ويكبر، إلا الموت، فإنه يولد كبيراً ويصغر.
مصيبة الموت لها معزون، ومعها مسرون، يلتقي عليها الناس، ويجتمع حولها الأصدقاء والفرقاء، والمحبون والكارهون، الذين يصبرون أهل الفقيد وذويه، ويساعدونهم ويؤازرونهم، ويقدمون لهم كل عون، ويمدون لهم كل يدٍ للمساعدة، ويسألون الله الرحمة للميت، والعوض الكريم لأهله، والأجر والثواب لمن بعده، ما يهون الخطب، ويخفف الحزن، ويذهب بالألم والأسى، كيما ينسى المبتلون ابتلاءهم، ويقف على أقدامهم الممتحنون والمختبرون.
والموتُ حقٌ، وكأسٌ على الجميع تجرعه وإن طال به الزمن، أو امتدت به الحياة، فهو قدرُ الله الذي به نسلم، وله نذل ونخضع، وبه نسلم ونخشع، فلا نعترض على حكمه، ولا نرفض قضاؤه، ولا نهرب من أجله، ولا نستطيع أن نطيل أعمارنا يوماً، أو نؤجله زمناً، ولو كانت أجسادنا قوية، ونفوسنا فتية، وأبداننا غضةً طرية، وأرواحنا فرحةً بهية، وأموالنا كثيرةً وفيرة، وعشيرتنا كبيرة ممتدة، فلا شئ من هذا يطيل عمرنا، ولا غيره يؤخر آجالنا، بل إنه يطالُ الجميع ولا يفرق، ويدرك الكل ولا يميز.
ولكن مصائب أخرى أشد ألماً وأكثر وجعاً، وأعمق أثراً، وأبلغ أذىً، وأطول مدىً، تذهب العقل، وتؤذي الروح، وتقض المضاجع، وتحزن النفس، وتترك في القلب ندبةً لا تزول، وآثاراً لا تنمحي، لا ينساها الناس، ولا يغفل عنها أحد، ولا تغض الطرف عنها العيون، ولا تنطبق بسببها الجفون، وتبقى كبيرةً على مر الزمان، وعظيمةً رغم كر الليالي وتتابع العشي، فهي تمس السمعة، وتنال من الشرف، وتتعلق بالأرض والعرض، والكرامة والوطن، يدفع ثمنها المخطؤون، ويعاني منها الأهل والولد ومن له بهم صلةً، جيرةً أو قرباً.
إنها مصائبٌ تختلف عن الموت، ولا تتشابه مع الفقد، ولا تنسى مع الأيام، ولا تصغر مع الأحداث، إذ لا يعزي فيها أحد، ولا يسري المبتلين فيها أصدقاءٌ ولا أحباب، ولا يقف معهم جيرانٌ ولا أقارب، ولا يغفر ذنبهم محبٌ، ولا يتجاوز لهم صديقٌ، ولا يستوعبهم أبٌ، ولا يقبل بعذرهم أخٌ، ولا تدافع عنهم أختٌ ولا زوجة، ولا تصد السهامَ عنه ابنةٌ ولا ولد.
وهي مصائبٌ أكثرها مستورة، وأغلبها خفيةً مجهولة، لا يجاهر بها أصحابها، ولا يعلن عنها المصابون بها، أو الساقطون فيها، والمنزلقون إليها، ولكنها أخطر من الموت، وأسوأ بكثيرٍ من الفقد، وأعظم في جرمها، وأقبح في فعلها من كثيرٍ مما نظنه مخزياً أو جارحاً، وهي مصائبٌ كثيرة، نعجز عن تعدادها، ونحار في سردها وتوصيفها، ونعجز عن دراساتها والإحاطة بها، ولكن أمثلتها كثيرة، ونماذجها عديدة، نورد بعضها أمثلة، ونسوق غيرها نماذج وصوراً.
أهل الميت يعرفون مصيبتهم، ولكن القاتل وأهله لا يعرفون مصيرهم، ولا يدرون ما يفعلون بحالهم، كانوا يُطاردون ويُهددون، فأصبحوا مُطاردين ومُلاحقين، وهاربين ومُهجرين، ومُهددين ومطلوبين، فقد قام منهم سفيه بجريمة قتل، دونما سبب يستحق، أو فعل يبرر، فكانت النتيجة تهجير أهله، وترحيل عائلته، وتربص الثأر والانتقام، والاستعداد لقتلٍ مثله، وتوقعُ فقدٍ يشبهه، يشفي القلوب، ويرضي النفوس.
ومن أورد نفسه موارد الهلاك، فدمر نفسه، وضيع مستقبله، وهدم بيته، وهدد حياة أهله وأسرته، وأورثهم ذلاً لا ينتهي، وفاقةً لا تزول، وحاجةً لا تنقضي، وبؤساً لا يعرف حداً، وألماً لا يرجو الراحة، ومرضاً لا يتوقع منه الشفاء، وجراحاً لا تبرأ، ودماً ناعباً لا يتوقف، إذ قامر وراهن، أو استدان وهرب، أو سرق وكذب، أو أخطأ وغامر، وعبث بما ليس له، وتصرف بما لا يجوز له، فكانت العاقبة أنه أصبح كذاباً نصاباً، وترتب عليه وعلى أهله الوفاء والسداد، ورد الحقوق وأداء الأمانات.
أما من باع نفسه، وأمات ضميره، ووظف حياته، وأبى إلا أن يكون للعدو عميلاً، وله عوناً ومساعداً ودليلاً، يفضح أسرار شعبه، ويضر بمصالح أهله، ويفرط في حقوق وطنه، ويصر على أن يكون للعدو عيناً ترى وتراقب، وأذناً تتلصص، ولساناً يخابر ويبلغ، ويداً تبطش وتخرب، أو بالغَ وشاركَ، وخرج مع العدو ونفذ معه القتل، أو تبرع دونه وقام وحده بالقتل، فكان أن ورث أهله عاراً وفضيحةً، وألبسهم لباس الذل والهوان ما كتبت لهم الحياة، وما بقوا على ظهر الأرض بين الناس.
بعض هؤلاء وأولئك، مخطئٌ يعترف بخطئه، ويقر بذنبه، ويطلب الغفران ممن ظلمه، والصفح ممن ساء إليه أو أخطأ في حقه، ويعلن أمامهم توبةً نصوحةً صادقة، ويبدي تجاههم ندماً أكيداً، وتصميماً على تصويب الخطأ، وتصحيح المسار، وتحسين الحال، والاستقامة على الحق ما استطاع إليه سبيلاً.
هذا الصنف من الناس، نقف معهم ونؤازرهم، ونساعدهم ونأخذ بأيديهم، وندب عنهم المعيبين، وندافع عنهم أمام المعتدين، ونتجاوز عن اساءاتهم، وندعو الله أن يغفر لهم، وأن يكون معهم وإلى جانبهم، ونكون عوناً لهم على أنفسهم فلا يرتدوا على أعقابهم، ولا ينقلبوا على حالهم، ويعودوا إلى ماضي أخطائهم.
أما الآخرون، الذين أصموا آذانهم، وأغمضوا عيونهم، وختم الله على قلوبهم، وبقوا على غيهم سادرين، وفي جريمتهم ماضين، فإن مصيبتهم أشد من الموت، وأعظم من الفقد، ولعل خاتمتهم تكون أشد هولاً مما يتوقعون، وأكثر جزعاً مما يأملون.