الساحر والمهرج ( كسنجر)
بمن يمكن مقارنة هنري كيسنجر، الذي مات عن مئة عام، قضى معظمها في رسم استراتيجيات الحرب الباردة.
هل كان ساحراً أم مهرجاً، أم مزيجاً من الاثنين؟
الحقيقة أن المثقف اليهودي الهارب من بطش ألمانيا النازية اتخذ لنفسه وجوهاً متعددة، فبالإضافة إلى السحر الذي مارسه على أنور السادات، وتحول جزء كبير منه إلى تهريج، فإن الرجل كان سفاحاً في كمبوديا، ومجرماً في تشيلي، واستراتيجياً في العلاقة مع الصين، وبراغماتياً على إيقاع الجريمة في فيتنام. كل ذلك من أجل الدفاع عن الإمبراطورية الأمريكية وتأكيد الهيمنة الاستعمارية في كل أنحاء العالم.
طرحت السؤال بمن يمكن تشبيه الرجل، وأنا أتذكر مناخات الأسى التي رافقت زيارة أنور السادات إلى القدس. يومها خطر لي أن كيسنجر يشبه الدكتور داهش، (سليم العشي) الفلسطيني التلحمي الذي أذهل بيروت في الأربعينيات بقدراته على ممارسة السحر، إلى درجة أن رئيس الجمهورية بشارة الخوري كاد يصاب بالجنون خوفاً من هذا النبي المزعوم.
داهش كان روحانياً يحاول تأسيس دين جديد، بينما كان كيسنجر عملياً يحمل قيم الرأسمالية الأمريكية، غير أن نقطة التشابه بين هاتين الشخصيتين المختلفتين جذرياً، هي في قدرتهما على الإيحاء الكاذب. تقوم لعبة الإيحاء على تصوير الأشياء بشكل مشوّه وتجعل الناس تصدق ما ليس حقيقياً.
غير أنني أرى اليوم أن هذا التشبيه كان مبالغاً فيه، ربما تصح المقارنة حين نقرأ تفاصيل علاقة كيسنجر بالسادات وما تخللها من انبهار مصري بألاعيب وزير الخارجية الأمريكي. أما في مواقفه الأخرى، فكان ميكافيلياً وانتهازياً، ورجلاً تخلى عن كل المبادئ التي تدعي الولايات المتحدة تبنيها، وتميز بعدم التوقف أمام أي اعتبار أخلاقي بهدف الوصول إلى تحقيق أهدافه.
يكفي أن نستعيد صورة سلفادور اليندي، رئيس جمهورية التشيلي الذي جندله رصاص الانقلابيين الفاشيين. كيف ننسى دور هذا الرجل في جرائم وأد الديموقراطية في أمريكا الجنوبية. مجموعة الانقلابات العسكرية هناك كانت بسبب قرارات ساهم كيسنجر في اتخاذها.
القتل، التسويات، الخداع، كلها أدوات يمكن استخدامها، لأن السياسة الأمريكية حطمت جميع القيم والمبادئ الأخلاقية التي تدّعي أنها وجدت لحمايتها.
لا تستطيع وأنت تتأمل في تاريخ الرجل سوى أن تصاب بالإعجاب من قدراته الخارقة على التلاعب بالآخرين، بحيث صار مدرسة سياسية مكتملة العناصر. غير أن هذا الإعجاب سرعان ما يتبدد، وأنت تكتشف الهول الذي شارك في صناعته، في المشرق العربي وفي العالم.
تعرفنا في العالم العربي على كيسنجر خلال حرب تشرين-أكتوبر 1973 بدبلوماسيته المكوكية، وقدرته على المراوغة بحيث استحوذ على عقل الرئيس المصري أنور السادات ومخيلته. غير أن مساهمة الرجل في سياسات الشرق الأوسط بدأت قبل ذلك.
فبعد تعيينه مستشاراً للأمن القومي، صاغ مع إسحق رابين الذي كان يشغل منصب سفير إسرائيل في واشنطن، ما أطلق عليه اسم التفاهم النووي بين أمريكا وإسرائيل. هذا الاتفاق الذي أقره نيكسون وغولدا مائير عام 1969 شكّل أساس سياسة الغموض النووي الإسرائيلية، التي لا تزال إسرائيل تتنعم بها.
كما أن الرجل جعل من سياسة عدم الضغط على إسرائيل للانسحاب من الأراضي الفلسطينية المحتلة، أحد ثوابت السياسة الأمريكية.
الغريب أن رجلاً آتياً من هذين الإرثين، سوف يجد الترحاب في مصر بشكل خاص ويجري التعامل معه بصفته وسيطاً نزيهاً!
كيف نفسر هذه الخفة السياسية التي جعلتنا نحتار من هو المهرج، السادات أم كيسنجر؟
لا شك أن حرب تشرين-أكتوبر كانت جرعة أوكسجين لمشرق عربي دُمرت كرامته في حرب 1967، لكنها لم تكن انتصاراً كما لم تكن هزيمة. لذا كان استعجال استثمارها من قبل المصريين خطأ فادحاً، وكشف كل الثقوب في الجسد السياسي المصري.
هل تكمن المسألة في عقدة الخواجة، التي تجعل العبد يقلّد السيد بدلاً من أن يثور عليه، أم نحن أمام ثغرات ثورة 23 يوليو / تموز، التي أنتجت زعيماً شعبياً لكنها لم تنتج مبنى سياسياً ديموقراطياً؟
كان مشهد الذل غريباً، كيسنجر يتطاول على المصريين، والسادات يتمسكن أمام سيده، ثم يتجبر على شعبه، ويأخذ مصر إلى موتها.
لم يكن كيسنجر يلهو مع المصريين، بل طبق سياسة محكمة قادت إلى انتقال مصر من معسكر إلى معسكر، وإلى بداية الخراب في المشرق العربي.
سياسة الخراب التي اتبعتها وتتبعها الولايات المتحدة في بلادنا لم تبدأ مع مشروع الشرق الأوسط الجديد في زمن جورج بوش وغزو العراق، بل بدأت مع هنري كيسنجر، ومشاريعه الشيطانية التي أخرجت مصر من العالم العربي.
انحدرت مصر من لاعب إقليمي إلى ملعب للقوى الدولية والإقليمية في ظل استبداد العسكر بها، وأصيب العالم العربي بالشلل وصار عاجزاً عن خوض أي حرب.
طلاب جامعة كولومبيا في نيويورك عاقبوا كيسنجر على طريقتهم حين رفضوا استقباله كأستاذ في جامعتهم وأجبروه على مغادرتها. غير أن هذا العقاب الرمزي لا يكفي، فالعقاب على سلسلة الجرائم التي ارتكبها الرجل يكون بمحاكمته أمام قضاء دولي عادل، وهذا بعيد المنال.
في حرب تشرين- أكتوبر، راوغ كيسنجر لكنه أنقذ إسرائيل من الهزيمة عبر جسر الأسلحة الجوي الذي صنعته أمريكا لإنقاذ حليفتها.
مات الرجل لكننا نستطيع أن نرى إرثه في غزة، الألماني الهارب من النازيين شارك في دعم البؤرة الفاشية في المنطقة، وهو الآن حيث هو يطرب لأصوات المدافع ومشاهد الدمار والموت.
وسوم: العدد 1061