رسالة من زوجة شهيد

عزة مختار

[email protected]

تلك هي رسالتي الأولى إليك ، وهي الرسالة التي لن تقرأها ، كل حرف فيها نسجته من حروف كلمات كانت يوما بيننا ، كلماتك التي لن تموت ، وقد قمت بتخليدها بغرسها في أرض رابعة ورويتها بدمك الزكي أنت وإخوانك .

سكون  يلف الكون حولي رغم شدة الصخب ، أصوات مألوفة لدى لأناس هم في الحقيقة أهلي ، لكنى لست أدرى ، لم هم بقلبي غرباء كالكون من حولي ، هؤلاء كانوا أحبابنا  أنا وأنت معا لطالما استقبلناهم معا وتزاورنا فيما بيننا ، وكأنك كنت أنت الصلة بيننا ، كنت صلتي بالعالم ونافذتي عليه ، حتى في تلك الفترات التي غبت فيها مرغما عنى حين غيبوك مرات خلف غياهب القضبان ، كنت استمد منك ـ وأنت المغيب ـ القدرة على الحركة الدءوبة والعطاء الغير محدود أو مشروط ، أستمد من شموخك العظمة ، ومن ثباتك الصبر ، ومن ابتسامتك اليقين في الفرج القريب .

 أتحرك بين الجميع بقلبين وروحيين وجهدين ، استحضر في كل حركاتي وسكناتي وحتى أنفاسي أنني سأقتسم أجرها عند الله بيني وبينك ، فتلك حركة بين المساجد لك وهذه زيارة في الله لي ثم هناك مسيرة ومطاردة وغاز ورصاص تركت على الله أجرها ونذرتها في الأجر بيني وبينك .

 هناك كنا معا قضينا أياما هي عمر جديد لنا ، مسار جديد ، حياة مضافة فوق الحياة هناك حيث رابعة الأحباب  والأخوة والصفاء والصدق والصمود والثبات حيث خيرة البشر وأطهرهم ،  حيث الأرض التي عشقت خطوات السائرين عليها ، والساجدين في ربوعها لتصير بدموع ساجديها من أطهر البقع وأشرفها ، شرفت رابعة بمعتصميها ، ورويت أرضها بأقدس دماء ، كنا معا نصلى فجر يوم المجزرة الأولى  لتأتينا بعد الصلاة أنباء التقتيل في إخواننا أمام نادي الحرس الجمهوري ، شاهدت الغضب المشوب بالحزن على وجهك هممت بالرحيل بدوني فأقسمت عليك أن أكون رفيقتك إلى هناك كما تعاهدنا دوما ، فاستبقيتني  بحنوك الذي لا يعرف حدودا أن أبقى إلى جانب وحيدينا فإن رزق أحدنا الشهادة فهي للآخر ذخرا عند رب العالمين ولسوف يكون له شفيعا عنده .

بقيت وحدي داعية الله أن يحفظك ـ رغم عشقي للشهادة ـ  كنت هناك وأنا هنا المصابة المخنوقة بغاز الظالمين ، ذهبت عونا لإخوانك هناك غير عابئ بدنيا ، بينما أخذت قلبي معك يدور حيث تدور، وعدت سالما حزينا أن لم يمن عليك رب العالمين بشهادة منحة من عنده . في المسيرات لم تفارق يدانا الأخرى ،  نحمل صغيرينا ونسير كل مرة تجاه الموت  غير آبهين ،  فليأتنا وقتما يشاء طالما أننا معا ،  ثم تأتى مجزرة المنصة ثم نطارد في مسيرات من رابعة وإليها نجرى معا ، نهرب معا ، نواجه الموت معا ، نتضاحك ونفرح ونتعب ، وتلهينا شقاوة طفلين عن مشقة المسير في نهار صيام حار ، ثم نجتمع مع الأحباب على إفطار في شوارع تحتوينا وكأنها الجنان الوارفة لنكمل ليلنا قياما وركوعا نفترش أرض الخيمة وكأنها قصر منيف ، ينام الصغار تملؤهم براءة الطفولة وعزيمة الرجال وصبر المبتلين المحتسبين ، كبروا قبل الأوان ، لكنهم مستقبلنا كما اتفقنا معا ، هم غرس هذه الأمة ،  هم أملها ، عرفوا ماذا تعني الأمة ، تألموا لألمها ،  الصغير ذا الخمس سنوات يهتف بسقوط حكم العسكر ، والكبير الذي يسبقه بعامين أصبح تقييمه للكبار بقدر فهمهم لقضية

الحرية ، اهتممنا بغرسنا معا كي نلقى به الله ،  في شوارع رابعة  لم تكن  لياليها ككل الليالي  التى يعدها الناس بميزانهم المعهود ، وإنما كانت كل ليلة بسنوات في عمر تربيتهم ، مرت لياليها لتضيف لنا ذكريات لا تنسي ، ذكريات تنبني عليها ليس حياة واحدة لجيل ، بل سينبني عليها مستقبل بلادنا لأجيال متتالية .

في الليلة الأخيرة

، تعاهدنا علي الصمود معا ، بعدما تواترت الأنباء عن مجزرة غد جديدة ، كنا نحسبها كسابقاتها  ، تعاهدنا علي الصمود معا ، والثبات معا ، وألا يسبق أحدنا صاحبه إلي الجنة ، سألنا الله الشهادة معا .

جاء الغد ورحلت أنت ، رحلت وحدك ، في يوم لم تكن فيه شمس رابعة كعهدها بنا ، بل غابت بمجرد ولادتها ، غابت خلف دخان الغاز ، ودخان الحقد ، ودخان الخيانة ، غضبت رابعة ، وغرقت في أطهر دماء عرفتها الأرض في زماننا ، نعم تعاهدنا علي ألا يسبق أحدنا الأخر ، لكن  رصاصات الغدر قنصتك أنت من دوني ، بينما تسرع لإنقاذ المستشفي من حرق الشهداء بها ، لتلحق بهم  شهيدا ، شهيد يحمي شهيد ، ويحمل شهيد ، وكأنها أرواح تعتلي إحداها الأخرى صعودا إلي السماء في عليائها عند رب العالمين .

منذ الصباح وقد غابت الشمس ، علمت أن خطبا ما سوف يحدث ، فبيني وبين الشمس أحاديث لا يعلمها سوانا ، أنا وهي ، وقد صدق حديثها إلي .

غابت شمس رابعة  ورحلت نهارا مع رحيلك عنا ، تركتني والوطن وحدي ، وحين داهمتني خيوط الليل وجدتها وهي تنسج حكايات جديدة بحروف ولغات جديدة لم أكن أحسب أنني سأتقنها يوما

الوطن الذي يكابد ، وقلبي الذي يكابد  رغم ثباته وفرحته للحبيب الذي صدق فسبق .

حتى النهار كان يكابد كي تبقي شمسه الغائبة قليلا ببعض ضوء باهت لها ، باك مع الأرض الباكية دما ، كي يلملم المرهقين جراحهم النازفة ألما ووجعا ، لكن خيوط الليل سرعان ما  تتغلب عليه ليعلن  نهاية نهار حياتي فيمتد العمر ليلا طويلا .

تركتني والصغار وحدي ، مع الأقارب الغرباء عني ، فقد صرت نصفا ، نصفا سبقها نصفها الأخر إلي حيث اتفقا .

تري ، هل تذكرنا هناك حيث الخلود مثلما نذكرك هنا منذ اليوم الأخير في رابعة الخير ، مثلما تذوب نفسي لهناك مع شمس الغروب منذ صباح اليوم الأخير فيها .

غامت الدنيا ولم تشرق منذ تلك اللحظة لتصير الحياة بعدك فراغا .

صرت وولدي نترقب لحظة العودة التي أعلمها مستحيلة ، نترقب الخطوات التي نسمعها في آذاننا وحدنا  

آثار خطواتك في الشارع لا تمحوها كثرة الخطي ، وصوتك القادم من بعيد ما زال في الآذان يهتف بي خذي الولدين واذهبي إلي داخل الميدان مع الأخوات حتي أعود ، كنت أعلم أنك لن تعود ، قلت لي والله إني لأشم رائحة الجنة ، كانت خطواتك تتسع كلما اقتربت من مكان المستشفي حاملا جثة شهيد فوق كتفك المنهك من كثرة من حملتهم .

نقر أصابعك علي باب بيتنا ما زال يجذب أسماع ولدينا فيهرعون إلي فتحه ظنا منهم أنك قادم من الجنة كي تأخذنا معك .

تلك رسالتي إليك أعاهدك فيها رغم الفراغ الذي خلفته لنا ، أن لا أترك الطريق الذي تعاهدنا علي السير به ، فغرسك لم يكن غرسا عاديا ، إنما كان غرسا مباركا رويته بالعزيز الذي لن يضيع أبدا عند الله سدي .

طريقنا سأكمله رغم مرارة الألم ولو كنت وحدي ، فالحرية التي رويتها بالدم تستحق ، وديننا الذي أعليت رايته دونه الرقاب . . . فكن قرير العين ونحن من خلفك في طريقنا الموحش سائرون .