المهاجرون السوريون في ذكرى الهجرة
د. محمود نديم نحاس
نشرت صفحة إحصائيات الثورة السورية أرقاماً مخيفة عن المجتمع السوري، إذ بلغ عدد النازحين في الداخل السوري خمسة ملايين وسبعمائة ألف، فيما بلغ عدد المهجرين إلى الخارج أكثر من مليونين وستمائة ألف، وعدد المعتقلين قريباً من ربع مليون، وعدد المفقودين قريباً من تسعين ألفاً، وعدد الجرحى قريباً من مائة وثلاثة وأربعين ألفاً، وعدد الشهداء المعروفة أسماؤهم قريباً من مائة ألف، وعدد المفقودين قريباً من تسعين ألفاً. وبحسبة بسيطة فإن هذه الأرقام تعني أنه منذ بداية الثورة إلى الآن يُقتل مواطن كل ربع ساعة، بينما يُجرح آخر كل عشر دقائق، ويُعتقل ثالث كل أربع دقائق، ويهاجر بيته كل يوم 2758 مواطناً. أما الأطفال فقد قُتل منهم أكثر من ثمانية آلاف، أي بمعدل طفل كل ثلاث ساعات.
الأرقام كلها مرعبة، وإذا جُمعت أعداد النازحين والمهجرين فإنها تعني أكثر من ثلث السكان! والعدد في ازدياد، إذ تشير بعض التقديرات إلى أنه سيبلغ نصف السكان في نهاية العام.
وتطل علينا ذكرى الهجرة النبوية ونحن نطالع هذه الأرقام المخيفة من المهجرين، فلابد أن يأتي في الذهن بعض من دروس تلك الهجرة. وربما يستطيع الإنسان أن يدبج الخطب والمقالات في نصح هؤلاء الناس وإعطائهم دروساً في الصبر من خلال الدروس المستقاة من الهجرة النبوية، لكن الفرق كبير بين الذين خرجوا من مكة طوعاً بعد أن ضاق عليهم الأمر فيها، فهاجروا أولاً إلى الحبشة حيث ندبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها، إذ فيها ملك لا يُظلم عنده أحد، وعاشوا فيها معززين مكرمين، ثم إنهم هاجروا إلى المدينة المنورة، بعد أن فتح الله قلوب أهلها، فاستقبلوهم، وأكرموا وفادتهم، وقال قائلهم لأخيه المهاجر: هذا شطر مالي! فردّ عليه المهاجر: بارك الله لك في أهلك ومالك، ولكن دلني على السوق... نعم إن الفرق كبير، فالمهاجرون السوريون اليوم يهربون من القصف الذي يدمّر بيوتهم فوق رؤوسهم، فيخرجون وهم لا يعرفون وجهتهم، فالنازحون في الداخل لم يستقبلهم أحد، بل سكنوا المدارس، والحدائق والشوارع، أما الذين هربوا إلى دول الجوار، فتختلف معاناتهم من بلد إلى آخر.
صحيح أن الهجرة سلوك إنساني قديم ومستمر، إذ لولاها لما انتشر بنو آدم في أصقاع الأرض، بحثاً عن الكلأ، واستكشافاً للمجهول، وصحيح أن الهجرة في سبيل الله باقية، كما ورد في الحديث (لا تنقطعُ الهجرةُ حتَّى تنقطعَ التَّوبةُ، ولا تنقطعُ التَّوبةُ حتَّى تطلعَ الشَّمسُ من مغربِها)، لكن الهجرة من القصف والقتل والترويع والتجويع تختلف عن أي هجرة. نعم إنهم هم الذين نادوا (ما لنا غيرك يا الله) لكن أوضاعهم في مخيماتهم تحتاج للدعاة ليذكروهم أن النصر مع الصبر (حَتَّىٰ إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ، وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ)، فلا يسيطر عليهم اليأس والإحباط، ولينالوا ثواب الهجرة بحسن النية. لكن عمل الدعاة هذا لا يكفي إلا إذا شعر المهاجرون بتعاطف إخوانهم معهم (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)، فهم إضافة للكلام الطيب والبسمة المشرقة بحاجة أيضاً ليد حانية تساعدهم على العيش ولو عيش الكفاف.