وقفة مع درس حسني من إلقاء العلامة التونسي السيد محمد الفاضل بن عاشور
وقفة مع درس حسني من إلقاء العلامة التونسي السيد محمد الفاضل بن عاشور سنة 1966 في حضرة المغفور له الحسن الثاني
بداية نشير إلى أن العلامة السيد محمد الفاضل بن عاشور هو نجل العلامة السيد محمد الطاهر بن عاشور ، وهو عالم عقيدة تونسي من أسرة أصولها أندلسية ،من الشرفاء الأدارسة ، وكان مفتي تونس ،توفي رحمه الله تعالى سنة 1970 .
وهذه وقفة مع هذا الدرس باختصار شديد مع التركيز على أهم ما جاء فيه تلخيصا .
منطلق هذا الدرس كان من قول الله عز وجل : (( إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم ... )) الآية 111 من التوبة ،أشار المحاضر في بدايته إلى إبراز الله تعالى الحقيقة الإنسانية بطريقة بديعة حيث أخبر بحقيقة الإنسان المركبة من طبيعتين مزدوجتين متنافرتين تتركب الواحدة من الأخرى ، الأولى شخصية فردية جسمانية ، والثانية شخصية مدنية اجتماعية .
أما الشخصية الفردية فقوامها شعور بالذات ، بينما الشخصية المدنية قوامها شعور بالنوع البشري أو بالكيان الاجتماعي .وقد دفع الله تعالى التنافر بينهما دفعا، لا يكون برفع إحداهما، بل بتهذيب الغريزة البشرية، وجعل المعرفة هي وسيلة هذا التهذيب مصداقا لقول الله تعالى : (( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا )) ، حيث يشعر الخلق بالاجتماع . و قد جعل الله تعالى الخالقية هي المروضة للطبيعتين الفردية والمدنية من خلال التقوى كوازع للبشر كي لا تعدو الذات على الجماعة مع توجيه الناس إلى قوله تعالى : (( وتعاونوا على البر والتقوى )) . و لقد وجه سبحانه الفرد عن طريق أحكام شرعية إلى كيفية التعامل مع نفسه ، ومع خالقه ، ومع غيره ، ومع الكون كله ، وجعل لتربيته الاجتماعية أحكامها الشرعية الضابطة .
وعلى هذا الأساس أقيم المجتمع المسلم أو الأمة المسلمة من خلال التئام صفتين: صفة تأسيسية، وهي إنسانية قوامها المساواة دون تمييز أو عنصرية ،وصفة تكوينية،وهي إيمانية قوامها اطمئنان يقود إلى انقياد اختياري من أجل التعاون ، ومد اليد إلى الغير . وهذه هي الحقيقة الإنسانية المنضبطة بعبادات، وعادات ،ومعاملات، والتي تجعل الأمة المسلمة خير أمة أخرجت للناس، وقد هيأ لها الله تعالى وسائل المحافظة على كيانها ، وجعل لها حماة لها ، يحافظون عليها حتى لا تضمحل ، بحيث تفنى الشخصية الفردية في الشخصية الاجتماعية ، ومن هنا شرع الله تعالى الجهاد وجعل له أحكاما ، وقد جاءت الإشادة بمقامه العالي بأدلة من الذكر الحكيم ، ومن سنة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم.
والجهاد من وجهة نظر المحاضر ناشيء من الحقيقة الانسانية أي الطبيعة الفردية، والطبيعة المدنية أو الاجتماعية للإنسان المسلم الذي تنقاد نفسه للجهاد ، والانضباط لأحكامه ، لهذا يسمى شهيدا بسبب يقينه الذي يساوي شهادة واقعية مصداقا لقوله تعالى : (( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء ...)) الآية 169 من سورة آل عمران .
وذكر المحاضر من أدلة السنة النبوية الشريفة على شرف الجهاد أربعة أحاديث مما جاء في الجامع الصحيح للإمام البخاري في باب فضل الجهاد والسيّر "جمع سيرة " ،وقد انطلق فيه من قول الله تعالى : (( إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ... الآية ))
أما الحديث الأول فهو : " حديث عبد الله بن مسعود الذي سأل النبي صلى لله عليه وسلم عن أي العمل أحب إلى الله عز وجل؟ فقال له : " الصلاة على وقتها ، قال ثم أي ؟ قال: ثم بر الوالدين ، قال: ثم أي ؟ قال الجهاد في سبيل الله "
وأما الحديث الثاني فهو : حديث عبد الله بن عباس الذي قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الهجرة ، فقال : " لا هجرة بعد الفتح ، ولكن جهاد ونية ، وإذا استنفرتم فانفروا "
وأما الحديث الثالث فهو : حديث عائشة رضي الله عنها قالت : قلت : يا رسول الله على النساء جهاد ؟ قال : " نعم عليهن جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة "
وأما الحديث الرابع : حديث أبي هريرة قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : دلّني على عمل يعدل الجهاد ، قال : " لا أجده ، قال : هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تدخل مسجدك ، فتقوم ولا تفتر ، وتصوم ولا تفطر ؟ قال : ومن يستطيع ذلك ؟ " قال أبو هريرة: " إن فرس المجاهد ليستنّ في طُوله ، فيكتب له حسنات " .
فهذه الأحاديث الأربعة تؤكد مقام الجهاد في سبيل الله من أجل أن تتحقق الحقيقة الإنسانية التي تتناغم فيها الشخصية الفردية ، مع الشخصية المدنية للمسلم .
وذكر المحاضر أن الله تعالى شرع فريضة الجهاد لحماية دعوة الإسلام . ووقف عند الصيغة الصرفية لكلمة جهاد وهي " فعال " الدالة على دفع جهد بجده حماية لعقيدة وشريعة الله عز وجل ، وهذا معنى أن تكون كلمة الله هي العليا ، كما وقف عن عبارة في سبيل الله ، وهو السلوك الذي تسير عليه الأمة المسلمة أفرادا وجماعات .
ويعود المحاضر إلى الآية الكريمة (( إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ... الآية )) ليبرز أن فريضة الجهاد عبارة عن تعاقد بين الله عز وجل وبين عباده المؤمنين . ومن أجل إدراك كنه هذه الآية الكريمة ، ذكر محمد الفاضل بن عاشورأنه لا بد من النظر إلى سياق ما قبلها ، و سياق ما بعدها ،لأن معاني سور القرآن الكريم يستعان بها على فهم معاني آياتها .
والسورة المعنية هي سورة براءة ، وهي آخر ما نزل من القرآن الكريم بين يدي غزوة تبوك . ووقف المحاضرعند دلالة خلوها من البسملة ، وذكر اختلاف المفسرين بين قائل إن ذلك أمر توقيفي ، وبين قائل إن هذه السورة سورة عذاب، لهذا خلت من البسملة الدالة على الرحمة، وقد ورد فيها كلام عن المنافقين الملحقين بالكافرين . وقد ميز الله تعالى فيها بين الناس مشرك أو كافر لم يقبل دعوة الإسلام ، ومنافق يتظاهر بقبولها ، ولكنه لا يستقرعلى ذلك ، و مؤمن تقبّلها على بصيرة .وذكر أن ما يمنع الناس عن قبول هذه الدعوة هي موانع وحواجز ، يكون سببها سوء الاعتقاد ، كما ذكر أن الإيمان من الفطرة ويكون عند زوال تلك الموانع والحواجز . وذكر أن المنهج المعتمد لتحقق الإيمان، هو تساوي الوجود الحسي والوجود الغيبي عند الإنسان المؤمن ، وأشار إلى أن ما يدرك بالعقل، يكون أقوى دليلا على ما يدرك بالحس ، ذلك أنه باليقين الغيبي يتساوى الحسي مع العقلي ، ويتوقف السلوك البشري على ذلك، حيث يكون سلوك المؤمن، وهو سلوك هدى عن يقين، بينما يكون سلوك المشرك أو الكافر ضلالا ، ينتج عن شك وارتياب.
وعاد المحاضر إلى فريضة الجهاد باعتبارها عقد شراء قوامه طرفان : الأول الله عز وجل ، والثاني المجاهدون ، وهو عقد التزام قوامه الحق المقابل للواجب ،وهما عبارة عن عوضين: الجنة ، مقابل النفس والمال ، وذكر أن هذا يشبه عقد البيعة بين الرعية والراعي .
ووقف العلامة عند اختلاف القراءة في قوله تعالى يصف المجاهدين في سبيله : (( فيًقتلون ويُقتلون ))، والأشهر هو تقديم قراءة الفعل المبني للفاعل على قراءة تقديم الفعل المبني للمفعول ، لكنه ركز على أن الدلالة تبقى واحدة، ذلك أن الله عز وجل يكتب القتل على فئة من المؤمنين ، ويبقى فئة أخرى كي تواصل الجهاد للغاية التي أرادها سبحانه وتعالى .
وانتقل المحاضر بعد ذلك إلى الوقوف على مؤكدات هذا العهد أو العقد بين المولى سبحانه وتعالى، وبين المؤمنين المجاهدين بالأنفس والأموال من خلال قوله تعالى ذكرا لأجر المجاهدين في سبيله : ((... وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم )) ، ذلك أن المؤكد الأول هو المفعول المطلق " وعدًا " ، ثم الوصف " حقًّا " ، ثم المجال الشريف " التوراة والإنجيل والقرآن " ، ثم الاستفهام الإنكاري " ومن أوفى بعهده من الله " ، ثم الاستبشار " فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به " .
وانتقل بعد ذلك المحاضر إلى الأوصاف التي وصف بها الله عز وجل المجاهدين في سبيله تعقيبا على صفة البيع وهو قوله تعالى : (( التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين ))، وصنفها المحاضر إلى أصول نفسية هي: الإرادة التي تعبر عنها التوبة ، والإخلاص الذي تعبرعنه العبادة ، والرضى الإيماني الذي يعبر عنه الحمد ، وإلى مظاهرعملية هي : الصوم الذي تعبر عنه السياحة ، والصلاة التي يعبرعنها الركوع والسجود ، والتواصي بالحق والتواصي بالصبر الذي يعبرعنهما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،والثبات على الطاعة والدوام عليها، وهي صفة جامعة ، والتي يعبر عنها حفظ حدود الله ، وهذه تزكية لمن توفرت فيهم الصفات السابقة . ووقف المحاضرعند تذييل قوله تعالى : (( وبشّر المؤمنين )) ، وهي بشارة لمن يُبشّرون بها ، ولمن يُبشّرون بها ـ بفتح الشين وبكسرها ـ وهم أصحاب النفوس المطمئنة التي قال عنها الله عز وجل : (( يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي )) . انتهت تغطية المحاضرة بإيجاز واختصار شديدين مع تصرف في عباراتها .
تنويه :
وأود في الأخير التعبير عن أمنية ، وهي أن يجلس العلماء اليوم إلى ولاة الأمور ، ويحاضرون بين أيديهم بمثل هذه المحاضرة الشيقة والبانية خصوصا في هذا الظرف بالذات ، والحرب مستعرة في غزة بين ملة الكفر وملة الإيمان ، وفي زمن صار الجهاد يعتبر إرهابا بالنسبة للكافرين والمشركين والمنافقين ، مع أنه به تتحقق الطبيعة المزدوجة للإنسان : الطبيعة الشخصية الفردية الجسمانية ، والطبيعة الشخصية المدنية الاجتماعية ، وهما قوام حياة أراداها الله عز وجل لعباده المؤمنين كما بين ذلك العلامة رحمه الله تعالى ، وجزاه الله خير الجزاء عن الإسلام والمسلمين ، وطيّب الله ثرى من استدعاه لإلقاء هذه المحاضرة القيمة.
وسوم: العدد 1073