الإعلان عن مداخيل الجعة: أهي الشفافية أم هي المجاهرة بالمعصية؟

الحسن جرودي

يقول عز من قائل في سورة الشمس:﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾، مما يُفهم معه حسب بعض التفاسير، أن الله جل جلاله خلق النفس وألهمها نوازع الفجور ونوازع التقوى، وترك للإنسان حرية التفاعل معها، إما بالسعي إلى تحصيل التزكية أو إلى حيازة التدسية، مما تثبت معه مسؤوليته في حالتي الفلاح أو الخيبة. ومما لا شك فيه أن الإنسان-ما عدا المعصومين من الأنبياء والرسل-وهو يسعى إلى التزكية تعترضه مجموعة من الفتن، مصداقا لقوله تعالى في الآية 2 من سورة العنكبوت﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ﴾ليصبح الوقوع في الخطأ أمرا حتميا لم ولن يُستثن منه أحد، مصداقا لقوله صلى الله عليه وسلم " كل بني آدم خطَّاء، وخير الخطَّائين التَّوابون". وما دام الأمر كذلك، فلا بد من التمييز بين المخطئ الذي يقع في الخطأ بغير قصد، بسبب النسيان أو الجهل، أو الذي يتعمد الخطأ مع التزامه بالستر، وبين المجاهر الذي يرتكب الإثم علانية، ويقع في المعصية جهارا، أمام أعين الناس وأنظارهم، بدون حياء ولا خجل. وإذا كانت التوبة وسيلة للتعافي من آثار الخطأ المعني بالحديث السابق، فإن المجاهرة بالمعصية موجبةٌ لعدم التعافي من تداعياتها، مصداقا لقوله صلى الله عليه وسلم: "كُلُّ أُمَّتي مُعافًى إلَّا المُجاهِرِينَ، وإنَّ مِنَ المُجاهَرَةِ أنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ باللَّيْلِ عَمَلًا، ثُمَّ يُصْبِحَ وقدْ سَتَرَهُ اللَّهُ عليه، فَيَقُولَ: يا فُلانُ، عَمِلْتُ البارِحَةَ كَذا وكَذا، وقدْ باتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ، ويُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عنْه".

ومن المعلوم أن المجتمعات الإنسانية لم تخلُ ولن تخلوَ يوما من الفاحشة، غير أنها تتفاوت في نسبة المتعاطين لها وكيفية ممارستها. فإذا كان الستر والسرية هما المُعتمدان في اقترافها إلى عهد قريب، إما حياء وإما خوفا من العقاب الذي يطال المجاهرين، فإن المتتبع لما يجري في بلدنا، وفي معظم البلاد المحسوب أهلها على الإسلام، يلاحِظ إصرار جهات معينة على تخطي اعتبار المجاهرة بالمعصية فعلا يُجرمه القانون، إلى اعتبارها حقا من حقوق الإنسان الأساسية، التي لا يمكن بحال من الأحوال تجريمها أو حتى معارضتها، وتأتي على رأس هذه الجهات تلك التي تدرج نفسها ضمن ما يطلق عليه "جمعيات المجتمع المدني" من جمعيات نسوية، وحقوقية، بالإضافة جهات رسمية، من قبيل وزيري العدل والثقافة، والمجلس الوطني لحقوق الإنسان...فنجد أن هؤلاء يشجعون على الجهر بالفاحشة تحت مسمى الفن، وأولئك يدافعون عن الإفطار العلني في رمضان، وآخرون يدافعون عن الجهر بالزنا واللواط والسحاق تحت مسميات "حداثية"...

وعملا على الظفر ب "حق المجاهرة "، تلجأ هذه الجهات إلى وسائل الإعلام والتواصل بمختلف أنواعها المكتوبة والمسموعة والمرئية، كمطية للترويج له تحت ذرائع ومسوغات مختلفة، من قبيل حرية التعبير، والحرية الفردية، والشفافية، وحق المواطن في المعلومة... ولنا في المقال الذي نشرته جريدة هسبريس الإلكترونية بتاريخ 3 مارس 2024 تحت عنوان "ميزانية المغرب تجني 13 مليار درهم من ضرائب التبغ والجعة في 2022"، مثال حي على مساهمته في الإشهار لعملية التطبيع مع المجاهرة، ذلك أنه على الرغم من أنه تناول مداخيل ميزانية الدولة من مختلف الضرائب، فإن حرص كاتبه على تخصيص عنوانه وفقرته الأولى لمداخيل الضريبة على التبغ والجعة، يُعتبر مؤشرا قويا على أن الهدف الأساسي منه ليست الأرقام المتعلقة بهذه المداخيل، بقدر ما هو حثٌّ على التطبيع مع استهلاك الجعة، بذريعة كونها موردا أساسيا من موارد ميزانية الدولة، وجدير بالذكر بأنه سبق لنفس الجريدة أن نشرت مقالات في نفس السياق أذكر منها:

مقالا بتاريخ 2 غشت 2023 تحت عنوان: "ضرائب الجعة والكحول تُدر 867 مليون درهم في خزينة الدولة خلال 6 أشهر"، من بين ورد فيه ما يلي:

ومقالا بتاريخ 28 شتنبر 2022 تحت عنوان: "حماية المستهلك تدعو للاستثمار في صناعة "الماحيا" لتجنب فاجعة القصر الكبير" جاء فيه على سبيل المثال لا الحصر ما نُسب إلى رئيس الجامعة المغربية لحماية المستهلك ومنه قوله:

مما يدل بالملموس على وجود خيط ناظم لهذا النوع من المقالات، وباقي المواد الإعلامية التي لها نفس التوجه المتمثل في العمل على ترسيخ ما مفاده أن استهلاك المغاربة للخمور أمر واقع لا مفر منه، وأن التعامل معه ضرورة لا محيد عنها، لتصبح المجاهرة بِشُربها في النهاية أمرا عاديا ومستساغا.

وفي هذا الصدد أقول للمسؤولين عن هذا النوع من الإعلام: إذا كنتم تجتهدون في إيهام المغاربة بأن هذا الصنف من الخطاب الإعلامي يدخل في إطار الشفافية، وحق المواطن في المعلومة، فلماذا لا تطال هذه الشفافية حق المواطن في تزويده بالأرقام التي تبين له حقيقة ما آل إليه الوضع المجتمعي في البلدان التي عانت من ويلات ما أنتم بصدد الدعوة إلى إشاعته؟ ولماذا لا تطال الإفصاح الصريح عن موقفكم من الإسلام؟ عوض اللعب على الحبلين كما يقال، خاصة وأنتم تعلمون أن ذلك لا يستقيم لا مع العقل، ولا مع النص القرآني المحكم كما ورد في الآية 36 من سورة الأحزاب:﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا ﴾. مما يدل دلالة قاطعة على أن المؤمن لا يمكن أن يستدرك على الله، وإلا فكل ادعاء بالانتماء للإسلام أو للإيمان ادعاء باطل.

وانطلاقا من النصوص القرآنية والحديثية الكثيرة والصريحة، الواردة في تحريم الموبقات التي تدعون إليها وعلى رأسها الخمر، والتي أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر، قول الله جل جلاله في الآيتين 90 و91 من سورة المائدة: ﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91)﴾ وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ابن عمر: " لَعَنَ اللَّهُ الْخَمْرَ وَشَارِبَهَا وَسَاقِيَهَا وَبَائِعَهَا وَمُبْتَاعَهَا وَعَاصِرَهَا وَمُعْتَصِرَهَا وَحَامِلَهَا وَالْمَحْمُولَةَ إِلَيْهِ"، يتضح أن المقالات المشار إليها أعلاه إن لم تكن مجاهرة في حد ذاتها بالمعنى الشرعي، فإنها تروج للمجاهرة بشرب الخمر وما يتلوها من موبقات.

ختاما أُذَكِّر المُروِّجين للمجاهرة بالمعصية، خاصة أولئك الذين يصرون على إعلان انتماءهم للإسلام، وهم لا يرجون لله وقارا، بالآية 19 من سورة النور حيث يقول جل جلاله: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾، وبقول عز من قائل في الآيتين 78 و79 من سورة المائدة: ﴿ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) ﴾   صدق الله العظيم.

وسوم: العدد 1073