صبرا أطفالَ سورية الحبيبة
بن العربي غرابي، ميسور، المغرب
مروة، ابنتي الصغرى، تكاد تطفئ شمعتها الثالثة، ناحلة كقصب الكتابة لكنها كثيرة الريق و خصيبة مرعى الكلام، مشغولة بماضيها الطارف، تكرر مشاهده دون تبرم وكلل، ودائمة التعليق على ما تدهمه ويدهمها من وقائع رتيبة، لا تنشغل بالطموحات وما هو آت إلا إذا كان متعلقا بطعام محلى أو كسوة أو كسرة من لعبٍ مع زميلها وجارها الصغير "العربي" الذي يحاول جاهدا برجولته الواعدة أن يستدرجها ويقودها ويفرض عليها أسلوبه، ولكنه ينهار أمام شخصيتها السريالية المراوغة والمتهورة والكثيرة الحركة.
وأنا أحملها على كتفي ذات منتصف نهار معتدل، باتجاه النهر المجاور لقراءة أمواجه وإلقاء التحية على شجيراته التي تتشبث بالبقاء على ضفتيه، سمعنا أصوات رصاص ليس ببعيد عن مسامعنا، يسكت لفترة ثم يتجمع لينطلق بقوة على شكل زخات عاصفية تسك الآذان وتكاد تخترق طبلاتها. لم تبك طبعا، لكنها شعرت بالخوف والتوتر فظهرا على محياها وقسماتها على شكل تموجات على جبينها الصغير، وضممتُها إلي بقوة إلى صدري حيث تستشعر الأمان والسعادة والطمأنينة والحماية. ظننتُ لأول وهلة أن الرصاص مصدرُه تداريب عسكرية في ثكنة محاذية للمدينة، لكنني أدركت للتو أن ذلك الرصاص ينبعث من مهرجان قريب جدا من حينا حيث البارود والأهازيج الشعبية وركوب الخيل والاستقرار.
يا عجبا، كيف لصوت البارود الذي دجنته الأسماع في أجواء احتفالية مفعمة بالحياة والمرح والامتلاء أن يخيف الأطفال ويقض مضاجعهم ويمنعهم من اللعب أمام أعتاب بيوتهم ولم يروا من قبلُ دماءً ولا قتالا ولا نعوشا ولا جثثا ولم يتعودوا أبدا علة متابعة مشاهد الإبادة الجماعية وأنهار الدماء وصفوف جثث الأطفال المسجاة والمغطاة بأزر بيضاء عليها خرائط حمراء من دماء متخثرة....؟
ثم قفزت مخيلتي سريعا إلى أطفال سورة الحبيبة الذين يحبون الرقص أسوة بأجدادهم ومطارحة الفنون ومنادمة ومعاقرة الحياة التي ورثوها كابرا عن كابر، هاهم اليوم – أطفال سورية – إذا فتحوا شبابيك غرفهم صباحا لاستقبال النسيم رأوا دبابات تسعى وعلى خراطيمها القذرة شبقُ القتل، ورأوا الحدائق محطمة والنصُبَ التي تقاسمت الحياة مع السكان مائلة أو متطايرة الأشلاء، ورأوا الجدران كيف اخترقها الرصاص المجنون الآبق وعبثَ بطلائها الشرقي الجميل، ورأوا آثار الندوب والنحيب على الأبواب والنوافذ والطرقات.
لا يسمع الطفل السوري قبل النوم حكاياتِ العجائز عن الشباب الذين يغامرون ويصبرون ويتزوجون بحبيباتهم بنات السلاطين في النهاية فيتضخم الطموح ويتسع الحلم ، ولا حكايات الجدات والأمهات عن صراع الخير والشر واندحار الشر أمام تماسك الخير وفطريته وثباته. أطفال سورية لا يستدرجهم الكبار إلى النوم بالحكايات ، بل يوقظهم نعيب القذائف منذ الإغماضة الأولى فيرحل النوم بعيدا عن أجفانهم المقروحة.
لكَم أسعد عندما تستغرق مروة ابنتي في النوم العميق ، وكثيرا ما أوظب أفرشتها وأغطيتها وهي نائمة دون أن تشعر بي، ولكنني لا أملك قدرة على التربيت على رؤوس الأطفال السوريين ولا ترتيب أفرشتهم. والغريب أن الكثير من الكبار في هاته الأرض التي نَدين بأمومتها ينشغلون بتنظيف البنادق واحتضان الهاون على تهدئة الأطفال وتأمينهم. ولا أملك إلا أن أقول: متى يحتكم الكبار في سوريا إلى نداء العقل والحوار ليستردوا النوم الذي هجر عيون الأطفال السوريين الأبرياء؟؟؟؟؟؟؟؟.