عواقب تعطيل الأمة المسلمة فريضة التداعي

قد يستغرب البعض إن لم تكن كثرة منهم هذه الإضافة اللغوية  الواردة  في عنوان هذا المقال ، وهي : " فريضة التداعي "  بسبب وإبهام  المضاف إليه فيها  ، لكن سرعان ما يزول  هذا الاستغراب إذا ما تمت الإحالة على الحديث  النبوي الشريف الذي رواه الإمام مسلم رحمه الله عن النعمان بن بشير رضي الله عنه الذي قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

" مثل المؤمنين في توادهم ، وتراحمهم ، وتعاطفهم مثل الجسد ، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ".

ومعلوم أن لفظة تداعي في اللسان العربي لها دلالات عدة  : منها أن يدعو الناس بعضهم بعضا للاجتماع لسبب ما  ، ومنها أن يتجمع الناس على أحد بالخصومة ، ومنها  أن يتنادى الناس بشيء ما  ، ومنها  أن يدعو الناس بعضهم بألقاب ، ومنها أن يتحلق الأكلة حول قصعة طعام ، ومنها  أن يدّعي الناس بعض الخصال افتخارا ومباهاة  فيما بينهم ، ومنها الدلالة على الضعف، والهزال ، ومنها الدلالة على  البلى ، والتصدع ، ومنها الدلالة على التوارد  كتوارد الأفكار، ومنها  التأثر، وهذه الدلالة  الأخيرة هي المقصودة  في الحديث الشريف، حيث تتأثر ألما أعضاء الجسد الواحد إذا اعتل أحدها . وهذا الحديث الشريف آية في البلاغة  والبيان ،إذ يُقرّب  من الأذهان طبيعة علاقة التواد والتراحم والتعاطف بين المؤمنين، وذلك عن طريق تشبيه جماعتهم بالجسد الواحد الذي يصاب عضو منه ، فيعم جميع أعضائه الحمى ، والسهر ، وهذه الحال المحسوسة يمر بها كل مريض  حين يعتل عضو من أعضاء جسده .

وهذا التشبيه ، وهو تشبيه تمثيل يتضمن أمرا نبويا أمرالله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم  بتبليغه لعباده المؤمنين ، علما بأنه وارد في القرآن الكريم  أيضا حيث جعل الله تعالى العلاقة بين المؤمنين علاقة أخوة حصرا وقصرا بقوله : (( إنما المؤمنون إخوة )) ،الشيء  الذي يفرض عليهم التواد والتراحم والتعاطف فيما بينهم  ، ويكون ذلك مفروضا عليهم أو فريضة يجب عليهم القيام بها.

وإذا كان الجسد البشري حين يعتل عضو منه أو بعض أعضائه ، تعمه الحمى والسهر ، فإن المؤمنين إذا اشتكى منهم فرد أو جماعة من مصاب  يصاب به ، يتعين على جماعتهم  أن تتأثر بالمصاب أيضا ، وذلك تحقيقا لواجب الأخوة الإسلامية التي أوجبها وفرضها الله عز وجل .

وما يحدث اليوم في فلسطين عموما ، وفي قطاع غزة خصوصا ، حيث تشكو جماعة المؤمنين هناك من عدوان شرس يمارسه  عليها العدو الصهيوني المحتل ، والذي بلغت شراسته حد ارتكاب جرائم  حرب إبادة جماعية فظيعة ، يشكو منها  ضعفاؤهم أطفالا ونساء ، وشيوخا ، وهم يوجهون النداء تلو الآخر إلى كل المؤمنين في المعمور بالصوت والصورة كل يوم دون أن يؤدي الكثير من المؤمنين فريضة التداعي التي هي في حكم الواجب المسؤول عنه  بين يدي الله عز وجل يوم القيامة .

والكثرة الكاثرة من المحسوبين على الإسلام والإيمان ، لا تداعي لهم بخصوص ما يعانيه إخوانهم في أرض الإسراء والمعراج ، والأدهى من ذلك أن تنصرف هذه الكثرة إلى كل أنواع اللهو ،والفرجة الفنية والرياضة  وغيرها من مشاغل حياتهم  اليومية وبإدمان ، وتنصرف انصرافا كليا عما يحدث للشعب الفلسطيني من معاناة يشيب لها الولدان . وقد تبخل هذه الكثرة الغثائية بمجرد وقفة تضامن معه . والمؤسف أن تخرج في البلاد غير المسلمة الملايين المتداعية تداعي الألم والحسرة على الضحايا  المؤمنين الفلسطينيين الأبرياء  المحاصرين ، والمجوعين، وهم يقصفون بالطيران الحربي  الشرس في مخيمات ، ومدارس ، ومشاف ، وتحت خيام يحرقون فيها ، وفي عراء ليس فيه ما يحتمون به  من الهلاك ، بينما تنشغل الكثرة الغافلة من المؤمنين بمشاغلها اليومية ، وبكل أنواع اللهو والعبث دون أن تفكر في مجرد الحذو حذو تلك الشعوب الواعية التي تسيّر يوميا المسيرات المليونية في كل العواصم العالمية ، وهي تمارس كل أنواع الضغط على حكوماتها كي تتحرك لوقف جرائم الإبادة الجماعية المستمرة لما يزيد عن ثمانية شهو متتالية ، وهي متواصلة ليل نهار، و بلا هوادة على مرأى ومسمع العالم الذي تقف بعض دوله العظمى إلى جانب المحتل الصهيوني، وهي تمده بأسلحة الدمار الشامل ، وتدافع عنه في المحافل الدولية  كمجلس الأمن ، بل تهدد وتدين  الهيئات القضائية  الدولية كمحكمة العدل، ومحكمة الجنايات اللتين أدانتا جرائم هذا المحتل العنصري الهمجي .

والذي يجب التنبيه إليه هو غفلة أو تغافل الكثرة الكاثرة من المحسوبين على الإيمان والإسلام ـ يا حسرتاه ـ عن أداء فريضة التداعي الواجبة شرعا ، والموجبة للنصرة بكل الأساليب والأشكال  على الأقل اقتداء بجل شعوب المعمور الحية ضمائرها، والتي لا تهدأ شوارعها بالمسيرات المليونية شبه اليومية دون كلل ، بينما  تخرج القلة القليلة  في بلاد المسلمين ، بل قد لا تخرج أصلا في بعض البلاد التي  تمنع فيها المسيرات والتجمعات والمظاهرات تأييدا للعدو الصهيوني .

 ومن عواقب تعطيل فريضة التداعي أو النصرة بكل الأشكال والأساليب المتاحة ، والتي توجب بذل كل ما في الوسع والجهد أن يَذل المعطلون لها ، ويزدريهم عدوهم ، ويهون عليه شأنهم ، وقد يجعلهم هدفا قادما إن تحقق له ما يحلم به في أرض الإسراء والمعراج ـ  لا قدر الله ـ  ، فينقل آلته الحربية إلى كل شبر من بلاد الإسلام تعطلت فيها فريضة التداعي والنصرة ، وأقل ما يفعله بهذه البلاد أن يسوم أهلها الخسف ، ويستحوذ على خيراتها ومقدراتها ، وهو يفعل ذلك في بعضها  كي يزداد عدوانا، وشراسة، وفساد في الأرض . أما أوخم  العواقب  فهي عاقبة الآخرة، يوم الوقوف بين يدي الله عز وجل ، وهو يوم مساءلة وحساب عسير، إذ يكون فيه المعطلون  عمدا أو تهاونا لفريضة التداعي والنصرة سواء هم  والفُرّار يوم الزحف من الذين قال فيهم الله تعالى : (( ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير )) ، ولا ينجو من غضب الله تعالى ، ومن عذاب جهنم إلا من استثناهم الله تعالى ممن تحرفوا لقتال ، وهم  يوهمون عدوهم  بالفرار منه كيدا به للإجهاز عليه من حيث لا يشعر ، أو ينحازون إلى فئة مؤمنة مقاتلة غير فئتهم لظرف اقتضى ذلك الانحياز.

وعلى  كل مؤمن في المعمور لم تحدثه نفسه  اليوم  بواجب القيام بفريضة التداعي والنصرة  للمؤمنين في فلسطين حتى في أدنى مستوياتها كالشعور بالأسى والحزن لما يعانيه إخوانه  أو حضور التظاهرات والمسيرات  الداعمة لهم ... أو غير ذلك من أشكال النصرة  ، علما بأنه مطالب بهذه الفريضة في أعلى مستوياتها حسب طاقته ووسعه ،أن يتهم إيمانه ، وأن يبادر بإعلان توبته من ترك هذه الفريضة عمدا  وعن سبق إصرار.

 وأريد  في الأخير أن أتوجه إلى أهل العلم، والدعاة، وخطباء منابرالجمع ، وهم أول من تجب عليهم هذه الفريضة  شرعا ، والذين يلزمون الصمت الذي لا يحسن بهم في هذا الظرف بالذات أن يبادروا  أيضا بالتوبة قبل فوات الأوان ، وفيهم من ليس بينه وبين نهاية أجله سوى أيام معدودات ، وأن يستحضروا المساءلة بين يدي خالقهم ، وفيهم من لا يجرؤ حتى على الجهر بالدعاء للمؤمنين المستضعفين في أرض فلسطين ، ولا بالدعاء على عدوهم المجرم، بل منهم من يسوق قول السوء للنيل من المجاهدين في سبيل الله من أجل تحرير بيت المقدس ، ومن أجل خلاص شعب مؤمن مظلوم ، وهو محاصر، ومجوع ، ومحتلة أرضه ، ويسام الخسف منذ عقود مضت .

اللهم بصر الغافلين بغفلتهم ، وأيقظ ضمائرهم النائمة ، وابعث التداعي فيهم كتداعي الجسد حين يعتل عضو من أعضائه ، وذلك رحمة ولطفا  بهم قبل فوات الأوان ، وكن اللهم خير ناصر ومعين للمجاهدين في سبيلك بأموالهم وأنفسهم ، واجعل اللهم النصر حليفهم عما قريب ، وقد أريتهم من نصرك الشيء الكثير الموجب للحمد الكثير  ، وقد صمدوا  بفضل عونك في وجه عدو لم تغنه عدته ولا عدده أمام مددك القوي الذي لا يقهر ،  فاللهم لا غالب إلا أنت فغلّب عبادك المؤمنين على الصهاينة المجرمين، وعلى كل من والهم من الكفار، والمنافقين إنك بالاستجابة جدير. والحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبيه الكريم ، وآله وصحبه أجمعين . 

وسوم: العدد 1081