هكذا أعدت غزة جيل النصر

كيف يمكن أن تكون لنا نسخة من شباب القـسام ؟ سؤال أصبح كثير من العرب والمسلمين يطرحونه على انفسهم لما رأوا من أداء جهادي فريد، فهموا أن خلفه تربية محرقة وتنشئة متميزة وإعدادا دقيقا، كيف لا وهم يصنعون امام أعين الدنيا معجزات باهرة، من الخنادق التي استعصت على العدو وبهرت الخبراء العسكريين، إلى الصمود أمام أعتى جيش في الشرق الأوسط، إلى التكتيك الحربي العالي الدقة، إلى المحافظة على انحياز سكان غزة كلهم إلى صف المقاومة رغم التقتيل الهمجي والمجاعة ومحاولات التهجير...وهي إنجازات خارقة يسلّم بها كل الناس باستثناء الأنظمة المتصهينة وشيوخ الضلال الذين يفضلون التركيز على خسائر الجانب الغزاوي لإدانة المقاومة وتقزيم أدائها.

إن كل هذا يدل على إعداد علمي ميداني نظري وعملي بدأه أحمد ياسين المتخرج من مدرسة حسن البنا، هو إعداد شامل متكامل يمتدّ طولا وعرضا وعمقا في الأشخاص وفي المجتمع كله وفق خطة منهجية دقيقة تجمع بين ما كان عليه السلف الصالح وما بلغته المجتمعات العصرية المتقدمة من مناهج ووسائل وأساليب، كل هذا رغم الحصار الخانق بل ربما بفضله حيث أرغم المقاومة على الاعتماد على الذات وحسن استغلال الموارد البشرية والمادية المتاحة بأعلى درجات الدقة والفاعلية والعقلانية، وتظهر ثمرات هذا الإعداد على المستوى الاجتماعي والسياسي والعسكري والعلمي.

اجتماعيا: في غزة يوجد التدين الصحيح، النساء يرتدين الحجاب الشرعي، لا وجود لمظاهر التبرج والتفسخ الأخلاقي ولا استرجال المرأة ولا تخنث الذكر، بل نجد المرأة المجاهدة غير المسترجلة، الشعب في القطاع تغلب عليه الأخلاق الكريمة لأنه بعيد عن الخمور وتجارة المخدرات ورواج المهلوسات كما هو الشأن في باقي البلاد العربية ابتداء بالضفة المحتلة (لهذه الأسباب يطلق كثير من الحُكام اسم "الإمارة الظلامية" على غزة).

سياسيا: في غزة قيادة منتخبة بحرية ونزاهة، وفية أبية بعيدة عن البذخ والتعالي، هي من عمق الشعب، زعماؤها يقلّون عند الأخذ ويكثرون عند العطاء، مقاومون أباء صادقون.

علميا: في غزة – وفلسطين عموما - مدرسة في أعلى درجات الريادة في جميع المجالات: الهندسة، المعلوماتية، الكيميا...والمقاومة توظيف كل هذا في الإعداد العسكري والأداء الجهادي، ولولاه ما استطاعت أنن تقوم بعملية "طوفان الأقصى" ولا أن تواجه قوات الكيان الصهيوني – الأمريكي، فهي مدرسة ناجحة بالمواصفات العالمية، تخرّج العلماء والباحثين والمبتكرين، كل هذا في إطار منظومة تربوية أصيلة بعيدة عن التغريب، تدرّس باللغة العربية، متفتحة على اللغات الكبرى والثقافات المختلفة، منظومة تتمير عن غيرها بإدراج القرآن الكريم كمادة أساسية ليس للمسابقات والمباريات والتكريمات بل للعمل به كما أثبتت المقاومة في الميدان، ومن بدائع هذه المدرسة الغزاوية أنها تقوم بتخريج حفظة القرآن حتى زمن الحرب، كما أن الجامعات تشهد مناقشة رسائل تخرج في خيام النازحين رغم دوي الانفجارات واحتدام المعارك.

دينيا: المساجد تؤدي وظيفتها الرسالية بكل اقتدار حيث يغلب عليها الخطاب الإسلامي الأصيل القوي المتجدد المعايش للواقع الذي يشحذ الهمم ويحرك القلوب ويقنع العقول، والعلماء عاملون موجّهون بالحق ويمكن ملاحظة أن الخطباء هناك ليسوا منشغلين بلباس الإمام ليكون تقليديا بل ارتفعوا إلى مستوى الجوهر واللب والمقاصد.

عسكريا: أداء المقاومة البطولي يؤكد أن الإعداد كان دقيقا متواصلا قويا مؤثرا، رغم أن قادة المقاومة لم يتخرجوا من كليات حربية ولا يملكون رتبا عسكرية عالية وليس على صدورهم نياشين ولا أوسمة، لهذا هم يذكروننا بالسلف الصالح.

إن سر النجاح في غزة هو تبني المشروع الإسلامي و الاعتماد على الذات و حسن التسيير في جميع المجالات والاستثمار في الموارد المتاحة رغم شحّها وندرتها، وهذا عكس ما عليه معظم الأنظمة العربية التي تمتلك الأموال والموارد وتأتيها المساعدات والاستثمارات لكنها في الغالب لا تصنع شيئا ولا تنتج شيئا ولا تحقق أي نتائج جيدة، أما سلطة رام الله التي تأتيها المساعدات من كل جهة فحالها أدهى وأمرّ، وتؤكد التقارير الدولية أنها غارقة في الفساد المالي، تستعلك فقط.

إن الاسلام محفوظ رغم كيد الكائدين لكنه محفوظ بالجهد الإنساني، قال تعالى "هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين"، وما نتعلمه من غزة هو الرؤية الصحيحة للإسلام،  فهو دين فاعل قوي مؤثر يقود التغيير وليس كما هو في مناهج أكثر الدول العربية.

وسوم: العدد 1081