اليسار العربي.. ازمة قيادات وازمة فكر!!

نبيل عودة

كاتب , ناقد وصحفي فلسطيني – الناصرة

[email protected]

كشف الربيع العربي تفكك اليسار في العالم العربي، تخبطه، وعدم وضوح الرؤية السليمة لديه.

برز ذلك بشكل كبير في غياب اليسار من لعب دوره في حركة التغيير العاصفي  التي اجتاحت العالم العربي، خاصة تعثر اليسار عن فهم ما يجري في سوريا، بتجاهل كامل لحقيقة النظام الذي أفلس سياسيا ولم يعد قادرا على استمرار التحكم بمصير الشعب السوري ولم يعد الشعب السوري مستعدا لتحمل استمرار هذا النظام.

 كيف نفهم احزابا شيوعية او قومية يسارية، اصطفت الى جانب نظام  حول جيشه القومي من مهمته الأساسية، حماية الدولة، أمن مواطنيها ومواجهة العدوان والاحتلال، الى مهمة حماية نظام استبد بالسلطة "عبر فوهة البندقية"، كما قال احد قادة النظام البعثي في سوريا ، وزير الدفاع السابق مصطفى طلاس.. وحرف الجيش السوري الوطني عن مهامه الأساسية ، حماية الوطن السوري وتحرير ارضه المحتلة!!

اصبحت مهمة الجيش الأساسية حماية نظام لم يقدم لسوريا الا التخلف الاقتصادي ، التخلف العلمي، مجتمع مأزوم بتنامي الفقر والفاقة، بطالة بنسب رهيبة ، حسب تقارير عربية ودولية البطالة في اوساط الشباب تتجاوز نسبة 60% في سوريا، نظام طائفي قذر، الاستثمارات تهرب من الوطن العربي ، وسوريا على رأس اصحاب الرساميل الهاربة من سوريا والتقديرات تتحدث عن مئات المليارات من الدولارات ، البعض يقول 500 مليار دولار هُربت من سوريا لوحدها ،أي ان المشكلة ليست الشعب السوري  الثائر ضد النظام، بل كبار اصحاب الأموال  المستفيدين من النظام الفاسد،  حتى هم لا يثقون بنظامهم ومستقبله ويوظفون اموالهم في البنوك الغربية.

 الفساد منتشر من قمة الدولة حتى ادنى المستويات، يكفي ان تكون ابن النظام لتتصرف بدون رقابة ودون قوانين، الخاوة لرجالات النظام اصبحت أقوى من اي قانون، لا افاق تبشر بتغيير ايجابي في الواقع الاقتصادي ، نظام استبدادي فاق عنفه وبطشه الدموي اشرس الأنظمة الديكتاتورية ، عشرات الاف المعتقلين بدون محاكمات او بمحاكمات صورية، المئات يقتلون في السجون ، سجناء منذ سنوات طويلة لا يعرف أهلهم  شيء عن مصيرهم حتى اليوم والقائمة طويلة ..

 ان الدفاع عن نظام من هذا النوع هي جريمة يرتكبها اليسار بحق الشعب السوري، نفسه لأنه سيكون الخاسر  وهو خاسر بشكل مطلق، حتى لو صمد النظام الفاسد في سوريا.

يجب التمييز بين الدولة وبين النظام. الذي يحدث ان اليسار العربي هو اول من فقد قدرته على التمييز بين النظام وبين الدولة. الدولة ليست احتكارا لنظام. ليست طابو لعائلة أو طائفة أومجموعة مستبدين.

احداث سوريا عمقت أزمة اليسار العربي، اصبح اليسار حليفا عن طريق البوابة السورية لنظام الملالي الايراني ، نظام القرون الوسطى، حليفا لأحزب أصولية شيعية، حزب الله اللبناني وحزب الله العراقي الى جانب اصوليين شيعة من العراق، يخوض حربا طائفية ضد الشعب السوري، ان دخول قوى اصولية من القاعدة الى سوريا ، وهي قوى مدعومة من تركيا اساسا وقطر وغيرها ، لم يكن لصالح الثورة، بل لصالح النظام الفاسد ، وهذا لا يبرر عدم الوقوف الى جانب الثورة السورية.

لا اسوق هذه الحقائق لقيمتها النظرية، انما لأظهر الطريق الوعر الذي تورط فيه اليسار العربي الرسمي على الأقل. هذا التورط سيدفع اليسار العربي ثمنه الصعب مهما كانت نتائج الصراع في سوريا.

اشدد على ان ما يجري في سوريا لم يكن بداية أزمة اليسار، أزمة اليسار بدأت تتضح بقوتها مع انهيار التجربة الاشتراكية، وانتشار التخبط الفكري في منظمات اليسار، دون القدرة على التجديد الفكري وتجديد الأهداف السياسية والاجتماعية في الظروف الدولية الجديدة.

يمكن الاشارة الى ظاهرتين في ازمة اليسار،  الظاهرة الموضوعية والظاهرة الذاتية. ظاهرة انهيار التجربة الاشتراكية، الجمود الفكري  وظاهرة القيادات التي نشأت على قاعدة التلقين وليس التفكير.

 لا اعني فقط ظروف عالم بدون المعسكر الاشتراكي، انما عالم يشهد تغيرات واسعة في المفاهيم الطبقية والاقتصادية والعلمية جعلت الكثير من الطروحات لا تلائم عصرنا،على رأسها مفاهيم الصراع الطبقي (بما في ذلك مفهوم "البروليتاريا" التي ظلت ظاهرة اوروبية محدودة جغرافيا وتاريخيا ولا توجد دلائل على انتشار هذه الظاهرة خارج اوروبا) ومفاهيم الحتمية التاريخية التي ما زال اليسار الشيوعي يتغنى بها، رغم ثبات بطلانها النظري!!

 الحركة الشيوعية وحركات ماركسية مختلفة وقفت عاجزة عن دراسة التجربة الاشتراكية واسباب انهيارها،  تتصرف كأن شيئا لم يحدث، بل الاحظ انها تتعامل مع النظام الروسي كانه الاتحاد السوفييتي الجديد. اجد أيضا ان اليسار يقف عاجزا عن صياغة مفاهيم دوره الجديد في عالم متغير، فقد فيه مرجعه الفكري ، ودرعه السياسي والاقتصادي.

 ما هي هوية اليسار اليوم؟ ما زلت حائرا من ايجاد جواب علمي لهذا السؤال. ما هي التركيبة الاجتماعية لليسار في ظروفنا الراهنة؟

هل ما زالت فكرة الطبقة العاملة والصراع الطبقي تشكل القاعدة التي يبني عليها اليسار فكره وسياساته؟ ما هي مهماته التاريخية كجسم سياسي ؟ كيف يبني تحالفاته في العالم المتحول؟ ماهي اهدافه الآنية ؟  ما هو المطروح امامه في المجالات الفكرية والتنظيمية؟ كيف يبني اعلامه في عالم مفتوح سقطت فيه السجون الفكرية؟

هناك المزيد من القضايا المطروحة على اليسار  لا ارى الا أقلية تنشط لإعادة التوازن، اليسار الماركسي الشيوعي تحديدا مصاب بنوع من الخوف على الخروج من قشرة البيضة السوفياتية.. ربما من هنا تمسكه بروسيا الرأسمالية!!

لا بد من فهم حقائق اولية، ان الفكر لم يتوقف عند ماركس في القرن التاسع عشر، عبقرية ماركس لا تعني ان ما كان صحيحا في ظروفه التاريخية  يجب ان يظل صحيحا في ظروف تاريخية اختلفت من جذورها. هنا اجد احدى العوائق الخطيرة التي تشل انتقال اليسار في العالم العربي الى احداث نهضة يسارية جديدة.

اذن هل بالصدفة انحسار تأييده  والتحول الجارف الى الفكر الديني ومنظماته السياسية؟

لا اكتب من منطلق عدائي ، بل من المي ان ارى مدرستي الحزبية، الفكرية والاعلامية تعصف بها التغيرات التاريخية ، التغيرات الفكرية، التغيرات الاجتماعية، التجديد في عالم الفلسفة، التجديد في مفهوم الدولة والنظام، التحول الثوري في مفاهيم الاعلام وهي متمسكة بمفاهيم انتهت صلاحيتها منذ اواسط القرن الماضي.. او قبل ذلك!!

 ما يثير الحزن والضحك احيانا ان قياديين شيوعيين ما زالوا يدعون امتلاك شرعية الحديث باسم ماركس ولينين واتهام مخالفيهم في الرأي بالتحريفية او بالتروتسكية، دون فهم جوهر الطروحات وضرورتها. عبقرية ماركس لا تعني انها ثابته مع مرور الزمن، ثابتة رغم تبدل الظروف التاريخية والاقتصادية والسياسية والعلمية والتكنولوجية وغير ذلك من التغيرات العاصفة التي يشهدها عالمنا. تطور الفكر هو امر طبيعي وضروري، ضرورة تطوير طروحات ماركس وملاءمتها للواقع المتغير هو موقف لا غبار عليه. الفكر ليس قانونا انسانيا لا يتغير، بل مادة لتطوير الفكر وتطوير المفاهيم وملاءمة النهج السياسي والاجتماعي للواقع المتغير. ملائمة الشعارات ايضا للواقع الموضوعي .

مسالة بالغة الخطورة يعيشها اليسار هو  ان القيادات الجديدة لم تستطع ان تحلق الى مستويات القيادات الطليعية، القيادات التي بنت التنظيم واطلقته وكانت تعتبر مميزة في سعة معارفها وامتلاكها للحقيقة، الحقيقة اليوم ، بفضل التطور العلمي والتعليمي وتطور وسائل الاعلام من الاعلام الورقي الى الاعلام الرقمي ( الديغيتالي) لم تعد وقفا على مجموعة ضيقة، بل اصبحت تشكل حجر الأساس في اي مبنى اجتماعي او فكري لأي مجموعة سكانية، اي ان المواقف المتوقعة من القيادات السياسية الراهنة، لم تعد تقليدية في ظروف انتشار المعرفة غير المحدود، من هنا ايضا يمكن رؤية تضاؤل دور التنظيم وتأثيره السياسي، الأخطر ان اي موقف يقره التنظيم لم يعد سراطا سياسيا مستقيما، بل هو عرضة للنقد، للرفض ، طرح بدائل وتحليلات مناقضة .. اصرار القيادات الحزبية على مواقفها، من منطلق انها الأكثر فهما ووعيا، الكل يخطئون الا هي، أصبحت قنبلة زمنية موقوته ستنسف الأسس التي بني عليه التنظيم ، وتجرده من كل مصداقيته الفكرية والسياسية.    

يؤسفني ان اكون حادا في نقدي للإعلام الحزبي الشيوعي، خاصة في اسرائيل، هناك شبه اجماع من رفاق حزب ومن أصدقاء ان الاعلام الحزبي  وصحيفته "الإتحاد" بات دورهم هامشيا، هزيلا، لا تربطه أي صله بالمفاهيم الاعلامية الحديثة ومجرد نشرة حزبية داخلية. حتى اختيار المواد الثقافية والفكرية فيه اشكاليات كبيرة لا تخدم الهدف التنويري وهدف التوعية الجماهيرية !!

جوابا لأصدقاء ورفاق قدامى  استهجنوا مقاطعتي في الاعلام الشيوعي في ثلاث معارك انتخابية لبلدية الناصرة، اقول ان ما اطرحه  هي رؤيتي العقلانية للواقع النصراوي خاصة وللواقع السياسي العام للأقلية العربية. لي تقييمي الشخصي عبر تجربتي السياسية والاجتماعية الطويلة ،أفتخر اني خريج مدرسة سياسية واعلامية طليعية هي "الاتحاد" التاريخية، مجلة "الغد" ( اغلقت) ومجلة "الجديد" ( اغلقت كذلك) وخريج مدرسة التنظيم الشيوعي في فترته الذهبية. يؤلمني ان هذا الاعلام الراقي  تلاشى الى صحيفة يمكن وصفها ب "الميت الماشي".

لا استطع ان اكون حياديا بما يخص مدينتي. استجدي رضاء أحد وليست لي اطماع بعضوية حزب رفضت نهجه وهو في صعود. لا اقبل بعض طروحاته الفكرية ، رغم اني انتمي للفكر الماركسي برؤية حداثية. ان عدم نشر مقالاتي في المواقع الاعلامية التي تخص الجبهة هي مهزلة شكسبيرية لا تخصني، تثبت الافلاس الاعلامي وضيق الأفق الفكري ليس للقائمين على الإعلام فقط، بل لمجمل الواقع الذي يشكل النهج السياسي والتنظيمي للحزب.

لا اعرف اذا كانوا يفقهون الف باء الاعلام  وأهم مضامينه: حرية الرأي والتعددية الفكرية. من يخاف من الراي الأخر لا يليق به العمل الاعلامي، فكم بالأحرى الخوف من اسم صاحب المقالات؟ وانا لست الظاهرة الوحيدة في "المقاطعة الانتحارية" التي تمارسها صحيفة "الاتحاد" مع كتاب لهم مكانتهم الهامة!!

غاضب ؟ أجل، ليس لعدم نشر مقالاتي ، انما للفقر الاعلامي الذي يميز المنبر الاعلامي الأهم بما يخص مدينة الناصرة..الذي غاب  عن اهم معركة للحزب الشيوعي وجبهته. احيانا اشعر بندم لدخولي هذه المعركة وانا افتقد المنبر المفترض انه  الأول في رفع راية الناصرة ... لكنه غائب غياب اهل الكهف!! 

لا ارى ان اليسار العربي في اسرائيل  يختلف ضمنيا، بل يعاني من نفس مشاكل اليسار العربي كله .

بكلمات أخرى ، ما زال اليسار يعاني أزمته التي بدأت ثلاثة عقود على الأقل قبل انهيار المعسكر الاشتراكي. رغم الانهيار نلاحظ ان التمسك بنفس الفكر والنهج الخاطئ  يتعزز بدون ان تجري مراجعة للتجربة بكل ابعادها وتفاصيلها ومناهجها الأيديولوجية .