حرب أمريكا وإسرائيل على غزة: مجازر مشتركة وفشل استراتيجي

ليس الرصيف العائم على ميناء غزة، الإشارة الوحيدة على الوجود العسكري والاستخباراتي الأمريكي ومشاركة الولايات المتحدة في الحرب على غزة. هي موجودة منذ الأيام الأولى للحرب، بالدعم العسكري والميداني، وكل الأسلحة التي ارتكب بها الصهاينة جرائم الحرب والإبادة هي أسلحة أمريكية. في النهاية يتباهون بتحرير أربعة أسرى، بعد قتل المئات في مجزرة مروعة تنضاف إلى عشرات المجازر المرتكبة في حق الأطفال والنساء والشيوخ، منذ بداية الحرب الأمريكية الإسرائيلية على الفلسطينيين، الذين يقاومون لتحرير وطن محتل منذ عقود.

تعاطي العالم مع ما يحدث في غزة يلقي ظلاً أسود على المستقبل الديمقراطي والتطلعات الإنسانية والتعايش المشترك

ألم تدرك أمريكا حتى الآن أنها تقود مع كيانها العنصري معركة خاسرة ستنتهي إلى الفشل، مثلما انتهت إليه جميع مغامرات الولايات المتحدة الأمريكية في الشرق الأوسط، منذ غزوها العراق وزرعها الإرهاب والفوضى في المنطقة، ومحاولاتها إعادة الهيكلة والتقسيم، وخلق ما أطلقت عليه الشرق الأوسط الكبير. تاريخ أسود من الظلم والجريمة في حق شعوب الأرض قاطبة، ارتبط بأمريكا التي تبارك مجازر كيان الاحتلال وتعتبرها إنجازا استراتيجيا. تنظر لتحرير أفراد، ولا تعير انتباها لمقتل المئات.

بسياسة خارجية رجعية وهمجية بمثل وحشية وهمجية كيانها الصهيوني، تواصل الولايات المتحدة تعاطيها مع قضايا العالم. ترفض التخلي عن التعجرف الذي تسبّب في إحداث كثير من المعاناة حول العالم، ولا تعيد التفكير جذريا في النّهج المعتمد للسياسة الخارجية، وإثر العربدة والمجازر، يُطرح على الفلسطينيين قبول شروط الإدارة الأمريكية للسّلام، وهي شروط تحرمهم من حق تقرير المصير، الذي تكفله المعاهدات الدولية لكل الشعوب المستعمرة. عليهم أن يدركوا أنّ من يحمل صفة الوجود الحقيقي هو فلسطين وليس كيان الاستيطان الإحلالي المجرم. والحرب الكارثية على غزة أثبتت حقيقة المشروع الأمريكي الصهيوني، ومن ورائه المتذيلين من دول أوروبية صاحبة الماضي الاستعماري. إجرامهم وعنصريتهم هو جزء من تركيبتهم السيكولوجية وتاريخهم الدموي، الذي يعززه حاضرهم ويشهد عليه. الكيان الصهيونيّ يتمكن من ممارسة أفعاله بوحشيّة قصوى، بفضل الدعم الأمريكي القوي. تكنولوجيا الاستخبارات لأقوى دول العالم لم تنجح في تحديد مكان الأسرى، ولا تفكيك شبكة الأنفاق، عجز عسكري وفشل استراتيجي مفضوح لن يواريه التباهي الكاذب بإنجازات ميدانية لا قيمة لها، ولا تتعدى التشفي بقتل المدنيين الأبرياء، تلك هي إنجازات أمريكا وإسرائيل في حربهما على غزة. واشنطن التي كانت تدعي أنها راعية لاتفاق السلام في الشرق الأوسط، أعطت ظهرها للقضية الفلسطينية، والآن تشترك مع إسرائيل من داخل غرفة عمليات أركان الدفاع الإسرائيلية، كذلك ألمانيا كانت وسيطا بين حزب الله وإسرائيل، اليوم خسرت ألمانيا هذا الدور بوضع حزب الله وحماس على قائمة الإرهاب، من المخجل أن يتحدثوا عن السلام وحقوق الإنسان بعد الذي فعلوه بفلسطين وشعبها. يبدو أنّ مفارقة الأمس تتكرر اليوم، فمثلما غضّ الأوروبيون الطرف عندما ارتكب النازيون المحرقة، لا يقوم العرب بأي شيء في مواجهة قيام الإسرائيليين بذبح الأطفال الفلسطينيين، مثل هذه السلبية وإغماض العين هو الانتحار الجماعي الذي يتّجه إليه العرب، ماذا ينتظرون من نتنياهو مثلا؟ السلام.. هو يبحث دائما عن الاستسلام بدل السلام الذي طالما اقترحه العرب مقابل الأرض، على نحو مقايضة العاجز أمام من لا يبالي به وبأرضه وحتى بمقدساته. أغلبهم لم يغادر إلى الآن إطار الشعارات المتخاذلة نحو فعل حقيقي من شأنه تغيير الواقع الفلسطيني، بعد مضي سبعة عقود استعمارية. هي مآلات الشعور بالهزيمة بعد مشاريع التفكيك والسيطرة، فالتغطية النظرية لنظام الهيمنة العالمية الجديد تجلّت بشكل مبكر في تنظيراتهم العنصرية، التي اعتبروا فيها أنّ غالبية دول الشرق الأوسط مصطنعة وحديثة التكوين. وإذا ما ضعفت السلطة المركزية إلى مستوى معين، فلن تجد مجتمعا مدنيا حقيقيا يضمن تماسك الكيان السياسي للدولة، ولا شعورا حقيقيا بالهوية الوطنية المشتركة، أو ولاء للدولة الأمّة، ما بالك بالشعور القومي والمصير العربي المشترك.

كُتّاب اليمين الأمريكي المحافظ اتفقوا حول انتصار الأيديولوجيا الأمريكية ونهاية الوحدة العربية وأيديولوجيتها القومية، دفعوا نحو محاربة الفكر القومي الذي أراد دخول الحداثة دون فقدان الخصوصية، عندما كان هناك إدراك مبكّر لأزمة الحداثة الغربية بأنّها تنزع الخصوصيات الحضارية وتستلب الإنسان وتهدف للسيطرة والاستعمار. ليس جديدا أن الغرب يبحث عن دول خانعة وخاضعة ومستسلمة، أمّا الدول المعادية للمشروع الإمبريالي الغربي، والتي ترفض أن تصبح مادّة استعمالية يوظّفها الغرب كما يشاء فهو يعاديها. ويفهم الدّعم الغربي لإسرائيل ومعاداته للعالم الإسلامي وقضاياه المشروعة مثل قضية تحرير فلسطين تحت بند مشروع الهيمنة الامبريالي، الذي وظّف إسرائيل كأداة له في المنطقة. وهي كيان وظيفي ضمن مخطّط توسّعي استعماري ليس من السهل أن يتخلوا عنها، وقد أثبتت حرب غزة احتضانا غربيا غير مسبوق لكيان استيطاني، لحظة تحسس أنه في خطر يوم السابع من أكتوبر وعملية طوفان الأقصى. تثار مرة أخرى الأسئلة عن أفق الصراع في ظل استمرار الحرب والمزيد من مخططات الضم والاستيطان، وتوغّل إسرائيل في اليمين رغم الارتباك السياسي الحاصل في الداخل وإمكانية تفكك حكومة نتنياهو. تثار الأسئلة عن أفق القضية الفلسطينية في ظل اتفاقيات التطبيع التي دشنها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، بين دول عربية وكيان يحتل الأرض والبحر والسماء، ويقتل الأطفال والنساء بلا رحمة. ماذا عن اليوم التالي للحرب؟ هل ستواصل دول عربية التقارب مع كيان الاحتلال بعد كل هذا؟ تراجيدية حالة العرب ومدى انقسامهم وضعفهم وانهزاميتهم غير المسبوقة في التاريخ، تجعل الفكر المهزوم والسياسات المتخاذلة تعزز الاستسلام والتسليم. في النهاية، اتفاقيات التطبيع التي حصلت أضفت الطابع الرسمي على العلاقات التي كانت ضمنية لسنوات عديدة بين الدول الأكثر رجعية في منطقة الشرق الأوسط والكيان الصهيوني، ولن يحدث الجديد أو المفارق. أمّا تعاطي العالم مع ما يحدث في غزة فيلقي ظلاً أسود على المستقبل الديمقراطي والتطلعات الإنسانية والتعايش المشترك، إسرائيل تمعن في تعميق الأزمة، متمسكة بأيديولوجيتها العنصرية التي تتسم بالكراهية للفلسطينيين وللعرب. يرافقها كظلها شبح الزوال ولعنة العقد الأخير، وهذا طبيعي بالنسبة لأي كيان استعماري دخيل مهما تم دعمه وإسناده.

وسوم: العدد 1083