الوضع السوري والمتغيرات التي أحدثتها حرب غزة
في أجواء الحرب الإسرائيلية على غزة وانعكاساتها وتفاعلاتها فلسطينياً وعربياً وإقليمياً ودولياً، واحتمالات اتساع دائرتها لتشمل لبنان، والخشية من تداعياتها على دول الجوار، وحتى العراق؛ وذلك بفعل الجهود التفجيرية الإيرانية المتواصلة في المنطقة، لتكون دولها ومجتمعاتها في حالة اضطراب وعدم استقرار دائمين، الأمر الذي يصب من غير شك في صالح نظام ولي الفقيه الإيراني الذي يعاني من مشكلات كبرى في بنيته السياسية، كما يئن تحت وطأة أزمة اقتصادية عميقة؛ هذا إلى جانب انتشار الفساد وتغلغله في سائر مفاصل الدولة؛ وكل ذلك ينعكس سلباً على واقع الإيرانيين وظروفهم المعيشية…
في هذه الأجواء، وبينما يتطلع العالم نحو التوصل إلى صفقة بين الحكومة الإسرائيلية وحماس تساهم في إغلاق ملف المحتجزين والمعتقلين، وتؤدي إلى وقف الحرب على غزة التي اندلعت قبل أكثر من 8 أشهر، وهي الحرب التي أنهكت المدنيين الغزيين، لا سيما الأطفال والنساء منهم؛ تناقلت وكالات الأنباء، استناداً إلى ما تسرّب ويتسرّب من معلومات، أخبار اجتماعات هنا وهناك بين أطراف إقليمية ودولية يبدو أن الغرض منها هو الاستعداد لمواجهة التحديات المقبلة.
ومن بين الاجتماعات اللافتة في هذا المنحى هو الاجتماع العسكري العالي المستوى بين مسؤولين عسكريين أمريكان وإسرائيليين وعرب في المنامة بتاريخ 10 حزيران/يونيو الجاري. وهناك تكهنات كثيرة حول الغاية الفعلية لهذا الاجتماع، ولكن المرجح الأكثر توقعاً هو أنه كان بهدف التوصل إلى تفاهمات بين الأطراف المجتمعة، تقضي بمنع اتساع دائرة المعارك، وتمهيد الطريق أمام توافقات بخصوص ملامح المعادلات الإقليمية الجديدة التي ستسير بموجبها المنطقة مستقبلاً بعد تلاشي مفعول المعادلات القديمة، التي يبدو أنها لم تعد قادرة على ضبط الأوضاع، وتحديد الأدوار، خاصة بعد تصاعد النزعة التوسعية الإيرانية. وهذه تتمثل في السعي إلى السيطرة على الممرات المائية الحيوية، وتطوير المشروع النووي على أمل الوصول إلى إنتاج القنبلة النووية، وهو النزوع الإيراني المعهود الذي لم يعد من الأسرار المخفية، أو من التخمينات غير المتوقعة، بل بات راهناً احتمالاً أقرب إلى الواقع أكثر من أي وقت مضى، وكل ذلك قد يُخرج الأمور عن نطاق السيطرة والقدرة على التحكّم.
وبالموازاة مع الحرب ذاتها، انعقدت في منتصف حزيران/يونيو الجاري قمة سويسرا حول السلام في أوكرانيا، شاركت فيها نحو 100 دولة ومنظمة دولية؛ وهي القمة التي كانت بهدف البحث في امكانية التوصل إلى اتفاق أو حل مقبول بين روسيا وأوكرانيا. وكان من اللافت عدم توجيه الدعوة إلى روسيا للمشاركة، وهي الطرف الرئيس، إلى جانب أوكرانيا في مناقشة القضية التي تمحورت حولها القمة. وكما كان متوقعاً، غابت الصين عن القمة، كما لم توقع دول مهمة سواء في أمريكا اللاتينية أم في آسيا وأفريقيا على البيان الختامي، وكان تعليل الغياب، والامتناع عن التوقيع، هو عدم جدوى الاجتماع وروسيا غائبة عنه.
أما الاجتماع الأهم بالنسبة إلى الملف السوري، فهو الذي انعقد بتاريخ 11 حزيران/يونيو الجاري بين الروس والأتراك وممثلين عن سلطة بشار الأسد في قاعدة حميميم على الساحل السوري، بقصد البحث في امكانية التوصل إلى تفاهمات بشأن مستقبل الشمال السوري؛ وربما عقد مقايضات قد تؤدي مستقبلاً إلى عودة جيش السلطة المعنية، وأجهزتها الأمنية بصورة علنية إلى الشمال السوري بغربه وشرقه.
والأمر الذي أثار الانتباه قبل هذا الاجتماع هو التصريح الذي أدلى به فيصل المقداد وزير خارجية السلطة الأسدية، ومفاده أن أي لقاء مع تركيا لا بد أن يسبقه موقف تركي يعلن عن الاستعداد للانسحاب من الأراضي السورية، وهو موقف ينمّ عن حدوث تغيير كبير مقارنة مع ما كان يصرح به مسؤولو السلطة المذكورة في مختلف المناسبات بضرورة الانسحاب التركي أولاً، ومن ثم البحث في امكانية اللقاء على مستوى القمة.
وفي السياق ذاته، يبدو أن الروس يريدون من ناحيتهم كسب الود التركي، ولو في حدوده الدنيا، لصالح تعزيز موقعهم في الصراعات الإقليمية الدولية الراهنة، والاحتمالات المنتظرة مستقبلاً. بينما تريد تركيا من ناحيتها وضع حد للتغلغل الإيراني بمختلف الأشكال في الشمال السوري الذي تعتبره تركيا جزءاً من مجالها الحيوي السياسي الذي لا يمكن أن تغض النظر عن التحولات التي يشهدها، والمخاطر الناجمة عن ذلك.
أما بالنسبة إلى الوجود الأمريكي في شرق الفرات (الشمال الشرقي) فهو على الأغلب وجود مرحلي وظيفي له علاقة وثيقة بالأوضاع في العراق، وهو يتوقف على طبيعة العلاقة التي ستكون مستقبلاً مع إيران بعد الانتخابات الرئاسية الإيرانية في أواخر هذا الشهر، والرئاسية والتشريعية الأمريكية المقبلة في أوائل تشرين الثاني/نوفمبر المقبل.
وهنا لا بد من الأخذ في الحسبان واقع التوافق الروسي الأمريكي الذي كان عام 2015، وهو التوافق الذي لم تكن إسرائيل بعيدة عنه. وبموجب ذاك التوافق تم التقسيم الشمال إلى منطقتي نفوذ: الأولى غرب الفرات خاصة بالروس والإيرانيين وسلطة بشار، مع مراعاة هواجس تركيا عبر السماح لها بالهيمنة على المناطق الحدودية ومن ضمنها إدلب وعفرين، ومن ثم تل أبيض وسري كاني/ رأس العين؛ بينما أخذت أمريكا على عاتقها منطقة شرق الفرات، مع غض النظر عن وجود قوات عسكرية وأجهزة أمنية تابعة لسلطة بشار، إلى جانب تواجد روسي إيراني محدود العدد والانتشار.
ورغم التباين الصارخ بين الموقفين الأمريكي والروسي حول الموضوع الأوكراني، يُلاحظ أن التوافقات الضمنية بينهما، التي كانت نتيجة تفاهمات بوتين وأوباما، ما زالت هي التي تضبط العلاقة بين الطرفين في سوريا. وبصرف النظر عن تراجع مكانة الملف السوري في أجندات الدول مقابل التركيز على الموضوع الأوكراني، والحرب الإسرائيلية على غزة، إلا أن هذا الملف (السوري) يظل هاجسا يشغل الجميع، وذلك نظراً لحجم الكارثة من جهة عدد الضحايا والنازحين واللاجئين والمغيبين؛ وحجم الدمار، وطول المدة الزمنية، وتأثير الوضع السوري في الأوضاع الإقليمية.
وهذا ما يستنتج من توافق القوى المنخرطة في الملف السوري على جعل أولوية محاربة الإرهاب الوظيفي الذي أُقحم اقحاماً في المجتمع السوري ليكون وبالاً على الثورة السورية، ووسيلة لإسباغ المشروعية على تواجدها في الجغرافيا السورية، ودورها في دعم بعض القوى مقابل تهميش القوى الأخرى. ومن الملاحظ أن القوى الإقليمية والدولية المعنية متفقة في يومنا الحالي على عدم إبعاد بشار الأسد عن السلطة، وترفع في المقابل شعار التعايش معه تحت مسميات عدة منها: سياسة الخطوة مقابل الخطوة، أو تعديل السلوك… أو غير ذلك.
ولكن السؤال الذي يفرض ذاته اليوم أكثر من أي وقت مضى هو: ماذا عن دور العامل الوطني السوري الذي من المفروض أنه يجسّد إرادة وتطلعات السوريين الذين ثاروا على استبداد وفساد سلطة آل الأسد، وما زالوا متمسكين بموقفهم. وهم يدفعون ضريبة باهظة لقاء ذلك ليس أقلها حملات التمييز العنصري المقيتة التي يتعرضون لها في بلدان اللجوء المجاورة، خاصة في لبنان الذي توافقت قواه السياسية رغم اختلافها في كل شيء، على الربط بين أزمات لبنان المستعصية ووجود اللاجئين السوريين، هؤلاء الذين اضطروا تحت وطأة هجمات وجرائم التحالف غير المقدس بين الحرس الثوري الإيراني وأذرعه، لا سيما حزب الله وجيش سلطة آل الأسد، إلى ترك ديارهم، وتحمّل مشقات اللجوء وهوانه؟
ولعنا لا نأتي بشيء جديد إذا قلنا إن ما يضفي قتامة استثنائية على الواقع السوري، يتمثّل في تشتت جهود الثائرين السوريين، والمؤمنين بمشروعية الثورة السورية، وعدالة القضية السورية. أما القوى المنضوية ضمن أطر المعارضة الرسمية فقد ارتضت غالبيتها لنفسها، بكل أسف، أن تقوم بدور الأداة ضمن المشاريع الإقليمية والدولية، وتخلت عن الأولويات السورية التي من المفروض أنها تستمد منها المشروعية أصلاً.
وربما يكون من المناسب أن نشير هنا إلى الوقائع التاريخية؛ فنحن إذا ما عدنا إلى التاريخ بكل مراحله، سنجد أنه لا يقدم أي نموذج لانتصار شعب من الشعوب من دون وجود المتمسكين بقضيتهم، المدافعين عنها بكل اخلاص ضمن أطر منظمة، تحافظ على استقلالية قرارها رغم كل المغريات، وبعيداً عن الحسابات الشخصية والشللية والحزبية وغيرها.
وما نعتقده في هذا المجال، هو أن تجارب أكثر من 13 عاماً من النجاحات والإخفاقات، من الصبر والتحمّل والمشقّات، قد علّمت السوريين جميعاً ألاّ منقذ لهم سوى إصرارهم على العيش المشترك، واحترام الآخر المختلف والاعتراف بحقوقه دستورياً، والتوافق الأكيد الصريح على نبذ الإرهاب والاستبداد وضلعهما الثالث: الفساد.
وسوم: العدد 1084