هكذا يولد الأطفال في غزة.. الطفل “مالك” نزح قسرا إلى الحياة من رحم والدته الشهيدة
وحيدا يصرخ الطفل “مالك” حديث الولادة القيصرية، محاطا بـ”حضانة الأطفال” والأجهزة الطبية في مشفى الأقصى وسط قطاع غزة، بعيدا عن حضن والدته علا الكرد، التي أخرج من رحمها بعملية قيصرية، بعد أن فارقت الحياة، نتيجة غارة جوية إسرائيلية استهدفت منزل العائلة.
وفي اليوم الثاني من إبصار هذا الطفل النور بمعجزة إلهية، وبمجهود الأطباء، يفيق من نومه على حياة لا يعرف ما ينتظره فيها من أحداث، بعد أن بدأت بفقدانه والدته حتى قبل خروجه للنور، حيث كانت صرخة والدته الأولى تحمل الكثير من الألم، بعد أن خرج حيا من رحم ميت.
قصة هذا الطفل تشابه الكثير من قصص الفقدان في غزة، لكنها وبعض الأخريات لهن شكل آخر. فهناك في غزة، وبفعل الحرب الإسرائيلية المستمرة منذ أكثر من تسعة أشهر، آلاف الأطفال الأيتام، منهم من فقد والدته وآخرون فقدوا الوالد، وكثيرون منهم فقدوا الوالدين والأشقاء وباتوا وحيدين في الحياة.
وتشير التقديرات إلى أن حوالي 20,000 طفل أصبحوا أيتاماً بفقدانهم لأحد الوالدين أو كليهما، نتيجة الحرب على قطاع غزة.
لكن قصة “مالك” الذي خرج حيا من جسد أمه الميت، والتي تعرضت لإصابات خطيرة جدا، لها شكل آخر من الألم. فهذا الطفل سيعيش إن قُدّر له ذلك، في حرمان دائم، فهو لم يبصر على رؤية والدته، ولم يسكن حضنها كباقي الأطفال، ولم يشعر بحنانها.
وفي “حضانة الأطفال” التي نقل إليها الطفل “مالك” بعد تدخل الأطباء جراحيا، وإخراجه من رحم والدته الشهيدة. يصرخ ويحرك رأسه يمينا وشمالا في سياق فطرته الإلهية بحثا عن أمه كباقي الأطفال، للشعور بالأمن أولا، وإسكات جوعه ثانيا، ليلاقى من بالقليل من الحليب الصناعي.
وبالعودة إلى بدايات قصة “مالك” الأليمة، فهذا الطفل الرضيع كان حتى فجر السبت، آمنا مطمئنا في رحم والدته، التي كانت تكابد كغيرها من سكان قطاع غزة المشقة والعناء والخوف.
في صباح ذلك اليوم، أصاب صاروخ مدمر وقاتل أطلقته طائرات حربية إسرائيلية على منزل عائلة الكرد في مخيم النصيرات، ليتم تدميره، ويقع من فيه بين شهيد وجريح.
وعلى الفور، تدخل الجيران وفرق الإسعاف والدفاع المدني، وجرى على عجل انتشال الضحايا الذين أوصلوا إلى مشفى العودة في مخيم النصيرات، كانت وقتها الأم علا الكرد، والدة الطفل “مالك”، تعاني من إصابتها الخطيرة وتلفظ أنفاسها الأخيرة.
ولم تلبث الوالدة إلا وقتا قصيرا حتى فارقت الحياة. وفي المشفى استدعى الأطباء المعالجون على الفور جراحين، بعد أن تيقنوا من بقاء الجنين وهو في شهره التاسع، على قيد الحياة في رحم والدته الشهيدة. ولم يمضِ وقت حتى أُخرج “مالك” إلى الحياة وحيدا، يكابد معاناتها وآلامها منذ الدقيقة الأولى، وليعلم حين يكبر كيف نزح قسرا من هذا الرحم الآمن، إلى واقع مليء بالألم والفقدان.
وقد أوضح مشفى العودة في تصريح صحافي تلقت “القدس العربي” نسخة منه، نجاحها في إنقاذ الجنين من رحم والدته الشهيدة، وأشار إلى أن قسم الإسعاف والطوارئ استقبل الأم الحامل في شهرها التاسع، في الساعات الأولى من فجر السبت، حيث تم تحويلها فورا إلى قسم العمليات، وباشر أطباء النساء والولادة بعملية عاجلة لفتح بطن الشهيدة وإخراج الجنين، الذي ولد حيا وتم تحويله إلى قسم حضانة مستشفى شهداء الأقصى.
وكان رئيس قسم النساء والتوليد في مستشفى العودة الدكتور رائد السعودي، قال إن المرأة توفيت متأثرة بجروحها إثر وصولها إلى المستشفى، وأوضح أيضا أنه بعد أن فارقت الحياة، أجرى الأطباء فحصا طبيا للتأكد من حالة الطفل، وقد لاحظوا أن قلبه ينبض، ليقوموا باستدعاء الجراحين، لإخراجه من رحم والدته.
ويخضع والد الطفل “مالك” للعلاج من جروح بالغة أصابته في تلك الغارة الجوية، ولم يرَ طفله الذي يرقد في قسم آخر بالمشفى.
ويدلل ذلك على ما أكدته تيس إنغرام، أخصائية الاتصال في منظمة “اليونيسف”، حيث قالت إن “الأطفال يحملون ندوب الحرب في غزة بشكل أكبر مقارنة بغيرهم”.
وأضافت وهي تصف أحوال أطفال غزة: “لقد أصبح هؤلاء الأطفال وجوه الحرب المستمرة. من الإصابات المدمرة التي لحقت بهم في الغارات الجوية، إلى الصدمة الناجمة عن وقوعهم في اشتباكات عنيفة، ترسم قصصهم صورة مروعة للعواقب الإنسانية للنزاع”.
ويقول عدنان الكرد، جد مالك، الذي يُسمح له بالدخول إلى “قسم الحضانة” لرؤية حفيده، إن هذا الفقدان لأبنائه ليس الأول، حيث سبق وأن قضى بعض أبنائه في غارة إسرائيلية استهدفت منزل جيرانه في شهر أكتوبر الماضي، أي في الشهر الأول للحرب.
ويضيف أن ابنته كانت في منزل زوجها لحظة الاستهداف، وأنها كانت تقطن في الطابق الرابع من المنزل المستهدف، ليجدوها ملقاة في الطابق الأول.
ويقول الجد إنه كان وقت الحدث في منزل شقيقه، حين أُبلغ أن منزل ابنته تعرض للقصف، وأنها نقلت إلى المشفى مصابة، قبل إبلاغه بعد ذلك بوقف قصير أنها فارقت الحياة شهيدة، وتم إنقاذ جنينها.
ويضيف هذا الرجل المسن وهو يتحسر على فقدان أبنائه: “ما في حد بطلعلنا والكل تخلى عنا”.
وتسلط قصة الطفل الرضيع “مالك” من جديد الأضواء على واقع أطفال قطاع غزة الأليم جراء الحرب.
وتؤكد الجهات المختصة في القطاع أن الجوع وقلة الطعام، أدى إلى وفاة 40 طفلا، فيما يواجه 3500 طفل خطر الموت بسبب سوء التغذية ونقص المكملات الغذائية والتطعيمات.
وقد سبق أن أكدت وكالة غوث وتشغيل اللاجئين “الأونروا” أن الأطفال في القطاع يعانون من سوء التغذية الحاد، وأنهم يموتون ببطء تحت أنظار العالم. وقالت في بيان سابق: “الأطفال الذين يموتون بسبب القنابل، والمزيد منهم يموتون الآن بسبب عواقب الحصار”.
وسوم: العدد 1088