قيم كأس العالم 2030 بين قيم قطر وقيم باريس

لست أدري هل لا زالت لمقولة فصل الرياضة عن السياسة، أو لنقل هل كان لها في يوم من الأيام معنى، أم أن الأمر يندرج ضمن الدهاء السياسي الذي يروم استغلالها، بعيدا عن الأضواء التي غالبا ما تكون عاملا مشوشا، يحد من فعاليتها كعنصر أساسي من عناصر القوى الناعمة التي أصبحت من أبجديات الاستراتيجيات السياسية.

والحقيقة أن هذه العلاقة كانت موجودة منذ القدم، ذلك أنه بقليل من البحث، يتبين أن التدخل السياسي في الرياضة بدأ مع الفراعنة، ليمتد بعد ذلك إلى الصين والإغريق واليونان، ليصبح واضحا وجليا مع بزوغ القرن العشرين، مع تزايد حدته في القرن 21، بحيث نجد على سبيل المثال لا الحصر أن الاتحاد السوفياتي لم يحصل على تنظيم الألعاب الأولمبية لسنة 1980 بموسكو إلا بعد سجال سياسي بين بريجنيف ونيكسون قبل تنازل هذا الأخير عن الحكم سنة 1974، ومع ذلك فقد انسحبت الولايات المتحدة وحلفائها من هذه الدورة لسبب سياسي يقترن بحيثيات غزو الاتحاد السوفياتي لأفغانستان، كما أن كرة القدم كانت النقطة التي أفاضت الكأس، وتسببت في حرب ما يطلق عليه حرب كرة القدم، أو حرب المئة ساعة، بين هندوراس والسلفادور، بسبب نتيجة المباراة التي جمعت بينهما ضمن التصفيات المؤهلة لكأس العالم بالمكسيك عام 1970.وحتى لا أطيل في هذا الجانب، يكفي للتأكد من تغلغل السياسة في المجال الرياضي في وقتنا الحالي، الإشارة إلى المستوى المنحط الذي تعاملت به السلطات الجزائرية مع مختلف المنافسات الرياضية التي جمعت، أو التي كان من المفروض أن تجمع بين فرق جزائرية وأخرى مغربية، ولعل أبرز مثال في هذا الصدد هو التعامل اللارياضي مع مباراة إياب الدور النصف النهائي لبطولة كأس الاتحاد الأفريقي لكرة القدم بين النهضة البركانية المغربية واتحاد العاصمة الجزائري.

وإذا علمنا أن للسياسة والسياسيين دور رئيسي في رقي الأمم، أو تخلفها على جميع الأصعدة المادية منها والمعنوية على السواء، تجلت مسؤولية الطبقة السياسة، إما في الحفاظ على القيم والثوابت التي تختص بها كل أمة على حذة، والترويج لها إن على المستوى الداخلي أو المستوى الخارجي والعالمي، وإما في التفريط فيها، وترك الباب مشرعا أمام قيم دخيلة ومنافية لثوابت الأمة المعنية، وذلك من خلال طبيعة السياسات المعتمدة من قبل مختلف الفاعلين السياسيين، من حكومات وأحزاب سياسية وجمعيات المجتمع المدني... في تعاملها مع مختلف المجالات الحياتية الحيوية مثل التعليم، والفن والرياضة...

وسأركز في هذا المقال على علاقة السياسة بالرياضة، فيما يتعلق باستغلال الأولى للثانية لخدمة ومساندة قيم الأمة وثوابتها أو خذلانها، فلا يخفى على أي عاقل مستوى الأذى الذي لحق بالشعبين المغربي والجزائري، والناتج في جزء غير يسير منه، عن الاستغلال المستهجن للرياضة، خاصة بالنسبة لعموم الناس الذي أصبح التنابز بينهم بأشنع الألقاب عبر مواقع التواصل الاجتماعي عملة رائجة، وذلك على الرغم من كل الوشائج التي تجمع بينهما، من دين ولغة وتصاهر، حتى أنه من الصعب العثور على عائلة في شرق المغرب لا ترتبط بعوائل أو أفراد في غرب الجزائر، والعكس بالعكس.

في مقابل هذا الاستغلال السيء والمعيب للرياضة الذي لا يستحق سوى التنديد والاستهجان، يبرز مثال يستحق التنويه والاقتداء، ألا وهو الأسلوب الذي سلكته قطر في تنظيمها لكأس العالم 2022، لا من حيث التنظيم المادي الذي يعتبر نموذجا للاحتذاء، رغم الإكراهات المناخية التي تميز هذا البلد، ورغم استهزاء الغرب الذي صاحب عملية التحضير، بل والأهم من هذا كله، هو الحرص على إبراز الوجه المشرق للقيم وللثقافة الإسلامية، رغم كل الضغوط الممارسة عليها من قبل الغرب، ولعل من بين أهم ما نجح فيه المنظمون هو رفضهم للترويج لمظاهر الإباحية، والتناول العلني للخمر في المدرجات، وما خيبة الفريق الألماني في الإشهار لشعار المثلية، والتصدي لاختراق بعض الصحافيين الإسرائيليين، إلا دليل على نجاح أهل قطر في التعريف بالقيم والمبادئ الإسلامية، التي تجسدت البعض منها في ممارسات الفريق المغربي ومشجعيه من خلال تلك اللقطات الرائعة التي أبرزت صدق العلاقات العاطفية والإنسانية، التي تجمع وينبغي أن تجمع بين الأبناء والآباء عموما، وبين الأبناء والأمهات على وجه الخصوص، طبقا لمتطلبات الشريعة الإسلامية، وقد لاحظ الجميع كيف كانت هذه اللقطات وغيرها سببا في تغيير الصورة النمطية المبتذلة للعرب والمسلمين لدى عدد كبير من أبناء الغرب الذي دأب على ترسيخها في أذهانهم.

وبما أن "الأشياء تعرف بأضدادها" كما يقال، فإن الحكم إيجابا أو سلبا على نتائج تنظيم قطر على المستويين المادي والمعنوي، يكون أكثر موضوعية إذا ما تمت مقارنته بنتائج تنظيمٍ ذو منطلقات مختلفة، أو لنقل مناقضة لتلك التي انطلق منها، ولعلنا نجد في تنظيم الألعاب الأولمبية في العاصمة الفرنسية مثالا حيا لتجسيد هذا التناقض، خاصة فيما يتعلق بالمبادئ والمنطلقات. فعلى الرغم من تواضع إمكانيات قطر العلمية والتكنلوجية أمام فرنسا، فإن التنظيم المادي القطري كان متميزا مقارنة بالتنظيم الفرنسي، الذي اعتورته مجموعة من المشاكل، أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: تعطل خطوط السكك الحديدية لقطارات باريس الذي نتج عنه إلغاء عدد كبير من الرحلات، مما تسبب في اختلال حركة تنقل الجماهير، رفع العلم الأولمبي بالشكل المقلوب، وتقديم فريق كوريا الجنوبية على أنه فريق كوريا الشمالية، دون الحديث عن المشاكل التي تسببت فيها الأمطار الغزيرة، على الرغم من توفر وسائل "متطورة" لرصد الأحوال الجوية، بل لقد بلغ تدني المستوى إلى الحد الذي اشتكى فيه عدد من الرياضيين من عدم كفاية الطعام وسوء جودته. هذا فيما يتعلق بالجانب المادي المحض، أما عن الجانب الثقافي والقيمي، وهذا هو الأهم في نظري لأنه يُبرز الأهمية التي يوليها السياسيون للرياضة، رغما عن أكذوبة فصل السياسة عن الرياضة، للترويج لثقافة وقيم معينة. فإذا كانت قطر قد حرصت، رغم كل المضايقات، على أن تُحترم القيم الإسلامية وأن تُشاع بين الجماهير، مما سمح للعديد منهم بتصحيح الصورة النمطية المشوهة التي رسخها لديهم الإعلام الغربي عن الإسلام والمسلمين، فإن باريس عملت على تبني ما يسمونه قيما كونية وما هي بكونية ولا حتى غربية على اعتبار أن الغرب ليس منسجما بما قد يتصوره البعض، وهو ما تم تجسيده من قبل شرائح متعددة ومتنوعة من المجتمعات الغربية، التي استهجنت وتبرأت من الحمولة القيمية لمضامين فقرات الافتتاح، التي تضمنت الترويج للمثلية والإباحية بتلك الطريقة السمجة التي امتد إيذاؤها إلى السيد المسيح عليه والسلام، بالإضافة إلى افتخار إحدى الشركات بتوزيع ما يقارب 240 ألف واقي ذكري على الرياضيين، كما لو كانت ممارسة الجنس الإباحي تندرج ضمن مباريات الألعاب الأولمبية. هذا من جهة، من جهة ثانية تم استبعاد روسيا من المشاركة بسبب حربها مع أوكرانيا، في الوقت الذي تم الترحيب فيه بمشاركة الصهاينة رغم كل المجازر التي لم تتوقف منذ السابع من أكتوبر، بل منذ 1948، بل أكثر من هذا ما جاء على لسان أحد المواقع الإلكترونية الأكثر مقروئية، بأنه تم الحُكْم على أحد المغاربة بغرامة 500 أورو، وحرمانه من دخول الملاعب الرياضية لمدة سنتين، لا لشي، سوى لأنه حمل علم فلسطين في الدقائق الأخيرة من مباراة المغرب والعراق.

إن ما أوردته أعلاه لا يهدف إلى الإخبار في حد ذاته بمجموعة من الأرقام والمعطيات، بقدر ما يتوخى التنبيه إلى أن الرياضة أصبحت أكثر من أي وقت مضى، ميدانا خصبا للترويج للأفكار التي تخدم ثقافة وقيما بعينها، تحت غطاء أكذوبة فصل السياسة عن الرياضة، التي لا زال عدد كبير من الأغرار يصدقها، وبالتالي وجب أن نَعْلَم بأن تنظيم كأس العالم 2030 سوف لن يخلو من تمرير قيم معينة، ومما لا شك فيه أن إسبانيا والبرتغال ستعمل على ترويج ثقافتها وقيمها التي لا تهمنا بالقدر الذي تهمنا القيم التي سيُفتح لها المجال في المغرب، ومما لا شك فيه أيضا أن علمانيينا سيجدون كل المبررات الممكنة لدعم مشروعهم الذي يندرج ضمن ما يسمونه "قيما كونية"، خاصة تلك الموبقات التي تمتد من الإباحية في كل شيء إلى الشذوذ وإلى...ضدا على ثوابت الأمة المغربية، وقيمها الأصيلة المستمدة من الدين الإسلامي، الذي ينص الدستور على كونه دين المغرب والمغاربة.

من هنا كان لزاما على الطاقم المسؤول عن التحضير لهذه التظاهرة، ألا يغفل عن الجانب الثقافي والقيمي في خضم التحضير للجانب المادي على أهميته، من ملاعب وطرق، ووسائل التنقل، وأماكن المبيت... ولا شك أن معايشة تجربتي قطر وباريس قمينة بتوفير كل المعطيات اللازمة للحسم المبكر في النموذج الذي يرغب مسؤولونا الترويج له وإشاعته، أهو من فصيلة النموذج القطري، أم هو من فصيلة النموذج الفرنسي؟ ولعل المنطق، والمصلحة العليا للبلاد، بحكم انتماء المغاربة العقدي والثقافي، يقتضي أن يستمد تنظيمنا عناصره الأساس من تجربة قطر، وأن يتجنب كل الحيثيات التي قد تنزلق بنا إلى المخرجات القيمية التي أفرزها التنظيم الفرنسي.

قد يقول قائل بأن هذا الكلام سابق لأوانه، وأنه يجب التركيز على الجانب المادي، قبل التفكير في الثقافة والقيم، وأنا أقول بأن المادي والثقافي لا ينفصلان ما دامت السياسة تتحكم في كليهما بالكيفية التي تجعل المنشئات المادية تستجيب للمقتضيات القيمية والثقافية كما بدا ذلك واضحا في قطر وباريس.

ختاما وانطلاقا من التحولات التي يعرفها العالم، خاصة على مستوى الشعوب، لا يسعني إلا أن أستحضر المثل العربي المشهور "قد أعذر من أنذر" لأن ما قد يترب عن الدعوة والإشهار "للثقافة والقيم" التي تم الترويج لها في باريس قد لا تحمد عقباه، لأن كل المغاربة الذين يعتزون بقيمهم، وثوابتهم وهويتهم، سيرفضونها رفضا باتا، مما قد يخلق توترا وحزازات، نحن في غنا عنها، بينهم وبين أولئك العلمانيين الذين يريدون فرض توجههم على قلة عددهم، في مقابل أحاسيس الاعتزاز والافتخار في حالة الترويج للقيم الفطرية التي تنسجم مع القيم الإسلامية الرفيعة، مما سيسمح بتعزيز اللحمة الوطنية، بل والعربية والإسلامية، على غرار تلك الأحاسيس التي رافقت مجريات الأحداث بقطر على العموم، ومباريات الفريق الوطني المغربي على الخصوص. وهو ما يتطلب من الآن فصاعدا، القطع التدريجي مع ثقافة التفاهة، التي لا يزيدها تعميم المهرجانات، بمناسبة وبغيرها، إلا رسوخا يصعب الانفكاك منه، مع مرور الوقت، ومع حلول موعد كأس العالم 2030.

وسوم: العدد 1090