نهر يتدفق من كيرالا إلى غزّة

«لا تسألوا الأشجار عن اسمها

لا تسألوا الوديان عن أُمّها

من جبهتي ينشقّ سيف الضياء

ومن يدي ينبع ماء النهر

كل قلوب الناس… جنسيتي

فلتُسقطوا عني جواز السفر».

بهذه السطور من «جواز سفر»، قصيدة محمود درويش الشهيرة، في مجموعته «حبيبتي تنهض من نومها»، 1970؛ تستهلّ شيلا تومي روايتها «لا تسألوا النهر عن اسمه»، التي صدرت مؤخراً ترجمتها الإنكليزية، عن اللغة الماليالامية، الشائعة في مقاطعة كيرالا ومناطق أخرى شمال شرق الهند. وهذه هي روايتها الثانية بعد «فالي»، 2021، التي لقيت ترحاباً واسعاً مفاجئاً بعض الشيء بالنسبة إلى رواية أولى من كاتبة شابة تعتمد لغة محلية عالية الشاعرية، وتتناول موضوعات بيئية تخصّ مجموعة إثنية تنطبق عليها تماماً صفة الأقوام الأصلية. عملها الأوّل كان مجموعة قصص قصيرة بعنوان «كتاب فيضانات ميلكياديس»، 2012، ونال جوائز عديدة داخل بلادها وضمن أوساط جماعتها الإثنية في المهاجر أيضاً.

راث، بطلة «لا تسألوا النهر عن اسمه»، امرأة من كيرالا يُصاب زوجها بإعاقة فتجبرها ضرورات إعالة عائلتها إلى الهجرة ما وراء البحار؛ حيث تتقاذفها الأقدار بين صحراء الرياض في السعودية، ومتاهات البحث عن عمل في دبي، حتى تنتهي إلى الناصرة في فلسطين والعمل لدى أسرة إسرائيلية. وابتداء من هذه النقلة الحاسمة في جغرافية الرواية، تتركز الأحداث في مدينة القدس، فتتقاطع سلسلة مصائر فلسطينية مع أخرى إسرائيلية، وتكون راث هي حاضنة التناقضات والصراعات والدوامة البشرية والأخلاقية والسياسية والتاريخية في يافا وتل أبيب وبيت لحم وأماكن أخرى. وفي الفصل الأوّل، الذي يمثّل استباقاً سردياً لوقائع الترحال، تعود تومي إلى اقتباس الفقرة الختامية الشهيرة من قصيدة درويش «في القدس»، من مجموعة «لا تعتذر عما فعلت»، 2004:

«’وماذا بعد؟’

صاحتْ فجأة جنديّةٌ

‘هوَ أَنتَ ثانيةً؟ أَلم أَقتلْكْ؟’

قلتُ: قَتَلْتني… ونسيتُ، مثلك، أن أَموت».

سلسلة اعتبارات متنوعة، جغرافية ولغوية وتاريخية وفنية، تحثّ على التوقف عند هذا العمل الروائي؛ لعلّ أوّلها ذاك الذي يشير إلى أنّ تأثيرات حرب الإبادة الإسرائيلية ضدّ المدنيين الفلسطينيين من أطفال ونساء وشيوخ قطاع غزّة، وسائر فلسطين في الواقع، يمكن أن تتردد أصداؤها في أرجاء نائية من هذا العالم، مثل مقاطعة كيرالا، بعيداً عن مواطن التأثّر والتأثير المعتادة؛ سواء في الشرق الأوسط ذاته، أو في أوروبا، وحيثما يكتسب الصراع الفلسطيني ــ الإسرائيلي صفات أولوية شتى، جيو ــ سياسية واقتصادية وأمنية وإيديولوجية وأخلاقية. وصحيح أنّ اللغة التي تكتب بها تومي، الماليالامية، تظلّ محلية ضمن عائلة اللغات الآسيوية؛ إلا أنّ الناطقين بها تبلغ أعدادهم قرابة 36 مليون نسمة، وهي بين الأكثر شيوعاً لدى مجموعات العاملين في دول الخليج العربي من أصول هندية وآسيوية.

اعتبار ثانٍ، تاريخي، تستبطنه الرواية من خلال رصد شبكات الصراع المختلفة الدائرة في فلسطين اليوم، وبما يحيل مباشرة إلى وقائع 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023 وحرب الإبادة الإسرائيلية الراهنة؛ من وجهة نظر امرأة آسيوية تهاجر من بلدها بحثاً عن لقمة العيش، وتعمل مربية/ ممرّضة لدى أسرة إسرائيلية، وتلتقي بالفلسطينيين في أطوار شتى من الحياة اليومية تحت الاحتلال. وليست مصادفة أن يكون ربّ الأسرة اليهودي أكاديمياً من أصول عراقية، ومتعاطفاً مع الحقوق الفلسطينية؛ وأن تكون زوجته على النقيض تماماً، لجهة الحقد على الفلسطينيين عموماً، وعلى «حماس» خصوصاً.

اعتبار ثالث، يخصّ فنّ الرواية وطرائق التوظيف الشعري للغة السردية، هو أنّ تومي تتفادى بمهارة عالية إغواءات تحميل الشخوص رسائل سياسية مباشرة أو أيديولوجية مبطنة، أو حتى ذلك الطراز التمثيلي والترميزي الذي لا تخفى اشتغالاته الدلالية ضمن مسارات رحلة خروج شاقة حافلة، مركبة الحكاية مديدة الجغرافيا معقدة التواريخ، من شرق آسيا إلى شرق المتوسط. إغراءات أخرى نجحت تومي في تجنّب الانزلاق عليها هي مسائل شبكات تهريب اللاجئين، التي كانت بطلة الرواية ضحية لها؛ خاصة وأنّ تنويعات العذاب الإنساني التي ينطوي عليها ترحال اللاجئ من بيداء إلى بحر إلى معسكر لجوء، يمكن أن تتقاطع بسهولة مع عذابات الفلسطيني الراهنة في قطاع غزّة، أو حتى في أيّ مخيّم قديم يعود إلى ما بعد نكبة 1948 أو حديث العهد صنعته نكبات متلاحقة.

اعتبار رابع، فنّي بدوره، هو مجاهدة الروائية الشابة للإفلات ما وسعتها الحيلة من شراك سرد حكاية غير منفكّة عن تاريخ معاصر متفجر ودامٍ من جهة أولى؛ وتخفيف الضغوطات التي تمارسها الوقائع الفعلية على التخييل ورسم الشخصيات وبناء الخلفيات وضبط السرديات، من جهة ثانية؛ وضخّ ما يمكن من جرعات نزاهة، وبالتالي تنقية أنساق الافتعال، من جانب ساردة ليست ابنة المنطقة ولا اللغة ولا التاريخ المشترك، من جهة ثالثة.

وعلى أكثر من مستوى، وفي أكثر من سويّة، نجحت تومي في كتابة رواية رفيعة فنياً، نزيهة أخلاقياً، تنتمي إلى عصرها بمعنى الانحياز الإنساني الكوني الذي يتجاوز الجغرافيات والهمجيات، في آن معاً.

وسوم: العدد 1092