خطوة كريم خان الشجاعة

أن تصل الأمور إلى حد أن كريم خان المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية هو من يطلب بنفسه من قضاة المحكمة سرعة البت في مذكرات الاعتقال المطلوب إصدارها بحق مسؤولين إسرائيليين وفلسطينيين فذلك دليل على أن الأمر تطلّب من الوقت فعلا أكثر مما يجب.

كريم خان الذي قال في رسالته إلى القضاة الجمعة الماضية إن المحكمة تتمتع بالولاية القضائية للتحقيق مع الإسرائيليين، على عكس ما تسعى إلى ترويج عكسه دول غربية عديدة، اعتبر أن «أي تأخير غير مبرر في هذه الإجراءات يؤثر سلبا على حقوق الضحايا» مطالبا من القضاة رفض الطعون التي قدمتها عشرات الحكومات والأطراف الأخرى.

كان موقفا شجاعا من خان كذلك أن يرفض الحجج القانونية، أو بالأحرى التعلاّت، التي قدّمت على أساس أن أحكاما وردت في «اتفاقيات أوسلو» الموقعة بين الحكومة الإسرائيلية ومنظمة التحرير الفلسطينية عام 1993 وكذلك تأكيدات إسرائيل بأنها تجري تحقيقات تتعلّق بارتكابها جرائم حرب كفيلان بمنع إصدار تلك المذكّرات في حق كل من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير حربه يوآف غالنت.

ومع أن مذكّرات الاعتقال تشمل إلى جانب هذين المسؤولين كلاّ من الشهيد إسماعيل هنية الرئيس السابق للمكتب السياسي لحركة «حماس» ويحيى السنوار رئيسه الجديد ومحمد ضيف مسؤول جناحها المسلح «كتائب القسام» فإن القيامة لم تقم إلا بالنسبة للأوّلين على أساس أن الآخرين من الطبيعي تماما أن يكونوا مجرمي حرب، لكن الحقيقة العارية الآن هي أن هنيّة لم يعد موجودا، بعد أن أمر بقتله من كان يفترض أن يتوجّه معه للمثول أمام المحكمة، وأن الضيف قتل كما تقول إسرائيل نفسها، وأن السنوار متوار عن الأنظار فلم يشاهد أبدا من أشهر، على عكس كل من نتنياهو وغالنت اللذين يسافران هنا وهناك ويلتقيان بالوزراء والمسؤولين الغربيين في تل أبيب وفي الخارج وتجرى معهما المكالمات الهاتفية المطوّلة مع الرئيس بايدن ووزرائه، بل ويخطب أحدهما في الكونغرس فيقف له الحضور تصفيقا مطوّلا عشرات المرات وكأننا في كوريا الشمالية حين يخطب زعيمها.

الغريب في الأمر هو هذا الاستنفار الواسع من قبل كل الدول الغربية تقريبا، وبالأخص الولايات المتحدة، للتصدّي لمساعي كريم خان إلى حد تهديده بعد أن فشلت الضغوطات المختلفة عن ثنيه عما أقدم عليه، ولو متأخرا

وحتى إذا سايرنا جدلا منطق أن جميعهم مجرمو حرب، إسرائليين وفلسطينيين، فإن حجم جريمة إسرائيل لا تقاس أبدا بجريمة «حماس» فالإحصائيات الإسرائيلية نفسها تشير إلى أن الهجوم الذي شنته «حماس» على إسرائيل في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول تسبب في مقتل 1200 شخص واحتجاز نحو 250 رهينة، بينما أودت الحرب الوحشية التي تشنها إسرائيل منذ ذلك الحين على قطاع غزة بحياة أكثر من 40 ألف فلسطيني، عدا زهاء العشرة آلاف تحت الأنقاض وقرابة المائة ألف جريح، مع تدمير متعمّد لكل بنيتها التحتية المختلفة التي تهدف إلى جعل القطاع برمّته غير صالح للحياة، وهو ما استدعى بدوره رفع القضية إلى محكمة العدل الدولية ضد إسرائيل بتهمة الإبادة الجماعية.

وإذا كان من الطبيعي أن يرفض الإسرائيليون والفلسطينيون مذكرات الاعتقال الدولية، كل بمنطقه الخاص، وأن يقولوا إنهم لم يرتكبوا ما يستوجب ملاحقتهم أو إيقافهم، فإن الغريب في الأمر هو هذا الاستنفار الواسع من قبل كل الدول الغربية تقريبا، وبالأخص الولايات المتحدة، للتصدّي لمساعي كريم خان إلى حد تهديده بعد أن فشلت الضغوطات المختلفة عن ثنيه عما أقدم عليه، ولو متأخرا.

ومع أنه لا يوجد موعد نهائي للقضاة لاتخاذ قرار بشأن مذكرات الاعتقال، لكن ذلك لا ينفي شجاعة كريم خان ليس فقط في رفض ابتزازه وتهديده بعقوبات تشمله شخصيا وعائلته وكذلك المحكمة التي هو مدّعيها العام، بل أيضا في إقدامه على فضح هذا المنطق الانتهازي الأهوج للدول الغربية في التعامل مع العدالة الدولية وذلك حين كشف أن مسؤولا كبيرا غربيا، لم يذكره بالاسم، قال له ما معناه إن المحكمة الجنائية الدولية إنما وضعت لمحاكمة «الأوباش» من طينة الرئيس الروسي بوتين أو قيادات أخرى من إفريقيا وغيرها وليس لمحاكمة «علية القوم» في هذا العالم، وهو منطق مدمّر بالكامل لكل القانون الدولي الذي سنّه الغربيون أنفسهم بعد الحرب العالمية الثانية!!.

ثم إن كريم خان بقوله في رسالته للقضاة إن التأخير غير المبرر لهذا الإجراء سيؤثر على حقوق الضحايا في الأراضي الفلسطينية، ومطالبته الصريحة منهم برفض الالتماسات القانونية المقدمة إليهم بشأن مذكرات الاعتقال، إنما يضع كل الدول الغربية التي لا تمل من التغني بأنها رائدة في مجال حقوق الإنسان وقيم العدالة الدولية عارية أمام الجميع.

وقد لا يكون الأمر يحتاج أصلا لهذه الخطوة، حتى نقف ونراهم عرايا أمام هذه المرآة، فقد أقر مجلس النواب الأمريكي في يونيو/ حزيران الماضي مشروع قانون يسمح بفرض عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية، كما يفرض عقوبات على المحكمة إذا حققت أو حاكمت أشخاصا محميين من واشنطن أو حلفائها، بل ووقف رئيس هذا المجلس بكل صلافة ليعلن أنه من غير المسموح لأي هيئة دولية في هذا العالم أن تتجاوز تشريعات واشنطن وقراراتها لأن القبول بمذكرات توقيف إسرائيليين يعني أن تكون الخطوة المقبلة ضد الأمريكيين أنفسهم.

وسوم: العدد 1092